الحركة الإسلامية ومرحلة ما بعد جائحة كورونا

إسرائيل تحارب الإسلام السياسي وتتطلع لإدراج الحركة الإسلامية بالداخل الفلسطيني على قائمة "الإرهاب" بعد عام على القرار بحظرها، صور من مهرجان الأقصى في خطر الذي كانت تنظمه الحركة الإسلامية بالداخل الفلسطيني لعقدين وتم حظره من قبل إسرائيل، أم الفحم أيلول سبتمبر 2014 .

أزمتا الفعالية والمرونة
فرص جلبتها كورونا

ربما كان أكثر ما يلفت انتباه المتابع لتصريحات القادة عندما يتحدثون عن واقع العالم ومستقبله بعد جائحة "كورونا"، هو العبارات التي تركت مساحات للغموض وفتحت أبوابا للتأويل، كقول وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر إن "الحقيقة هي أن العالم بعد كورونا لن يكون كما كان قبلها"!

إذن نحن أمام توقعات -تقارب التأكيد- بأن العالم بشكله الحالي، وبقواعد اللعبة الحاكمة، ومساحات النفوذ الراهنة، لن يكون كما هو بعد انتهاء أزمة كورونا؛ لكن كيف سيكون هذا التغيير؟ وأين ستكون بؤره المرتقبة؟ ومن سيقوده ليصب في مصلحته؟

لا أحد يستطيع التكهن بذلك لتعقد المشهد وتداخل العوامل المؤثرة فيه، ولكن ما نفهمه أن هناك تغييرات كبيرة محددة، قد تكون اقتصادية وسياسية وجغرافية، وربما تشمل البنى الاجتماعية، ولكنها حتما ستكون بنِسب متفاوتة وعلى مدى زمني طويل، كتلك التي حدثت بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، بوصف هذه الأزمة حربا عالمية ثالثة من نوع آخر!

أزمتا الفعالية والمرونة
في ظل هذه التوقعات للتغيرات القادمة -فيما بعد كورونا- والشاملة للجميع أفكارا ونظريات ودولا؛ يواجهنا سؤال كبير ومهمّ عن مستقبل الحركة الإسلامية -بوصفها رقما فاعلا بمعظم المجتمعات وجزءا من النسيج المجتمعي والمدني والسياسي أحيانا- ورؤيتها وموقعها الاجتماعي والسياسي.

وقبل أن نفكك التساؤل الكبير السابق؛ نحتاج لاستعراض سريع لتعامل الحركة الإسلامية مع التغيرات العالمية في السنوات الأخيرة، وبالذات منذ انطلاقة ثورات الربيع العربي.

بداية وكنوع من النقد الذاتي الصريح؛ يجب أن تعترف الحركة الإسلامية بأنها تعاني "أزمة فعالية" و"أزمة مرونة" منذ سنوات، ظهرتا جليا في موجات الربيع العربي؛ فرغم دورها الإيجابي في بداياتها فإنها لم تجنِ منها مكتسبات مؤثرة، بل عانت الحركة بشدة، وخسرت مواقع قديمة، وضُربت بعنف أحيانا، وضُيّق عليها أحيانا.

ثم إنها دخلت أو أُدخِلت في لعبة المحاور الخانقة لأي فعل سياسي مستقل، نتيجة أمريْن: فعل خارجي مؤثــِّـر مما "قوى الثورة المضادة"، وفعل داخلي يترجمه عجز الحركة الإسلامية أحيانا كثيرة عن التموضع الصحيح والفعل الصائب، وافتقادها المرونة اللازمة لتجنب الضربات القاضية المتكاثرة عليها من كل اتجاه.

بداية وكنوع من النقد الذاتي الصريح؛ يجب أن تعترف الحركة الإسلامية بأنها تعاني "أزمة فعالية" و"أزمة مرونة" منذ سنوات، ظهرتا جليا في موجات الربيع العربي؛ فرغم دورها الإيجابي في بداياتها فإنها لم تجنِ منها مكتسبات مؤثرة، بل عانت الحركة بشدة، وخسرت مواقع قديمة، وضُربت بعنف أحيانا، وضُيّق عليها أحيانا

وعندما نتحدث ضمن هذا الإطار العام؛ فهذا لا يلغي وجود استثناءات هنا وهناك، أو نجاحات جزئية موزعة على الخط الزمني للربيع العربي، ولكنها لم تصل لإنجازات شاملة وكاملة، أو إنجازات أحدثت تغييرا بالمشهد العام للربيع العربي.

وحتى نعرِّف "أزمة الفعالية" ونقيسها بدقة؛ علينا أن نرصد التطور السياسي والفكري الأخير للحركة الإسلامية، ونقدّر باعتدال قوة التحالفات السياسية وهشاشتها بمحيطها، ونقرأ ببصيرة الأطروحات الفكرية الجديدة التي تعالج واقعا مستجدا ومتغيرا بتسارع.

وأيضا علينا أن نزن بدقة الرصيد الاجتماعي للحركة وهل يتوسع أم يتقلص، ونفحص بتمعُّن الإطار التنظيمي للحركة وتطوره ومرونته وفعاليته وجدواه، وفقا للتطورات الاجتماعية والثقافية والتقنية الراهنة.

يغيب أحيانا عن قيادة الحركة الإسلامية أنه لن يُسمح لمشروعها بالحضور في أي مكان أو زمان؛ وهذا القرار الإقليمي والدولي واضح للجميع. ولذلك عندما نتحدث عن أزمتَي "فعالية" و"مرونة" فنحن نقصد كيفية مواجهة حرب الاجتثاث هذه.

تغييرات الربيع العربي الكبيرة ونتائجه، وما نالته الثورة المضادة من الحركة الإسلامية بزحزحتها عن مواقع معينة، وسلبها قوة تأثيرها بمواقع أخرى؛ كل هذا وغيره يقول إن الحركة تعاني أزمة حقيقية في التأقلم مع هذا الواقع، وتقديم خطط بديلة وإستراتيجيات متجددة؛ ويؤكد عجزها عن تقديم ذاتها وأطروحاتها بشكل يحفظ لها مواقع تأثيرها. لكن هل هناك فرصة جديدة وحقيقية لتقدِّم الحركة نفسها ومشروعها بشكل مختلف؟!

فرص جلبتها كورونا
أعتقد أن أزمة "كورونا" الحالية -وتغييراتها الكبيرة لبنى المجتمعات والأفكار والمشاريع الدولية والإقليمية- ستكون فرصة حقيقية لتنهض الحركة الإسلامية مجددا، وذلك بدراسة الواقع المستجد ومساحات التغيير والفرص المتاحة لها، لتطرح نفسها ومشروعها بشكل مختلف فيما بعد كورونا.

المطلوب من الحركة الإسلامية أن تعيد تفعيل نفسها في الواقع الاجتماعي الجديد، وهي التي شكلت لعقود رقما مؤثرا بالمساحات المدنية والاجتماعية، وأن تعيد طرح مشروعها الفكري ليناسب هذه التغيرات الشاملة حتى للمزاج العام للجماهير.

وأهم ثلاثة تحديات -وهي أيضا فرص حقيقية- أمام الحركة الإسلامية فيما بعد كورونا هي:

الأول: احتمالية تبدل مراكز القوى العالمية الكبرى وتموضعها، مما سيتيح فرصة حقيقية لفاعلين جدد، ستكون منهم الحركة الإسلامية إذا أعادت بناء علاقاتها الدولية، وفتحت نوافذ تهوية كافية مع مراكز القوى الجديدة.

وهذا يتطلب ابتعادها عن إرث العلاقات السلبية أو الباردة أو البناء على الماضي، ومحاولة التقاط صورة جديدة عوضا عن الصورة النمطية للعلاقات مع القوى الكبرى والتحالفات الدولية، والتي أغلقت أبوابا كثيرة أمام الحركة ومشروعها بمراعاة مصالح الآخرين على حساب المصلحة الذاتية.

الثاني: الحديث عن عودة قوة الدولة القُطْرية والتقوقع المحلّي الذي سيعمّ دولا كثيرة فتنكفئ داخل حدودها. وبغضّ النظر عن مآلات هذا التقوقع وآلياته من تغول سلطة الدولة بذريعة الحماية والأمن، مما سيجعلها الفاعل الوحيد بالمجال العام؛ فإن هذا التحدي -رغم مخاطره- ربما يحمل صورة لفرص حقيقية تتيح للحركة الإسلامية أن تعمل لتمكين المشروع الوطني الذي يحقق النماء والنهضة للوطن.

إنسان الألفية الجديدة مختلف تماما عن إنسان ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته، حيث اختلاف آليات الإرسال والتلقي؛ ومطلوب من الحركة الإسلامية نبذ الأساليب التقليدية في خطابها للفرد والمجتمع وحتى الآخر، فنحن أمام فضاء معلوماتي كل شيء فيه مباح ومتاح، والأفكار والمعلومات سيل دائم التدفق، وهذا يعني أن قوة الفكرة وحدها لن تفيد، بل تحتاج للأدوات الحديثة في التسويق والمخاطبة والإقناع

وهذا يتطلب منها مقاربة مختلفة لعلاقتها مع الدولة كنظام، ومع الطيف السياسي والاجتماعي كقوى مؤثرة في معادلة الدولة والمجتمع، عبر رؤية تقدِّم بواقعية عن مشروع وطني يستمد قوته من هوية الشعوب وتاريخها وحضارتها الإسلامية، وبإيجاد مقاربة ترسخ العلاقة بين الدولة والمجتمع على أسس الحرية والعدالة.

وهذا المشروع يتطلب عقدا اجتماعيا جديدا بين الأطراف الفاعلة داخل الدولة، وربما يتطلب من الحركة الإسلامية ألا تقدم نفسها بوصفها تنظيما مؤطّرا تشمّ فيه الأطراف الأخرى رائحة الانعزال، وإنما تظهر بوصفها جبهة وحضنا وطنيا يسع الجميع، أو تيارا مفتوحا لكل من يريد أن يشاركه همّ الوطن ومستقبله.

الثالث: التغير الأكبر -والذي صاحب موجات الربيع العربي وسيأخذ منحًى عميقا ومختلفا بعد كورونا- هو التغير الاجتماعي الذي رافق التطور التقني، وظهور شبكات التواصل الاجتماعية وتغولها في المجتمع، بل هي أقرب لهجرة دولية وعالمية -بلا خيار بديل- للمجتمعات الرقمية، واقتحامها جميع مجالات الحياة.

إنسان الألفية الجديدة مختلف تماما عن إنسان ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته، حيث اختلاف آليات الإرسال والتلقي؛ ومطلوب من الحركة الإسلامية نبذ الأساليب التقليدية في خطابها للفرد والمجتمع وحتى الآخر، فنحن أمام فضاء معلوماتي كل شيء فيه مباح ومتاح، والأفكار والمعلومات سيل دائم التدفق، وهذا يعني أن قوة الفكرة وحدها لن تفيد، بل تحتاج للأدوات الحديثة في التسويق والمخاطبة والإقناع.

وفي خلاصة للفكرة؛ يمكن القول إنه إذا أبقت الحركة الإسلامية على نفس الآليات والإستراتيجيات فيما بعد كورونا كما كانت قبلها؛ فهذا يعني أنها متجهة لخسائر فادحة على جميع المستويات، أو متجهة للتقوقع على ذاتها وانفضاض قاعدتها الاجتماعية عنها.

إن فرصة الوقوف -بشكل معتدل ومختلف وجديد- فرصة حقيقية فيما بعد كورونا؛ لكنها ستتوفر فقط بقراءة المشهد والمتغيرات بصورة دقيقة وواقعية وبمبادرة فاعلة على جميع المستويات، مبادرة كالتي عناها مبعوث السلام السابق للشرق الأوسط دنيس روس في كتابه "فن الحكم" بقوله: من يُقدم على المبادرة يستطيع أن يُقولِب الواقع.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.