حصار قطر وصعودها الاقتصادي والسياسي

أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني (الجزيرة)

أدى صعود قطر الاقتصادي مع تغير القيادة السياسية في أواسط التسعينيات، إلى تعزيز استقلالية قطر السياسية، وهو ما شكل مصدر إزعاج للمملكة العربية السعودية ذات النزعة الموروثة نحو بسط الهيمنة وفرض التبعية السياسية على دول مجلس التعاون، ثم اتسعت الهوة بين الطرفين بشكل لم يسبق له مثيل بعد اندلاع ثورات الربيع العربي وتباين مواقفهما منها، ودعم قطر لتطلعات الشعوب في الحرية والكرامة والعيش الكريم.

 

وعلى عكس الموقف القطري من تلك الثورات، فقد تكون "حلف الحصار" بقيادة السعودية والإمارات اللتين رأتا في تلك الثورات تهديدا وجوديا لهما، وبدأ ذلك الحلف مسارين متوازيين لمواجهة ثورات الربيع العربي عبر ثورات مضادة ، وبمواجهة قطر عبر محاولة التحجيم وتغيير "سياسة النظام"، وبذلك يكبحون صعودها ويحدون من استقلاليتها ويضعونها تحت وصايتهم وإن استدعى ذلك استخدام القوة العسكرية.

ولتحقيق ذلك الهدف كان لابد من كسر قوة قطر الاقتصادية، سواء كان ذلك من خلال محاولة زعزعة استقرار العملة والاستقرار المالي والاقتصادي، بهدف زعزعة استقرار النظام أو إسقاطه، أو من خلال الحصار بشكله الأوسع بمحاولة تدمير كل ما يغذي صعود قطر من موارد ويرمز له من مظاهر قوة صلبة كانت أم ناعمة، اقتصادية كانت (كثروات قطر الطبيعية، واستثماراتها الخارجية، وخطوطها الجوية )، أم إعلامية (كقناة الجزيرة الفضائية)؛ رياضية أو رمزية، كتنظيم لقطر للبطولة الأهم على مستوى العالم لأول مرة في الشرق الأوسط  بِما لذلك من دلالات على قدرات قطر المالية والتنظيمية، ومستوى الثقة الذي نالته وتأثيرها العالمي.

القوة الاقتصادية تعزز الاستقلالية السياسية

 

تلعب القوة الاقتصادية دورا مهما في تعزيز الاستقلالية السياسية والقرار السيادي، والأمثلة على ذلك كثيرة. قارن مثلًا بين وضع قطر والبحرين؛ فالبحرين لا تستطيع الخروج عن العباءة السعودية، وجزء كبير من ذلك هو بسبب الضعف الاقتصادي والحاجة.

وتاريخيا، كان لقطر خط مميز عن جيرانها في علاقاتها الخارجية يتسم، منذ عهد المؤسس، بالمحافظة على علاقات متوازنة مع القوى الإقليمية والدولية في إطار التمسك بالثوابت العربية والإسلامية، وتعزز ذلك منذ أواسط التسعينات مع تغير القيادة في قطر بوصول سمو الأمير الوالد لسدة السلطة، وما واكب ذلك من صعود البلاد كقوة اقتصادية، مع ثورة الغاز الطبيعي المسال الذي تربعت على عرش صناعته عالميا، بالإضافة إلى طفرة النفط منذ بداية العقد الماضي.

أدى كل ذلك إلى تحولات هيكلية في الاقتصاد القطري، فارتفعت صادرات قطر ومداخيلها من مواردها الهيدروكربونية بشكل لم يسبق له مثيل، وأخذت في بناء احتياطياتها الأجنبية واستثماراتها الخارجية، وعلاقاتها الجيو-اقتصادية، وبنت اقتصادا قويا قادرا على الصمود في وجه الأزمات، وأصبحت الأعلى في دخل الفرد، والأسرع نموا في العالم. وبذلك فقد تزامن صعود قطر السياسي والاقتصادي.

استهدف حصار قطر أن يحد من ذلك كله، ولكنه أتى بنتائج عكسية. فعوضا عن أن يضعف الاقتصاد القطري، أدى إلى تقويته، وإلى الدفع نحو مزيد من الاعتماد على الذات، والتنويع بالضرورة (في الإنتاج والاستيراد والشركاء الاقتصاديين)، ومعالجة أوجه القصور والخلل، والحد من الانكشاف على دول الحصار، والانكشاف أكثر على دول العالم، وتقوية علاقات قطر الجيو-اقتصادية، والمضي قدما في بناء اقتصاد قوي بمعزل عن جيران لا يمكن الوثوق بهم لتجنب التعرض للصدمات وزعزعة الاستقرار الاقتصادي مستقبلًا.

هل كانت دول الحصار مهيأة لفرضه وهل كانت قطر مستعدة له؟

 

نستطيع القول إن دول الحصار لم تكن مهيأة لفرض حصار فعال على قطر نظرا لضعف التركيبة البنيوية لاقتصادات دول مجلس التعاون، وإن قطر كانت مستعدة تلقائيا لمواجهة الحصار نظراً لصلابة اقتصادها.

 

أولًا: الضعف البنيوي لاقتصادات دول الحصار

إن انكشاف الاقتصاد القطري على دول الحصار يبقى محدودا، بسبب فشل التكامل الاقتصادي بين دول مجلس التعاون الذي ظل يراوح مكانه لعقود. وسبب فشل التكامل الاقتصادي هو عدم توفر الإرادة السياسية لدى دول المجلس، وعدم تنوع الاقتصادات الخليجية. وفشل التنويع الاقتصادي هو أيضا بسبب عدم توفر الإرادة السياسية الجازمة على مستوى هذه الدول.

ولذلك فإن فشل التكامل الاقتصادي الخليجي، أفشل حصار قطر. إذ لا تتوفر لدول الحصار الأدوات الاقتصادية اللازمة لفرض حصار فعال على قطر، أو الضغط عليها، لا من خلال الحصار التجاري، ولا المالي، ولا الصناعي، ولا في مجال الطاقة، فلم يبق إلا الحصار الجوي والسياحي نظراً لظروف الجغرافيا، وتلك النقطتان الأخيرتان تتعامل معهما قطر بسياسات مضادة للحد من تأثيرهما.

 

السعودية أفشلت التكامل الصناعي وفي مجالي الطاقة والمواصلات، والإمارات تسببت في إفشال الاتحاد النقدي بانسحابها منه اعتراضا على اختيار الرياض مقراً للبنك المركزي الخليجي، وهكذا تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى

فالتجارة البينية بين دول المجلس ظلت ضعيفة وتراوح مكانها عند %10 لعدة عقود، بسبب فشل هذه الدول في تنويع اقتصاداتها. فهياكل الإنتاج فيها ضعيفة ومتشابهة، إذ يتخصص الجميع في استخراج نفس المورد (النفط)، وتصديره للعالم، ويستوردون في المقابل ما يحتاجون إليه من سلع استهلاكية ورأسمالية وعمالة، عبر البحار والأجواء الدولية المفتوحة. لذلك لا يوجد مجال هنا للضغط على قطر من خلال الحصار التجاري.

 

ونذكر هنا أن المملكة العربية السعودية أفشلت التكامل الاقتصادي الخليجي ولا سيما في مجالات الطاقة والصناعة والمواصلات، والإمارات تسببت في إفشال الاتحاد النقدي بانسحابها منه اعتراضا على اختيار الرياض مقراً للبنك المركزي الخليجي وليس دبي، وهكذا تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى. وبالتالي لا يوجد هنا مكاسب يمكن فقدانها، ولا خسائر يمكن تكبدها من جراء الحصار على الطرفين، ولا منظومات وحدوية (كاتحاد نقدي أو حول الطاقة مثلا) يخشى أن يؤدي انهيارها إلى زعزعة الاستقرار الاقتصادي في هذه الدول.  بل لوكان مثل هذه المنظومات قائما قبل الحصار، لربما شكلت موانع ضد فرضه في المقام الأول.

كانت هناك بعض التركزات في استيراد بعض المواد من أو عبر دول الحصار إلى قطر، كمنتجات الألبان والدواجن وبعض المنتجات الأخرى، ولكن كان يمكن سد هذه الثغرة بسهولة عبر الإنتاج محليا أو عبر الاستيراد من مصادر بديلة أو مصادرها الاصلية، وهذا ما حدث بالفعل.

 

ويبدو أن السعودية لن تسمح بتكامل اقتصادي لا تكون هي مصدر التحكم فيه، خشية أن يشكل ذلك مصدر منافسة أو تهديد لهيمنتها على دول المجلس الأخرى. ومن أمثلة ذلك، عرقلة التكامل في مجال المواصلات، بإفشال مد جسر بين قطر والبحرين، وقطع التواصل البري بين قطر والامارات، وفِي مجال الطاقة، برفض ربط دول المنطقة بمحطة توليد عملاقة للطاقة الكهربائية تزود بالغاز القطري، وعرقلة تسويق الغاز القطري على المستوى الخليجي، الذي أدى إلى فتح الأفق واسعا أمام تسويقه على المستوى العالمي. فأصبحت قطر عملاقا في الطاقة والمنتج والمصدر الأول للغاز الطبيعي المسال في العالم، إذ تمده بثلث احتياجاته منه.  فأصبح استقرار قطر مهما لإمدادات الطاقة ولاستقرار سوق الغاز العالمية، وللاستقرار والنمو في قوى اقتصادية وسياسية مؤثرة حول العالم.  فتأثير الدول وأهميتها لا يقاس دائما بالحجم.

ثانيا: صلابة الاقتصاد القطري

وهنا يمكن الإشارة إلى نوعين من السياسات أديا إلى فشل الحصار:

1. سياسات اقتصادية كلية سليمة قبل فرض الحصار

2. سياسات اقتصادية سليمة مضادة للحصار

 

السياسات المضادة للحصار

وللمزيد من الإيضاح فقد تبنت قطر نوعين من السياسات المضادة للحصار، الناجحة بامتياز بشهادة جهات دولية مستقلة:

 

١- سياسات في الأجل القصير لمواجهة أثر الصدمة وتعزيز استقرار قطاع الاستيراد والقطاع المالي، من خلال الدعم والتدخل المباشر وتحويل خطوط ومصادر الإمداد الى وجهات بديلة، وتوسعت الطاقات الاستيعابية لأغراض الأمن الغذائي والإمداد اللوجستي لضمان تدفق السلع بالأسعار المناسبة للمستهلك، والتدخل بضخ سيولة في القطاع المالي للتعويض عن خروج رؤوس الأموال ولتعزيز استقرار العملة والاستقرار المالي. وأدت تلك السياسات إلى مرونة أكبر في الاستيراد وتنوع أكثر في الإنتاج وانكشاف أكبر على العالم وأقل على دول الحصار، فأحبطت الحصار، وأدت إلى المزيد من القوة الاقتصادية ومن ثم إلى المزيد من الاستقلالية السياسية.

٢- سياسات على الأجل المتوسط إلى الطويل، تركزت حول تنويع الاستيراد والإنتاج وتقوية علاقات قطر الجيو-اقتصادية. ففي القطاعين الحقيقي والخارجي، تبنت قطر مجموعة من السياسات لدعم الإنتاج الزراعي والحيواني والصناعات الخفيفة وجذب السياحة والاستثمار، وتنويع الشركاء التجاريين، ومراكمة الاستثمارات الخارجية، وهي مستمرة في برامج البنى التحتية وكأس العالم وتنويع الاقتصاد، والتوسع في صناعة الغاز الطبيعي المسال لتعزيز حصتها السوقية والبقاء في الصدارة العالمية، ولدعم الاحتياطيات والثقة والنمو في الاقتصاد، ولتقوية علاقات قطر الجيو-اقتصادية، من خلال ربط صادراتها واستثماراتها بدول مؤثرة على الساحتين الاقتصادية والسياسية العالمية، لبناء علاقات على مصالح مشتركة مع هذه القوى.

ويبقى قطاعا النقل والسياحة الأكثر تضررا بالحصار نظرا لظروف الجغرافيا، وقد تبنت قطر سياسات لجذب السياحة ودخلت في شراكات مع بعض خطوط الطيران العالمية الاخرى.

 

 

هذه السياسات أدت إلى مرونة في الاستيراد وتنوع في الإنتاج وانكشاف أكبر على العالم وأقل على دول الحصار، كما أدت إلى المزيد من القوة الاقتصادية والاستقلالية السياسية

 

وجاءت أزمة كورونا كاختبار لقطر ما بعد الحصار، فأتى تدخل الحكومة سريعا وفِي الوقت المناسب، بتوفير حزم الدعم والإنقاذ لمواجهتها، وسيكون لهذا أثره في تعزيز الاستقرار الاقتصادي وسرعة التعافي بعد انحسار الوباء، كما أن الدولة صارت مهيأة بشكل أفضل لامتصاص صدمة كورونا، بفضل رفع كفاءة قطاعات، كالإمداد اللوجيستي والأمن الغذائي، والإنتاج الزراعي والحيواني، بالإضافة إلى الاستقرار النسبي لمداخيل الغاز الطبيعي. هذه العوامل أعطت قطر أفضلية نسبية على جيرانها في التصدي لجائحة كورونا والحد من آثارها على الاقتصاد والمجتمع، مع تحييد نسبة وعوامل تفشي الوباء جانبا. فحصار قطر كان صدمة لها جوانب إيجابية، منها أنه أعد قطر بشكل أفضل لإدارة الأزمات، وأدى إلى تفجير الطاقات الكامنة، من موارد بشرية وطبيعية.

 

سياسات اقتصادية كلية سليمة مبكرا قبل فرص الحصار بعقدين

 

تبنت قطر سياسات أسست لبنى إنتاجية وتحتية واستثمارية شكلت أذرع لكسر الحصار واقتصادا حقيقيا قادرا على امتصاص الصدمات؛ وذلك من خلال الاستثمار في:

1. بنى إنتاجية من خلال تأسيس أكبر بنية تحتية لإنتاج الغاز الطبيعي المسال في العالم، وهي مستمرة في التوسع بالبناء على ذلك، وشكل هذا مصدر دخل مستقر لقطر إلى حد مقبول خلال الأزمات السابقة وأزمة حصار قطر.

2. بنى تحتية (من شبكة اتصالات ومواصلات وموانئ بحرية وجوية وشركة طيران عملاقة) حديثة ومتطورة، تربط قطر بالعالم الخارجي وتساعدها على تجاوز الحصار والوصول إلى مصادر الاستيراد الأصلية والبديلة.

3. بنى استثمارية، لمراكمة واستثمار عوائد القطاع الهيدروكربوني وتنويعها اقتصاديا (عبر الأصول المالية والحقيقية، كالنفط والصناعة وغيرها)، لإدارة الأزمات والدورة الاقتصادية (لتعزيز الاستقرار الاقتصادي في أوقات الركود والأزمات)، ولتنويع مصادر الدخل وحفظ حقوق الأجيال، ولتقوية علاقات قطر الجيو-اقتصادية من خلال ربط صادراتها واستثماراتها بقوى مؤثرة عالميًا.

4. تبني سياسات احترازية كلية معاكسة للدورة المالية (متحفظة) لتحصين القطاع المالي مبكرا مع بداية الدورة النفطية، أوائل العقد الماضي، 2004-2003، وسياسة نقدية متشددة إبان فترة الأزمة المالية العالمية، وهذه السياسات حدت من تراكم الاختلالات في القطاع المالي وحصنته ضد الصدمات والأزمات المالية السابقة والراهنة.

 

هذه السياسات والبنى التحية تؤتي أكلها الآن وتشكل روافد لدعم استقرار واستمرار الاقتصاد القطري في وجه الحصار، وأدت الى المزيد من القوة الاقتصادية والاستقلالية السياسية.

 

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان