السياسي وغير السياسي في جائحة كورونا.. قراءة في التفاعلات والتبعات
حديث في التفاعلات
سؤال عن التبعات
لم يكن أكثر المتشائمين في العالم ليضع سيناريو أسوأ مما آلت إليه الأمور، فيما يتعلق بالطريقة التي واجهت بها دول بعينها جائحة كورونا؛ فالدول -ابتداء من الصين ومروراً بدول أوروبا وانتهاء بالولايات المتحدة- ظهرت شبه عاجزة، وفي حيرة من أمرها، وباحثة عن إجابات وإجراءات تساعدها في التخفيف من تبعات هذه الجائحة.
فالصين ظهرت فيها الحالة الأولى خلال نوفمبر/تشرين الثاني 2019، ثم ما لبث أن نبه على خطورة هذا الفيروس الطبيب الصيني لي وينليانغ الذي أرسل تحذيراً لزملائه في المهنة، لكن جزاءه كان تدخل السلطات الأمنية وتحذيره وأخذ تعهد عليه بعدم نشر معلومات عن هذا الأمر.
تلك كانت أولى الخطايا في مواجهة فيروس كورونا، وهي "أمْنَنِةُ" (Securitization) التعامل معه بدل الاستماع إلى أهل الاختصاص، الذين مهما كانت توصياتهم غير مريحة فإن المستفيد الأول منها هو الإنسان والمجتمع وبالتالي الدولة.
حديث في التفاعلات
يقود الخطأ إلى أخطاء وتصمت الصين لأكثر من شهر، ويصحو العالم على إغلاق أوهان الصينية بالمراقبة تارة وتوجيه الانتقاد تارة أخرى، لكن ذلك التطور لم يكن كافياً ليستفيق بقية العالم على الكارثة المقبلة. فالعالم -الذي لم يعتد يوماً على شفافية الصين ويصفها بالدولة الشمولية- أخذ يلومها في يناير/كانون الثاني على أنها لم تكن شفافة؛ فأي غباء سياسي وأي استهتار اجتاح السياسيين في أوروبا والغرب؟ ولماذا فجأة رفعوا سقف توقعاتهم الإنسانية من الصين التي لا يتوقفون عن انتقادها؟
ببساطة؛ إنها محاولة لغسل اليد من أي مسؤولية، وهي محاولة لوم الآخر. ألم تكن تلك الدول القومية في أوروبا والغرب تدعي أنها في مقدمة العالم في تقدير الأخطار وإعداد الخطط لمواجهتها؟ أليست هذه الدول التي تبني خدمات للمواطنين من تلك الضرائب التي تجنيها؟ أين ذهب كل ذلك أمام فيروس لا يُرى بالعين المجردة؟
قطاعان صحان -هما الأميركي والبريطاني اللذان كان يروّج أنهما الأفضل في بلدين صناعيين- يسقطان بالكامل أما جائحة كورونا، نقص في الأطباء والممرضين والإمكانات الصحية الضرورية، عدم وجود مواد أولوية كافية، غياب كامل لروح التكافل؛ فالجميع تقريباً رسب في اختبار الكفاءة. وليس هذا فحسب؛ بل عجز عن أن يستجيب لتحدٍّ مهم هو ضمان سلامة دافعي الضرائب |
في حرب مواجهة جائحة كورونا؛ أطلّ التوظيف السياسي من قبل كثير من زعماء الدول في الأسابيع الأولى. فمن محاولة إنكار للجائحة وأن عدد الوفيات في الأنفلونزا العادية أكثر منه فيها كما ذكر الرئيس الأميركي دونالد ترامب، إلى الحديث عن حماية مؤسسات القطاع الصحي والسماح بوقاية القطيع كما تحدث بذلك رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون الذي لم يسلم من هذا الفيروس.
قطاعان صحان -هما الأميركي والبريطاني اللذان كان يروّج أنهما الأفضل في بلدين صناعيين- يسقطان بالكامل أما جائحة كورونا، نقص في الأطباء والممرضين والإمكانات الصحية الضرورية، عدم وجود مواد أولوية كافية، غياب كامل لروح التكافل؛ فالجميع تقريباً رسب في اختبار الكفاءة. وليس هذا فحسب؛ بل عجز عن أن يستجيب لتحدٍّ مهم هو ضمان سلامة دافعي الضرائب.
في هذا السياق؛ ينبغي عدم نسيان جهود دول كثيرة مثل بريطانيا وأميركا في خصخصة القطاعات الحيوية مثل الصحة والتعليم. قطاعات أصبحت خدماتها متوفرة لمن يملك أن يدفع، وليس للمريض فعلياً أو الراغب في التعلم. والآن؛ السؤال المطروح على القطاعات الصحية في كل من أوروبا والولايات المتحدة هو: ماذا كانت تلك القطاعات تعمل وهي تسمع أنباء انتشار الوباء في الصين؟ ألم يكن ذلك دافعاً لها لدق ناقوس الخطر وطرح السؤال المهم: ماذا لو امتد الوباء إليهم؟ هل هم مستعدون؟ ماذا عن قدرة المستشفيات وتوفر المستلزمات الطبية وكفاءة الكوادر الطبية؟
لقد تعاملت تلك القطاعات بأسوأ من مستوى اللامبالاة الصيني، بالنظر إلى الطريقة التي تقدم بها نفسها كقطاعات رائدة في بلدانها. وبعد كل هذا؛ هرولت تلك القطاعات إلى الحكومة لتقول إن الكارثة وقعت، وإنها غير مؤهلة للتعامل مع مثل هذه الجائحة، والحل يكمن في تعاون المجتمع والناس.
لا شك أنه من الضروري أن يقوم كل فرد في المجتمع بدوره، وأن يلتزم الجميع بالإجراءات المطلوبة لمكافحة الجائحة، لكن هذا لن يكفي وحده في تلك الدول، فلا بد أن يقوم القطاع الصحي بجهد أكبر، وأن يتوفر له ما يعينه على ذلك بدل البكائيات التي نسمعها، وضرورة المحافظة على تلك القطاعات حتى وإن كانت هشة وشبه عاجزة.
لم يقف الأمر عند هذا الحد؛ بل امتد بسبب عجز القطاعات الصحية -في بعض البلدان- إلى عدم قدرتها على تقديم العون إلى دول وضعها أكثر سوءا، والمفروض أنها تتشارك القيم مع بعضها بعضا، وكثيرا ما سوقت للعالم أن قيمها جعلتها مستهدفة.
اليوم في زمن كورونا الجديد الكل يردد: "اللهم نفسي" و"أنا ومن بعدي الطوفان"! إيطاليا وإسبانيا تواجهان مصيرهما منفردتين بعد أن تركهما الاتحاد الأوروبي، مما دفع الرئيس الفرنسي للتحذير من أن تكون أوروبا -في ظل تفاعلات جائحة كورونا- منقسمة وأكثر أنانية.
سؤال عن التبعات
اجتمع العالم وتآلف في أيام قليلة، وتبادل المعلومات وسخّر الإمكانات في حرب ما يُسمى الإرهاب، جهود لم تُنْهِ الظاهرة وأخطارها، لكن الظاهرة نفسها أنهكت الدول بشكل جعلها تخسر في معارك أخرى، ربما استطاعت فيها -بالقليل من الشفافية والتواصل والكثير من احترام العلم والعلماء- أن تنقذ نفسها والبشرية من أخطار جمة، بدأت ولا يبدو أنها ستتوقف قريباً.
إن الأسئلة البسيطة التي يرِد طرحها في سياق جائحة كورونا هي: أين كانت أجهزة الحكومات في الدول القومية من قراءة المشهد والمرض؟ ماذا استفادت من الانفتاح المعرفي والسيولة المذهلة في المعلومات؟ لماذا لم تلتفت أجهزة تقييم الأخطار في تلك الدول لهذه الجائحة وهي يُفترض أن لديها رصيدا من المعرفة والخبرة المتراكمة في تقييم الأخطار؟ أين ذهبت أموال دافعي الضرائب التي يحتاجونها لمقاومة جائحة لا تبقي ولا تذر؟ أين التبادل المعلوماتي الذي برعوا فيه في ميدان حروب السياسة وممارسة القوة؟ أين هو الإنسان وسلامته في حسابات تلك الدول؟
أسئلة تفرض نفسها في زمن جائحة كورونا، وتقود إلى السؤال الأكبر: أين غابت الإنسانية في سياق تطور الدول القومية؟ وأي تغول استشعرته وتستشعره تلك الحكومات في لحظات الفشل في أداء ما هو مطلوب منها؟
فيروس كورونا ليس قوما ولا ثقافة ليتم وصفه بأنه إرهابي، كما تعوّدنا أن يستنهض المثقفون والسياسيون الفاسدون أقلامهم لتصنيف الآخرين وتوجيه الإهانة لهم؛ هذا الفيروس قدّم مثالاّ حياً على أن الهشاشة أمر حقيقي في الدول التي تدعي أنها كُبرى، وأنها صناعية، وأنها صاحبة قيم؛ وأن الدولة القومية التي يسعون لإحيائها بعقلية قديمة لن تعود، بل قد تختفي تماماً ولو بشكل تدريجي |
إن الإخفاق الذي ظهر في أداء حكومات الدولة القومية سيكون أكثر خطراً -في آثاره- من هزيمة عسكرية، ذلك أن فجوة عدم الثقة في عمل الحكومات مرشحة للتزايد، كما أن الثقة في قدرة الدولة على تقديم الرعاية المطلوبة للناس هي أيضا مرشحة لتراجع سريع، والأهم ربما هو اتساع الفجوة بين الحكومات التي تدعي الشراكة في قيم سياسية موحَّدة؛ فما قيمة تلك القيم إذا لم تنعكس في أوقات الكارثة؟
فيروس كورونا ليس قوما ولا ثقافة ليتم وصفه بأنه إرهابي، كما تعوّدنا أن يستنهض المثقفون والسياسيون الفاسدون أقلامهم لتصنيف الآخرين وتوجيه الإهانة لهم؛ هذا الفيروس قدّم مثالاّ حياً على أن الهشاشة أمر حقيقي في الدول التي تدعي أنها كُبرى، وأنها صناعية، وأنها صاحبة قيم؛ وأن الدولة القومية التي يسعون لإحيائها بعقلية قديمة لن تعود، بل قد تختفي تماماً ولو بشكل تدريجي.
أخيراً؛ فإن جائحة كورونا مرشحة للتمدد بسبب الأداء الضعيف والمتردد من العديد من الدول، لكننا يجب ألا ننسى أن الإجراءات التي اتخذتها الدول -رغم تأخر بعضها- ستكون لها نتيجة، لكنها ستكون بطيئة. والنقطة الحاسمة في مواجهة الجائحة هي أن تبدأ أعداد المصابين الجدد في التراجع وبشكل متواصل إلى أدنى مستوى، مع ارتفاع أعداد المتعافين من المرض وبشكل مطّرد. عندها يمكن الحديث عن بدء تسجيل تفوق للإنسان على الفيروس، وتحوّله إلى وضعية أي فيروس تمكن معالجته، كتلك الفيروسات التي أبدع الإنسان في التعامل معها عبر مئات السنين.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.