علامة استفهام (14): أحبابنا الذين رحلوا.. هل تلاحقنا أرواحهم؟

blogs الموت

(1)

أعرف الشوق والوجد، أعرف ما يمكن أن تفسر به ما سأخبرك به الآن، وأعرف أنك ستزعم أن المرء يتخيل أموراً وهي ليست بحقيقة، لكن بالنسبة لي كان الأمر حقيقة، لقد زارتني يومها في مسكني بسراييفو، ما إن فتحت الباب حتى تأكدت أنها موجودة، كمن يعرف أن قريباً له قد حل في المكان من أثر ما من آثاره، أسرعت وتوضأت وصليت، وجلست على سجادتي فترة، ناديتها باسمها، هي هنا، هي هنا، كنت أحدث نفسي، ثم شرعت في الدعاء لها، رحم الله أختي.

(2)

أول مرة دخلت فيها مقبرة كنت في زهاء السابعة من عمري، وربما أصغر من ذلك، سبق ذلك جدل لم أفهمه بين والديَّ، كأنه كان حول تأثير ذلك على طفل في عمري، ذهبت مع أبي، وفي الطريق شرح لي أمر الموت، وصلنا المقبرة، أمسكت بيده، بل أطبقت عليها، رجال كثر يقفون خارج غرفة كبيرة، تصدر منها أصوات الفؤوس، والله ما زالت في أذنيّ حتى الآن، استفهمت، شرح والدي أنهم يحفرون الأرض لدفن الميت.

كيف سأترك والدي الذي أكنّ له احتراماً عظيماً تحت الأرض، كنت أشعر بأنني أخونه

بسيوني زميلي في الجامعة بالإسكندرية، هو وحيد والديه اللذين يعملان في أبوظبي، كان شاباً وسيماً مهذباً، مهووساً بقيادة الدرجات البخارية، في الصيف ذهب لزيارة عائلته، واشترى له والده وهو المدلل واحدة فاخرة، بها لقي حتفه بينما كان يقود بسرعة جنونية، استغرق الأمر مني مدة طويلة حتى أستوعب أن صديقي وزميل الدراسة الذي كنا نحتسي الشاي معاً ونمزح معاً ونحضر المحاضرات معاً، ونشاكس بعضنا بعضاً، هو الآن تحت التراب.

أحمد يونس صديق العمر الأقرب، ودعته حياً في السويس، وما إن عدت إلى الإسكندرية حتى أبلغوني بوفاته في حادثة، أصابتني الصدمة ولم أصدق، وتجرأت واتهمت الرجل العجوز الذي جاء يبلغني بالخبر فجراً بأنه مخمور، حضرت جنازته وطوال طريق العودة من السويس إلى الإسكندرية كان كل ما يدور في بالي أنني سألتقيه في الغد وأحكي له تفاصيل ما جرى، بعيداً عن كل مشاعر الحزن، بعيداً عن البكاء والعويل، كان من الصعب التصديق بأنه هكذا رحل فجأة.

توفي والدي بين يدي، كنت أحتضنه وهو يحتضر وأقرأ الشهادتين، كانت أول حالة وفاة في عائلتي الصغيرة، اهتززت بشدة، عندما حل المساء انتابتني مشاعر غريبة، كيف سأترك والدي الذي أكنّ له احتراماً عظيماً تحت الأرض، كنت أشعر بأنني أخونه.

(3)

مهما كان أمر الفراق صعباً، واكتوينا به كياً، فإن الأصعب منه هو ما يقع عندما لا نستطيع أن نودع حبيبنا، أو نحضر طقوس الرحيل، عادة أنت لا تصدق بأمر الوفاة إلا إذا كنت حاضراً، تتلقى العزاء أو تقدمه، تصلي، تحضر الدفن، تبقى اليوم وحولك من يحبونك ويحبون من رحل، تتساءلون كيف وقع ما قع، تتبادلون التفاصيل، هذه الأمور كلها لها فعل السحر في تهدئة النفس ونزول السكينة، أما إذا كنت لسبب ما بعيداً تستحيل مشاركتك، فإن تلك هي المصيبة الأكبر، واسأل المجرب.

بقيت عاماً كاملاً بعد وفاة والدتي وأنا لا أصدق رحيلها، كدت فيه أجن، بدأت أدعو الله مع دعائي لها بالرحمة أن أصدق أنا الأمر، أن أعترف بيني وبين نفسي بأنها لن تكون في انتظاري حين أعود، وأنها لن تعد القهوة لي ولن تسمع حكاياتي، وكأن الله استجاب فصدقت وهدأت.

 

(4)

الموت هو الحقيقة الوحيدة التي يعترف بها الجميع، ويجمع عليها أهل الأرض، لكنه عندما يقع نتعامل معه وكأنه يحدث لأول مرة، وكأنه أمر جديد في حياتنا، والأدهى، وعلى رغم اعترافنا بأنه مصيرنا جميعاً، فإننا داخلياً نتعامل معه وكأنه أمر يحدث للآخرين وليس لنا، شيء ما بداخلنا ينكر ذلك، أو بالأحرى يستبعده، حتى ونحن كبار في السن، إمام المسجد كان يحدثنا عن جاره بأعوامه السبعين وهو ينصحه بزيارة المسجد والعمل لآخرته، والرجل يقول له أن مازال في العمر بقية، وأن له أصدقاء قد بلغوا التسعين أو كادوا، أطلق لنفسك العنان وتخيل ماذا سيحدث لسلوكنا اليومي لو أننا لم نكتف بالقول بل اقتنعنا من داخلنا بأن الموت قريب منا فعلاً في أي لحظة مهما كانت أعمارنا.

 

(5)

لكن لم تجبني، هل يعود أحبابنا الراحلون فيلاحقوننا؟

 

لا يمكن للمرء أن يجزم بأمر الروح وما يحدث لها بعد أن تغادر الجسد باعتبار أن "علمها عند ربي"، لكن يمكن الاستئناس بما قاله ابن القيم من أن أرواح المؤمنين عند اللَّه في الجنّة، إذا لم يحبسهم عن الجنة كبيرة، ولا دَين، وتلقّاهم ربهم بالعفو عنهم، والرحمة لهم، واستشهد أيضاً بما قاله مالك من أن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت.

إن مجرد شعورنا بأنهم على مقربة منا يمنحنا قوة غير عادية، إنهم سندنا ووجودهم بالقرب منا يشعرنا بالاطمئنان، لنمضي في الحياة إلى أن نلتقيهم مرة أخرى.

وإذا كنا لا نستطيع أن نجزم بأمر، فقد يكون بوسعنا أن نطلق خيالنا، فنتصور أرواح أحبابنا وقد عادت تطوف حولنا، نقبل فكرة تخاطب الأرواح، نتذكر أنهم حتى عندما كانوا أحياء لم نهتم بردائهم، أقصد لم نهتم بهذا اللحم وهذه العظام، في الحقيقة كانت أرواحنا تحب أرواحهم، كان الحديث بين الأرواح، فلم لا نكرر الأمر ذاته.

إن مجرد شعورنا بأنهم على مقربة منا يمنحنا قوة غير عادية، إنهم سندنا ووجودهم بالقرب منا يشعرنا بالاطمئنان، لنمضي في الحياة إلى أن نلتقيهم مرة أخرى.

لكن الأمر جد صعب إذا كنا من الذين أسرفوا على أنفسهم حزناً، وتوقفت حياتهم بعد رحيل أحبائهم، ترى كيف ستجدنا أرواحهم، هل سيعتبرون انهيارنا وفاء لهم، أم خيانة للعهد الذي قطعناه معهم عندما كانوا أحياء، أن نكون على ما يرام وأن نحقق الأهداف التي كانوا يرجون لنا أن نحققها عندما كانوا بين ظهرانينا.

الذين يؤمنون بالغيب، يؤمنون بالغيب، العالم الذي لا نعلم عنه شيئاً، نحن البشر المخلوقين من الطين، أما الروح فربما هي من يشعر.

تخيل أن روح حبيبك الراحل تأتي لزيارتك من حين لآخر، كن عند الحالة التي كان يتمناها لك، لا تكسر خاطره، ادع له كل حين بالرحمة، لا تدع الأمر ينحصر في كلمات تتلوها بلسانك، تمثل معانيها، تتوسل من الرحمن الرحمة له، ثم اهتم بروحك، دعها دائماً جميلة وأنيقة وزاهية، فقد تلتقي الأرواح في أي لحظة.

 

 

 

 

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.