التناقض بين الأخلاقي والسياسي لدى حركات المقاومة الفلسطينية

10. مهرجان انطلاقة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) الحادي والثلاثين. (مصدر الصورة: مجموعة انطلاقة حماس 31 الإعلامية على الواتساب).

قبل أيام توفي الأمين العام السابق لحركة الجهاد الإسلامي الدكتور رمضان عبد الله شلح، بعد غيبوبة دامت نحو سنتين. كان -رحمه الله تعالى- قد زار الدوحة في أغسطس/آب 2011 واتصل بي فوجدني في القاهرة، دار الحديث بيننا هاتفيًّا حول موقف حركة الجهاد الإسلامي من الثورة السورية، وأنها تعتبرها "شأنًا داخليًّا"، ومن ثم فقد آثرت الصمت؛ رغم أن النظام السوري -كما أفادني- مستاء من صمتها ولا يحتمله أيضًا.

في ذلك الوقت المبكر أفشى لي بمعلومة وهي أن النظام السوري قد أعدّ نفسه "لمعركة طويلة النفَس"، وأن أمام السوريين معركة طويلة. قلت له: من المؤكد أنك تلتقي بالقيادات الأمنية في سوريا، فإلى أي مدى يسكن البعد الطائفي عقولَهم؟ فأجاب: "مئة بالمئة"، ثم أردف قائلاً: على السوريين أن يبقوا "في مربع السلمية، فإذا وقع تدخل دولي فلن نستطيع البقاء صامتين".

تذكرت هذا الحوار حين تلقيت خبر وفاة القيادي والمناضل الفلسطيني والأكاديمي والمثقف الذي يعشق الشعر وكان ينظمه في شبابه، وكان قد أودع قصائده لدى صديق فأحرقها هذا الأخير لاحقًا خوفًا من الاحتلال!

 

ثورات الربيع العربي عامةً وفي سوريا خاصةً وضعت حركات المقاومة الفلسطينية أمام إشكال أخلاقي يتمثل في تحديد موقف مما يجري

يعيدنا الحوار السابق إلى مسألة معقدة ومتشعبة في آن واحد، وهي إشكالية العلاقة بين السياسة والأخلاق. فمن الشائع أن حماس تتسم بطابع براغماتي شأن تنظيم الإخوان عامةً، في حين أن حركة الجهاد يغلب عليها الطابع العقائدي، وهو العنصر الذي كان حجر الأساس في إنشائها، والسببَ الذي لأجله افترق مؤسسها الدكتور فتحي الشقاقي عن الإخوان أواخر السبعينيات بعد أن كان منهم. كان الإخوان الفلسطينيون يرون أن الأولوية للتربية والإعداد النفسي والمادي، في حين رأى الشقاقي وشلح أن الأولوية للمقاومة العسكرية للاحتلال. ورغم أن سياسة حماس تغيرت فيما بعد، إذ انخرطت في المقاومة العسكرية، لكن لم يغير هذا من العلاقة بين الحركتين.

وقد عبر شلح أكثر من مرة عن رؤية حركة الجهاد وأيديولوجيتها (لم يكن يرى عيبًا في كلمة أيديولوجيا)، وقال في حوار مع الجزيرة سنة 2003: نحن "نؤدي واجبنا وتكليفنا الشرعي، ولا يمكن أن نختار نهجًا يتوقف على حسابات الربح والخسارة أو الضرر الذي يمكن أن يعود علينا شخصيًّا من هذا الانتماء"، فالحركة -بحسب تعريفه- "حركة مقاتِلة، وليست حركة سياسية في زواريب المفاوضات والتكتكة في الظلام الدامس مع القوى الأجنبية". فـ"حركة الجهاد الإسلامي رسالتها أن تقاتل، وهذا تكليف شرعيٌّ؛ لأن الجهاد في فلسطين -جهاد العدو- فرض عين بالنسبة لنا كالصلاة والصيام".

ولكن ثورات الربيع العربي عامةً وفي سوريا خاصةً وضعت حركات المقاومة الفلسطينية أمام إشكال أخلاقي يتمثل في تحديد موقف مما يجري. وهنا سيضطر الجميع إلى مغادرة الأيديولوجيا وممارسة السياسة المتمثلة في الموازنة بين المصالح والمفاسد وحساب المكاسب والأضرار.

والمزاوجة بين الأيديولوجيا والسياسة شأنٌ لا مفر منه، فكيف يمكن قيام حركة أو تنظيم في عالم اليوم من دون امتلاك قدرات وتوفر إمكانات (تقدمها دول)؟ ومن ثم يغدو السؤال: كيف يمكن الموازنة بين مصادر الدعم من جهة، وتحقيق المشروع/الأيديولوجيا من جهة أخرى؟ أي أنه لا مفر من إقامة توازنات وصلات لضمان الوجود أولاً ولتحقيق المشروع ثانيًا، ومن ثم فلا وجود لحركة أو تنظيم أيديولوجي صِرف من دون ممارسة قدر (يضيق أو يتسع) من البراغماتية، وهو ما يفرضه مفهوم "الحركة" التي تعني عقد الصلات وممارسة دور أو القيام بفعل، ومن طبيعة الفعل أن يشتبك مع أطراف أخرى وينخرط في تصنيفات للصديق والحليف والعدو.

 

المعيارية الأخلاقية لا تتوفر في قضية دعم فلسطين أو ما سمي "محور المقاومة"؛ لأن هذا الدعم قد يكون مجرد رطانة لفظيّة، أو مكسب سياسي

إلا أن الإشكال المعقد هنا يتمثل في أن هذه الحركات إن أيدت الثورة خسرت داعميها الرئيسيين إيران ونظام الأسد، وإن اتخذت موقفًا إيجابيًّا من سياساتهما وأفعالهما فستكون في مأزق أخلاقي أمام الشعب؛ فكيف سيتم تسويغ هذا الموقف سياسيًّا وأخلاقيًّا؟

أسست حركتا الجهاد وحماس عملَهما على أساس أنهما حركتان فلسطينيتان، مما يعني أن "الفلسطينية" هنا تشتمل على معنيين: الأول: الهدف والمشروع، ومن ثم إضفاء شرعية على عملهما، والتحالف مع كل من يتفق معهما في هذا الهدف بوصفه معيارًا للحكم والتمييز بين المواقف، وبيان ما هو مشروع أو غير مشروع. والثاني: أن نطاق عملهما هو أرض فلسطين حصرًا.

ولكن هل يصلح هذا الأساس معيارًا أخلاقيًّا؟ من المؤكد أنه مبدأ سياسي يقوم على اعتبارات تتصل بالأيديولوجيا التي قامت عليها هذه الحركات نفسها، وبتعقيدات الواقع وإكراهاته التي تفرض نفسها على أي نشاط سياسي أو عسكري في عالم اليوم (دول، حدود، تحالفات، …). أي أنه ليس معيارًا أخلاقيًّا، بمعنى أنه -وحده- ليس كافيًا لتحديد ما هو صح وخطأ، فضلاً عن أن يتحول إلى مبدأ مطلق صالح لتسويغ كل الأفعال الأخرى وقياس مدى أخلاقيتها بالقرب والبعد عنه، مع أن دعم قضية تحرير فلسطين مسألة أخلاقية لا شك فيها.

فالمعيارية الأخلاقية لا تتوفر في قضية دعم فلسطين أو ما سمي "محور المقاومة"؛ لأن هذا الدعم قد يكون مجرد رطانة لفظيّة، أو مكسب سياسي، أو لأغراض وظيفية محددة للداعم نفسه، من دون أن يعود ذلك بأي نتيجة إيجابية على المبدأ نفسه الذي هو مبدأ سياسي في الأساس وإن انطوى على قيمة أخلاقية.

ومن هنا نجد أن الفقه الإسلامي ينطوي على براغماتية واضحة في حقل التطبيق العملي للأحكام، فالأحكام الشرعية تنقسم إلى أحكام تكليفية وأحكام وضعية، وذلك أن كل حكم تكليفي (واجب، محرم، مندوب…) لا بد من إيقاعه في سياق محدد ومن خلال شخص محدد. وفي لحظة الانتقال من الحكم المجرد (كالواجب مثلاً) إلى الفعل المعيَّن (في حالة زيد أو عمرو مثلاً)، سيكون علينا النظر في اعتبارات متعددة تتصل بإمكانات الفاعل وبتعقيدات السياق الذي يتنزل فيه الفعل (السبب، الشرط، المانع، …)، ومن ثم فإن تشبيه "شلح" قضية تحرير فلسطين بفريضة الصلاة والصيام صحيحٌ من جهة، ولكنه مشكلٌ من جهة أخرى، وذلك أن فريضة الصلاة إنما تتحقق بحسب الزمان والمكان والأشخاص والإمكان، وهي كلها عائدة إلى الأحكام الوضعية.

فصحيح أن الصلاة لا تسقط فرضيتها بحالٍ من الأحوال، ولكن أحكامها تتنوع ما بين أداء، وقضاء، وجَمع، وقَصر، والصلاة واقفًا أو قاعدًا أو راكبًا، بل حتى الصلاة بالعيون فقط في حالة العجز التام. أي أن إطلاقية المبدأ ليست إطلاقية مغلقة حين ننتقل من المجرد إلى حيز التنزيل والتنفيذ، ومن هنا اكتسب الفقه الإسلامي خصيصته المركزية وهي أنه "عملي"، يوازن بين معيارية المبدأ أو الحكم المجرد وبين تطبيقاته المتعددة التي تندرج في زمان ومكان محددين، ومن ثم تكتسب هذه التطبيقات أحكامًا عملية تتناسب مع تعقيدات كل موقف وحالة.

إن معيار "الفلسطينية" لا يصلح معيارًا أخلاقيًّا بناء على ما سبق، وينطوي على تناقضات داخلية تتمثل في أمور:

الأول: أن حركة المقاومة (سواءٌ الجهاد أم حماس) تعتمد على الدعم الخارجيّ، ومن ثم تخضع إدارة هذه العلاقة بالداعم الخارجي لجملة من التوازنات والحسابات، مما يعني أن الحركة الفلسطينية أصبحت جزءًا من المعادلة الخارجية، وأن محدِّدات الداعم الخارجي ومصالحه تفرض بعض القيود والاعتبارات على حركة الفاعل الفلسطيني وتقويماته الأخلاقية لما يجري. وهذا يعني أن بين الداخل والخارج علاقة معقدة، وأن هذه التعقيدات ستؤثر على إطلاقية معيار "الفلسطينية"؛ لأنه سيصبح متنوعًا بحسب موازنات كل حركة على حدة، وسيجد الفلسطيني نفسه أمام تنزلات المعيار -الذي يعتبره مطلقًا- في واقع معقد، وأمام حسابات سيزن فيها المصالح والمفاسد وفق منظور أيديولوجيته هو، وكل هذه الحسابات لا تخضع فقط إلى اعتبارات أخلاقية بل إلى اعتبارات سياسية وبراغماتية قد تخص الحركة فقط أو فلسطين عامة.

التناقض الداخلي الثاني: هو أن معيار الفلسطينية إنما يخضع لمنطق الدولة القطرية (فكرة الوطنية)، ولكنه في الوقت الذي يعبر فيه عن موقف وطني داخلي، يطلب من الآخرين دعم قضيته "الوطنية" على أنها قضية متجاوزة للوطني إلى الإسلامي! أي أنه وقع مجددًا في مأزق ازدواجية تعريف دوره وتحديد واجباته الداخلية والخارجية، فهو سيصطدم -لا شك- مع السوري المنخرط في حركة تحرر وطني من الاستبداد، وهنا سيصبح الفعل الوطني الفلسطيني -وفق منظور حركة المقاومة- معارضًا للفعل الوطني السوري. وهنا قد يلجأ المناضل الفلسطيني إلى المفاضلة بين فعل التحرر من الاستعمار وفعل التحرر من الاستبداد، وسننتقل إلى جدل من نوع آخر؛ إذ لا يصح الاحتجاج بالتكليف الشرعي فقط في واجب التحرر من الاحتلال دون التكليف الشرعي في التحرر من الاستبداد والطغيان.

التناقض الثالث: يتمثل في الحجة التي تُقَدَّم عادة من أطراف عدة (وليس فقط حركات المقاومة بل بعض اليسار المحسوب على خط المقاومة)، وهي مركزية القضية الفلسطينية وأولويتها. ولكن السؤال هنا: هل هذه الأولوية وطنية أم إسلامية؟ فإن كانت وطنية اتسق خطاب هذه الحركات ذاتيًّا، وإن كانت إسلامية فمعنى ذلك أننا سنقع في تناقض جديد ينطوي عليه معيار "الفلسطينية"، وذلك أن الأولوية للسوري ستختلف عن الأولوية للفلسطيني، بل إن الإشكال سيتفاقم حين تدعم حركات المقاومة هذه النظامين في إيران وسوريا ضد الشعب الثائر على إجرامهما (في حالة إيران المسألة تشمل دولاً عدة)؛ لأننا سنغادر هنا فكرة "المركزية" إلى خيار "إما أو"، وهو خيار سيطعن في أخلاقية القضيتين معًا: التحرر من الاستبداد والتحرر من الاحتلال. فكيف يمكن إضفاء طابع أخلاقي على قضية تحرر وطني فلسطيني بدعم استعباد شعب آخر؟ والدعم هنا لا يتخذ فقط صورة التصريحات أو التحالفات السياسية، بل إنه أبعد من ذلك إذ تُتخذ فيه القضية الفلسطينية ذريعة لإضفاء شرعية على سياسات إيران والنظام السوري؛ بحجة أنها أنظمة تدعم المقاومة، ومن ثم فقد غُفر لها ما تقدم من ذنبها وما تأخر!

إحدى مسوغات عدم صلاحية "الفلسطينية" معيارًا أخلاقيًّا: أن الفعل المرتبط بغاية إنما يتم تقويم أخلاقيته بالنظر إلى الغاية التي وقع الفعل لأجلها، فقد تكون صورة الفعل أخلاقية ولكنه غير أخلاقي بالنظر إلى القصدية الكامنة فيه وبالنظر إلى عواقبه وتأثيراته الفعلية، والغريب أن قيادات حركات المقاومة تعرف جيدًا مقاصد النظامين الإيراني والسوري من وراء دعم المقاومة وأنها مسألة وظيفية، ولكنها تغض الطرف عن مكاسب هذين النظامين من أجل تحقيق مكاسب للحركتين تتصل بأيديولوجيتهما وحساباتهما لما هو أولوي ومركزي، في حين أننا لو احتكمنا إلى المعايير الأخلاقية فإن التحرر من الاستبداد وتحرير الأوطان متلازمان، ويصعب الفصل بينهما في عالم اليوم، وقد بدا هذا جليًّا منذ أحداث سبتمبر/أيلول وصولاً إلى ثورات الربيع العربي؛ إذ لا يمكن للاستبداد الداخلي أن يكون حاملاً لقضية تحرر وطني، ومن ثم يجب وزن أفعال الأنظمة الاستبدادية بميزان مصالحها؛ فحين يفتقد نظامٌ إلى الشرعية السياسية الداخلية (الإرادة الشعبية الحرة) يلجأ إلى استجلاب شرعية خارجية (دعم قضية فلسطين)، وهو ما يعني أن القضية نفسها تحولت إلى ذريعة وأداة من أدوات غسيل الاستبداد وتمدد المشروع القومي الفارسي في المنطقة العربية، وهو أمرٌ يعود بالنقض على القضايا الوطنية العربية نفسها، ومع ذلك لم يحقق أي تقدم فعلي لصالح مشروع التحرر الفلسطيني.

 

إذا اعتبرتَ القضية الفلسطينية استثنائية، يمكن لك أن تؤيد سياسات إيران والأسد لمجرد أنهما يدعمان قضية فلسطين، من دون أن ترى أي خلل في تعاطيك مع المبدأ نفسه

بل إن المسألة من الناحية الأخلاقية تتجاوز فكرة أولوية القضية الفلسطينية إلى فكرة استثنائيتها، وهي استثنائية أشبه بالاستثناء الديمقراطي العربي لدى بعض المثقفين العرب والغربيين؛ فالاستثناء يعني عزل القضية نفسها عن المبادئ الأخلاقية الكبرى (كالحق والعدل والحرية) أي أنها لا تستقيم وفق منطقه بحجة أن لها قانونها الخاص، وهذا منطق خطر؛ لأنه سيخل بأخلاقية قضية فلسطين نفسها؛ لأنها إنما تتأسس شرعيتها على هذه المبادئ نفسها، وهذا أحد الأسباب التي لأجلها قلنا إن "الفلسطينية" ليست -بذاتها- معيارًا أخلاقيًّا، فأخلاقيتها تنبع من شيء خارجها وهو المبادئ الكبرى المجردة التي يتقاطع فيها الاحتلال مع الاستبداد بل قد يكونان وجهين لعملة واحدة.

فإذا اعتبرتَ القضية الفلسطينية استثنائية، يمكن لك أن تؤيد سياسات إيران والأسد لمجرد أنهما يدعمان قضية فلسطين، من دون أن ترى أي خلل في تعاطيك مع المبدأ نفسه؛ لأنك أخرجته خارج المبادئ وتعاملت معه بنفسه على أنه مبدأ مطلق يعلو على كل شيء. ولكن في المقابل عليك أن تتحمل مسؤولية ما قد يتولد عن هذا الموقف من رد فعل معاكس، كمن يعتبر قضيته الوطنية المحلية هي المبدأ المطلق بالنسبة له، وهكذا سننكفئ إلى تعددية في المبادئ المطلقة بحسب كل طرف، مما سيعود على معيارية المبادئ الكبرى بالضرر البالغ.

لا ينبغي لقضية فلسطين أن تتحول -في وعي التنظيمات الفلسطينية فضلاً عن غيرها- إلى "قضية مُشَخصنة" في أرض وفاعلين محددين، ومن ثم تصبح استثناء؛ لأن هذا سيضر -أول ما يضر- بالقضية نفسها، وهذا هو جوهر المشكلة الحالية أخلاقيًّا وسياسيًّا.

من الواضح أن قضية فلسطين لم تَعد مركزية في عالم ما بعد الثورات العربية (إذا جاز التعبير)، وقد يرجع هذا إلى اعتبارات عدة، من بينها: أن حركات المقاومة نفسها ساهمت بمواقفها من الثورات في هذا التراجع حين اتخذت مواقف تراوحت بين الصمت والانكفاء على الشأن الداخلي، وبين التصريحات الداعمة لمناهضي الثورة السورية على الأقل، ومن ثم عزلت نفسها عن عمقها العربي والإسلامي. وسبب آخر هو أنه ربما تَكَشّف لنا أن تلك المركزية لم تكن حقيقية؛ لأن الأنظمة الداعمة لمركزيتها كانت تتاجر بها والآن انشغلت بأولويات أخرى داخلية وإقليمية.

تخسر حركات المقاومة أخلاقية قضيتها حين تقصر معيار تقويمها للأفعال والمواقف على النظر إلى العالم فقط من زاوية دعمها هي ودعم تصوراتها هي لقضيتها؛ لأن الموقف الأخلاقي من الظلم والاحتلال والإجرام لا يتجزأ، سواءٌ كان هذا بأيدٍ إسرائيلية أو غير إسرائيلية، وسواءٌ كان على أرض فلسطين أو خارجها. والميزان الذي توزن به الأفعال والسياسات له مراتب من حيث الأثر والإفساد والأرقام والآثار، فوزن الإجرام ليس عقيدة مغلقة غير معقولة المعنى، فالموقف الأخلاقي من كل إجرام موقف مبدئي، ثم يمكن بعد ذلك المفاضلة في من هو أشد إجرامًا من الآخر بناء على معطيات محددة وليس على عقائد مغلقة، ومن ينتقي أو يبني مواقفه من منظور مصلحي حزبي أو جزئي يضحي بأخلاقية قضيته هو أولاً.

يبدو لي أن حركات المقاومة بحاجة إلى التأسيس لخطاب يزاوج بين الأخلاقي والسياسي، ويؤسس لقضيته الكبرى على أسس أخلاقية أولاً، وموازين محددة يتم على أساسها بناء الموقف واتخاذ القرارات، والموازنة بين قيمة الإنسان (غير الفلسطيني) وقيمة الأرض (الفلسطينية وغير الفلسطينية)؛ لأن المقاومة ليست "عقيدة غير معقولة المعنى" وليست لاهوتاً كما يصورها "حزب الله" وحزبه للتكسب بها وإرهاب الآخرين؛ بل هي قضية أخلاقية معقولة المعنى ويمكن أن نناقشها ونناقش القائمين عليها وأن نحتكم جميعًا إلى المبادئ لا إلى الأنظمة والأشخاص، فالحركات والأشخاص ليسوا هم المبدأ، وهذه قضية مركزية يجب الإلحاح عليها لنحمي أنفسنا من الاستبداد باسم المقاومة أو الدين أو السياسة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.