بيان وفاة "الدولة القوميّة العربيّة"

BLOGS - الحرب العالمية الثانية

عندما وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها اشترط الرئيس الأمريكي آنذاك وودرو ويلسون أن يكون تأسيس منظمة دولية "عصبة الأمم" شرط في معاهدة فرساي، وإذا كانت المهمة الظاهرة لعصبة الأمم هي تسوية النزاعات الدولية فإنها بالواقع كانت هذه المنظمة إعلان حقيقي لنهاية الدولة الإمبراطورية وولادة الدولة الحدودية، حيث أن الدولة الإمبراطورية حدودها أينما وصلت خيولها فإن الدولة الحدودية لا يحق لها التدخل في أمتار هي خارج ما رُسم لها من حدود، ومكان الترسيم المتفق عليه دولياً هو عصبة الأمم.

وإذا كان الحامل الرئيسي للدولة الإمبراطورية هو الدين فإن الدين لم يعد قادراً على أن يكون حاملاً للدولة الحدودية لتبدأ رحلة البحث عن حامل وليظهرمعالم إحدى الحاملين: حامل"الوطنية" والذي لم يقيد له أن يتبلور آنذاك ويتضح معالمه، وحامل"القومية" المعتمد على وحدة الدم وهو حامل سهل المعالم واضح الأواصر ضبابي الأبعاد، لكنه استشرى بين الجماهير في أصقاع الأرض على مختلف القوميات، وظهر له قادة أمثال هتلر وموسوليني، غير مبالين بأبعاد القومية المضادة بالكامل مع الدولة الحدودية، تلك الدولة التي يتجاوزها طرحهم القومي، إذ أنه لكل عرق امتدادات نحو شرق الحدود وغربها أينما كانت تلك الحدود وحيثما كانت هي الدولة،بمعنى آخر القومية هو مبدأ عابر للحدود، فانطلقت دبابات هتلر هنا وهناك تحاول إثبات تفوق عرقاً على الآخرين وتفرق دم إنسان بحد عرقه عن باقي الدماء البشرية، وتبعه في ذلك موسوليني ليؤدي صدام الحدود والقومية إلى حرب عالمية ثانية أشد تدميراً من الأولى وليكن أول دمار تحدثه هو انهيار عصبة الأمم.

فازت الحدود على وحدة الدم ليشتد عود الحامل الأول "الوطنية"، هذا الحامل الذي يعترف بالجغرافيا المحددة، اللغة الواحدة، اللباس الوطني الموحد، المنهج الدراسي الواحد، النشيد الوطني، وحتى الفريق الوطني مصدر فخر الدولة ودليل انتماء أبناء الوطن الواحد على إختلاف أعراقهم ودياناتهم.

آخر الإمبراطوريات كانت الإمبراطوريات الإسلامية المتتابعة من الحقبة الراشدية إلى الحقبة العثمانية

 

كان الغرب مسرح رئيسي لكل تلك المخاضات والولادات، وتأخر الشرق في استقبال وهضم كل هذه التغيرات حتى أن الشرق الناطق باللغة العربية لم يصله سقوط حامل الدم واشتداد عود الحامل الوطني متأثراً بعوامل داخلية وخارجية تاريخية وآنية، لتعمل حكومات الدول الناطقة باللغة العربية وهي حكومات وليدة لا تتقن صناعة حوامل ولا صنعة الحكم ولا حتى تكوين وطن، عملت هذه الحكومات على تأسيس منظومة سياسية أسمتها الدول العربية، وجعلت منظمة الجامعة العربية هي الناظم لهذا التيار السياسي، واصطلحت على مجموع دولها بالوطن العربي، ظهر قادة لهذا التيار، وظهر منظرين وأحزاب جميعهم تجاهل من ليسوا عرباً لكنهم يعيشون على أرض هذه الدول لقرون مضت.

كانت المنظومة السياسية المسماة بالوطن العربي بدون تاريخ سابق البته، إذ أن مجموع الدول الناطقة باللغة العربية كانت تابعة لدول إمبراطورية ذوات حوامل دينية، آخر هذه الإمبراطوريات كانت الإمبراطوريات الإسلامية المتتابعة من الحقبة الراشدية إلى الحقبة العثمانية. اختلط حامل الدم بحامل الدين، وصعب على منظري القومية العربية موضعة الإسلام من الهوية العربية، إذ أن غالب الشعوب الناطقة باللغة العربية يدينون بالإسلام، وغالبية المسلمين هم على المذهب السني، والمشكلة أن الكثير من القوميات الأخرى والبارزة على الساحات السياسية الوليدة تدين بالإسلام بل وتنتهج المذهب السني وأهم هذه القوميات من الناحية السياسية هي القومية التركية، فالإسلام السني هو المسيطر الأكبر على الهوية الدينية للقوميتين العربية والتركية، بيد أن الإنتماء السياسي للعرب السنة في ذلك الوقت هو للأستانة اي لإسطنبول وليس إلى المدينة المنورة أو دمشق أو بغداد وربما القبلة السياسية للمسيحين الناطقين باللغة العربية هي الغرب وليست دمشق أو بغداد أو القاهرة، وهو ما أشكل على المنظومة السياسية العربية، فبات منظروا القومية العربية يخشون اضطراب الهويات واضطراب الخطاب.

كانت للحكومات الوليدة في الدولة الناطقة باللغة العربية مصالح محلية ومصالح دولية في تبني القومية العربية، وفي ذات الوقت تحتاج الى حامل إسلامي مغاير لمرجعية الأستانة الدينية ذات الأسلام الصوفي، فتبنت السياسة القومية العربية والإسلام السني السلفي، ليصبح الاسلام السني الصوفي دين المسلمين السنة من غير العرب ودين الاسلام السلفي دين للسنة العرب، قاصدين صرف نظر سكان المنظومة السياسية الوليدة المسمى بالوطن العربي عن الأستانة، ليشارك في صرف النظر هذا افتقاد الآستانة لأن تكون قبلة سياسية أصلاً فالسياسة في تركيا تحولت الى أنقرة..!

رأى منظري القومية العربية في الدول الناطقة باللغة العربية والمولودة حديثاً ضالتهم، وبات عليهم صناعة قبلة للقومية العربية ..! فكانت القاهرة قبلة العرب مسلمهم ومسيحيهم سنيهم وشيعيهم كاثوليكياً كان أم ارثوذكياً أو بروتستنتياً. وبات على المسلمين السنة العرب صناعة قبلة أخرى لبلورة نظريتهم السلفية التي تبدع الصوفية الأعجمية إلى حد جعلهم أغيار، وتبشر بالسلفية تلك المنظومة السياسية التي يكون للعرب القرشين الحق في قيادتها. ورأت منظومة الوطن العربي السياسية ضالتهم في هذه النظرية فحاولت على طول مئة عام صناعة قبلة لهذه النظرية السلفية لتتكامل مع القبلة القومية.

حصل الإنفصام القومي العربي – لا عربي وبالذات التركي، والإنفصام الديني الصوفي – السلفي محققاً كل مصالح الدول الإستعمارية ابتدأً من إنكلترا إلى فرنسا مروراً بأمريكا وانتهاءً بإسرائيل، ومضحياً بكل مصالح المنطقة فكانت معاهدة سيفرومعاهدة لوزان في الجانب التركي من المنطقة. وفي الجانب العربي منها كانت المصائب تتوالى من نكبة 1948 و عدوان 1956 ونكسة 1967 إلى انفصال اليمن وحرب لبنان الأهلية لتصل المنطقة إلى حروب الخليج الثلاث مروراً بحصار ليبيا. ولم تكن هذه إلا نقاط علام لمصائب الجانب العربي من المنطقة حيث لم ينعم هذا الجانب بأي نجاح يُذكر طيلة قرن من الزمن في الوقت الذي استطاع الجانب التركي من المنطقة تجاوز الكثير من أزماته وصناعة خطوات حقيقية في طريق النجاح الحضاري.

 

فشلت المنظومة السياسية العربية ومنظمتها الرئيسية "الجامعة العربية" في تحقيق أي إنجاز يذكر، لا على المستوى السياسي سواء وحدة أو فيدرالية أو كونفدرالية عربية

 

في الوقت الذي حقق فيه الجانب التركي من المنطقة نجاحات على جميع الأصعدة السياسية منها ابتداءً من صياغة الهوية الوطنية إلى تحقيق قدر كبير من الديموقراطية والحريات العامة، وفي العلاقات الدولية تحالفات متوازنة فاعلة سواء في الحلف الأطلسي أو في الأحلاف الأخرى. واقتصادياً حصل الجانب التركي من المنطقة بتنمية اقتصادية كبيرة واستقرار واستقلالية في غاية الأهمية وكذلك على الصعيد العسكري فقد حقق الجانب التركي تقدماً مدهشاً بالصناعات العسكرية، وصاغ جيشاً له هيبته على المستوى الدولي ولم يعد له تداخلاً على المسرح السياسي الداخلي.

في هذه الأثناء وبذات الحقبة الزمنية فشلت المنظومة السياسية العربية ومنظمتها الرئيسية "الجامعة العربية" في تحقيق أي إنجاز يذكر، لا على المستوى السياسي سواء وحدة أو فيدرالية أو كونفدرالية عربية، ولا على المستوى الإقتصادي تكامل أو تجارة بينية أو عملة موحدة، ولا حتى على المستوى الأمني إذ أن الغزو الفارسي حقق تقدماً واضحاً في لبنان والعراق وسوريا واليمن ولا زال يتغول يوماً بعد يوم على الجانب العربي من المنطقة، وبقيت جيوش البلدان العربية تصنع السياسة وتشكل السلطة الحاكمة وتحرس العروش لا الحدود.

وعلى ماهو واضح من بون واسع بين ماحققه الجانب التركي من نجاحات وما حققه الجانب العربي من هزائم تحاول هذه المنظومة العربية إعادة طرح نفسها كحل في المنطقة متخلية عن حاملها السلفي الذي سبب في شقه الجهادي إشكالاً دولياً مرفوض تماماً، وشكل في شقه العلمي إشكالاً داخلياً، حيث شكلت السلفية العلمية حالة من الإنفتاح والتفاعل الحضاري مع ثقافات المنطقة، مما دفع الجهات الأمنية في المنطقة إعتبار السلفية العلمية وروادها أعداء يستحقون المنافي والسجون والتغييب.

رفضت المنظومة العربية تشكيل محور عربي – تركي يحمل كل مقومات النجاح السياسي والثقافي فكانت الطرف الخاسر لمعركة تلو الأخرى امام المحور الفارسي.

لقد انتهت الأحلاف السياسية المولودة إبان الحرب العالمية الثانية من حلف وارسو إلى حلف دول عدم الإنحياز، وأعتقد أن الحلف السياسي المسمى بالوطن العربي وكل الأحلاف الفرعية الناتجة عنه لم يعودوا مؤهلين للمرحلة القادمة ولم يعودوا قادرين على تحقيق تقدم على أي صعيد اقتصادي كان أم اجتماعي أم سياسي.

 

الثورة التقنية التي إجتاحت الكرة الأرضية منذ عقود قريبة قد حطمت أسس الدولة الوطنية

وفي الجانب التركي من المنطقة عبر الجمهورية التركية المتماهية مع الحالة الحدودية للدولة الحديثة وبحاملها الإسلام الصوفي شكلت منارة حضارية هامة، هذا في الوقت الذي مازالت المنطقة بجانبها العربي تعاني من تخبطات وحالات فشل لا تخفى على الأعين المجردة، وما يمر به العالم من تغيرات جوهرية سواء على مستوى النظام الدولي أو على طبيعة الدولة الوطنية يشكل فرصة تاريخية لكل صاحب نية صادقة اتجاه شعوب المنطقة بجميع أديانها ومذاهبها وقومياتها، مفكراً كان أو سياسياً فرداً كان أو حزباً أو حتى جماعة أو تياراً أن يهتدي بتلك المنارة مقدماً طروحات قادرة على إخراج المنطقة من أزماتها وتشكيل فضاءً حضارياً يحقق الإستقلالية لدول المنطقة، وتكاملية فيما بينها مقدماً لشعوب المنطقة مستقبلاً يحمل مقومات الإستقرار والتنمية،. وأما من يحاول إعادة استخدام الدولة الوطنية بطبيعتها الحالية متمسكاً بأحلاف سياسية فقدت كل أبعادها المستقبلية فإنه يطيل من أمد النزاعات والتخبطات التي تمر ببلدان المنطقة، ويكون شريكا في إطالة عذابات شعوبها.

لا شك ان الثورة التقنية التي إجتاحت الكرة الأرضية منذ عقود قريبة قد حطمت أسس الدولة الوطنية، وحمَّلتها أعباء تنوء بها كل أسس الدولة الوطنية، لذلك فإنها لم تعد مؤهلة للقيام بأعباء القرن الواحد والعشرين ممررة المهمة الصعبة لدولة اصطلح عليها بالدولة  "ما بعد وطنية" أو بمصطلح أكثر صحة "الدولة الثقافية" ودواعم هذه الدولة هو التحالفات الإقليمة المتعددة القوميات واللغات والأديان لكن الحامل الرئيسي لهذه التحافات الثقافة المشتركة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.