لنهزم كورونا وننصر الإنسانية

Health workers gesture as citizens show their support from their balconies and windows, amid the spread of the coronavirus disease (COVID-19), in Barcelona, Spain April 15, 2020. REUTERS/Nacho Doce TPX IMAGES OF THE DAY

على إيقاع طبول الحرب على كورونا؛ ما زالت الأنفاس محبوسة بانتظار إعلان النصر، وخروج الإنسان من قمقمه ليعاود تفاعله على شتى المستويات، ولكن بأي روح سيخرج وبأية آليات سيعود؟

جائحة كورونا ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، ولكن لعلها المرة الأولى التي تشمل العالم كله برؤوسه ومرؤوسيه، بشماله وجنوبه، بشرقه وغربه، فتغدو البشرية مكبلة خائفة مترقبة، تتابع بقلق وخوف ذلك الوحش الذي يجتاحها من الداخل، من داخل الحدود فتغلقها، ومن داخل المدن فتقطع أوصالها، ومن بين المقربين فتباعدهم وتخلق الهواجس بينهم بمجرد عطسة.

جائحة الهلع من كورونا والتوجس من قادمها القاتم تجاوز بنا الاكتفاء بتلقي الضخ الإعلامي المركز ليتبادل الأفراد فيما بينهم المعلومات والشائعات، وأيضاً التأثيرات النفسية والفكرية والاجتماعية لها وهم داخل القمقم الذي عرّى أساطير القدرة، وجعل الكثير من دول العالم الأول في مواجهة العجز، ورهينة التقصير، وربما تكون ضحية لقلة التدبير، فلم تجد سوى أن تفرض على الناس أن يتباعدوا جسدياً، ولكن ليتواصلوا أكثر فأكثر على المستوى الإنساني.

ورغم هذا التباعد الجسماني فقد تشارك -ولأول مرة في التاريخ- مئات الملايين في تحمل أعباء الكفاح لهزيمة هذه الجائحة، بالتخلي عن أنماط حياتهم وعاداتهم، وتحمُّل تعثر أعمالهم، وانخفاض مداخيلهم، والإنفاق من مدخراتهم، وربما فقدان وظائفهم، وإيقاف دورة الحياة المعهودة.

لعلها المرة الأولى أيضاً التي تتواجه فيها البشرية بهذا الاتساع مع ما وصلت إليه على كل الصُّعد، وتخرج بهذا الكم من صخب المدنية إلى كهوف العزلة، وتحليل المسببات وتقييم الاستجابات وتخمين التداعيات، وإعادة النظر على كل المستويات مع التبادل الآني لكل خاطر وأثر.

ولعلها كذلك المرة الأولى التي تتناغم فيها البشرية مع ذات القيم والتوجهات في نفس الوقت، وتعْبر خنادق السياسة والاقتصاد، وتقفز فوق مختلف الانقسامات الشارخة، لتلتئم الإنسانية في بحثها عن إنقاذ الحياة، حتى صارت قيمة الحفاظ عليها عاملاً أول لرسم السياسات، وتعززت قيمة تشارك المسؤولية في الحفاظ على الذات والآخر، وتقدمت قيمة التعاون كثيراً على قيمة التنازع والمغالبة، وشاعت قيمة العطاء أكثر مما استحوذت قيمة الأنانية.

لعلها المرة الأولى أيضاً التي تتواجه فيها البشرية بهذا الاتساع مع ما وصلت إليه على كل الصُّعد، وتخرج بهذا الكم من صخب المدنية إلى كهوف العزلة، وتحليل المسببات وتقييم الاستجابات وتخمين التداعيات، وإعادة النظر على كل المستويات مع التبادل الآني لكل خاطر وأثر. ولعلها كذلك المرة الأولى التي تتناغم فيها البشرية مع ذات القيم والتوجهات في نفس الوقت، وتعْبر خنادق السياسة والاقتصاد، وتقفز فوق مختلف الانقسامات الشارخة، لتلتئم الإنسانية في بحثها عن إنقاذ الحياة

لقد قيل الكثير عن عالم ما بعد كورونا على صعيد العلاقات الدولية وتحولات الاقتصاد التنافسي، وهذا متصور وسيكون، ولكنه شغل بال الكثيرين، مع أن التغير الأبرز والأعمق في عالم ما بعد كورونا هو بسبب منعكساتها على الصعيد الفردي والاجتماعي والحقوقي.

وكذلك الآثار النفسية والقيمية والاجتماعية لهذه الجائحة على مفهوم الدولة، وعلى طبيعة السلطة، وعلى صعيد العلاقة بين الحاكم والمحكوم، من حيث توجهات الحكم وآليات صنع القرار، والتداخل في صنعه، والتدخل في مجرياته بالمساءلة عنه، وكذلك على طبيعة الاقتصاد وتوجهات التطور التقني ودوافعه، وعلى التسارع في "رَوْبَتَةِ" الوظائف (أي تحويلها إلى أعمال روبوتية).

لقد أجلست الجائحة الناس، والكل يريد ألا يتكرر ما حصل، والكل يتابع أولاً بأول ردود فعل مختلف المجتمعات تجاه ما يجري، ويستقرئ ويقارن، ويتساءل: لماذا وقعنا في كل هذا؟ وأين وصلنا فعلاً؟ وإلى أين نسير؟ ولماذا اختلفت ردات فعل الساسة هنا عن الساسة هناك.

وأيضاً لعلها المرة الأولى التي يتشارك فيها هذا العدد الهائل من البشر كل هذه التساؤلات والتقييمات، وصولاً لمقارنة أخلاق أرباب العمل بأخلاقيات العمل، وكيف ستكون تداعيات ذلك على مستقبل الوظائف والاقتصاد.

وكذلك لمقارنة أخلاق الدولة بأخلاق البشر، وتقييم الهوة بينهما، وكيف سيكون أثرها التعاقدي ووجه الإلزام ومدى الالتزام، وكذلك جدوى تحقق المجتمع بالأخلاق الناظمة والإلزام بها بقوة القانون، ومدى تقبّل "لا تحلي" الممسك بالسلطة بها وبقوة القانون الحامي والمانح للحصانة، وكذلك ستكون مقولة إن "الدول ليست بجمعيات خيرية" تحت المحك.

ولعل أول ما سيتبدّى من آثار تلك الجائحة هو التغير في نمط الاستهلاك وطبيعة الاقتراض، ومفهوم الادخار، وآليات الإنفاق، وإعادة النظر في كثير من العادات الاستهلاكية والمفاهيم السائدة.

حيث سيتعالى القول بأن الحرية المطلقة مفسدة مُطلقة، لأنها تُطلق المخاطر والتهديدات الجدية لحياة الإنسان ولما وصلت إليه البشرية من منجزات، فقد بات واضحاً أن المخاطر تتدحرج بين الدول والمجتمعات كالسوائل وفق قاعدة الأواني المستطرقة، وكذلك الأفكار والمفاهيم.

وبالتالي سيكون لكثير من المفاهيم السائدة عن الحريات الشخصية -بمعناها الواسع- من يقف في وجهها وبيده الدليل على أن هذا الكوكب ما هو إلا مركب واحد، وأن من حق الإنسانية صون هذا المركب ببعض الانضباط والتقييد.

كما أن فيروس كورونا اجتاحنا من الداخل فإن أكبر تداعياته ستكون كذلك، وسيظهر وعي متزايد بأهمية الوقوف ضد كل أشكال التمييز ضد حق الحياة، فكل ثناء على الأداء الإعلامي والحكومي والاجتماعي إزاء جائحة كورونا سيقابله وعي متنام بالتقصير وربما التواطؤ على تمرير انتهاك حق الحياة بسبب جائحات أخرى هي أشد فتكاً، كتأثير تعاطي الكحول والمخدرات والتدخين، وغيرها من الأمراض والأوبئة والممارسات، وأبرزها "الحق" في الحروب "النظيفة" التي لا تُستخدم فيها الأسلحة المحرمة دولياً، فيُترك حبل القتل والتدمير على غاربه طالما أنه بأسلحة "نظيفة" وغير محرمة.

وسينعكس ذلك اقتصادياً ببعد آخر يعيد النظر في إستراتيجيات الإنفاق الحكومي؛ فبعد تبدي القصور في أنظمة الرعاية الصحية، وشح الإنفاق عليها بالمقارنة مع الإنفاق العسكري، وتفاقم الحاجة للإعانات، ستتعزز أصوات المطالَبة بالكف عن التعامل مع الحروب كواقع مبرَّر ولا مفر منه إلا بسباق التسلح المستنزف لميزانيات الدول.

كما أن فيروس كورونا اجتاحنا من الداخل فإن أكبر تداعياته ستكون كذلك، وسيظهر وعي متزايد بأهمية الوقوف ضد كل أشكال التمييز ضد حق الحياة، فكل ثناء على الأداء الإعلامي والحكومي والاجتماعي إزاء جائحة كورونا سيقابله وعي متنام بالتقصير وربما التواطؤ على تمرير انتهاك حق الحياة بسبب جائحات أخرى هي أشد فتكاً، كتأثير تعاطي الكحول والمخدرات والتدخين، وغيرها من الأمراض والأوبئة والممارسات، وأبرزها "الحق" في الحروب "النظيفة" التي لا تُستخدم فيها الأسلحة المحرمة دولياً

ذاك التسلح القاتل لأعداد غفيرة من البشر تحت سمع العالم وبصره كما شاهده العالم في سوريا واليمن وليبيا وأفغانستان وغيرها، رغم وجود ما يكفي من مؤسسات وتشريعات وإمكانات تحول دون سقوط أضعاف مضاعفة لضحايا فيروس كورونا، الذي لم نصل بعدُ لوسائل كبحه والتعافي منه.

وسيأتي يوم ينضج فيه النداء والضغط للوصول إلى اتفاقيات عالمية لمنع الأسلحة الهجومية والأسلحة الثقيلة، وتحويل ميزانياتها لصالح التعليم والصحة وباقي الخدمات، وسيكون لهذا الصوت ما يبرره من وقائع وحقائق وأرقام لا تقبل الجدل أمام الإصرار على حق الحياة.

سيشهد عالم ما بعد كورونا ارتدادات على صعيد الدول وقوى الهيمنة العميقة، وعلى مفهوم قواها الناعمة، ودور المجتمع المدني وجماعات الضغط، وعلى مسؤولية الإعلام وضوابط أدائه. فمثلاً هل يُتصور وجود حق بمحاسبة من قصّر أو تراخى في إجراءات حماية الناس في بدايات انتشار الفيروس حتى فقد المجتمع أرواحاً بسبب ذلك؟ كما اعتُبر حقاً فرض الغرامة على كل من يخرق حظر التجول المفروض بسبب كورونا؟

وهل يُتَصور نتيجة دعاوى قضائية قد يلجأ إليها بعض المتضررين ضد من مَلك سلطة اتخاذ القرار وأساء استخدامها، وهل سيُحكم بتعويضات، وهل ستبلغ أرقاماً كأرقام التعويض لأهالي ضحايا لوكربي مثلاً؟ وإن حُكم بتعويضات فمن سيسددها؟ أهو الشخص الذي كانت تلك السلطة ممنوحة له؟ أم هي السلطة ذاتها أي الدولة؟ ومن هو المسدد الحقيقي: أهي الدولة أم هو دافع الضرائب؟ وما هي تبعات كل ذلك؟

كيف ستغدو طبيعة الحكم وآليات ممارسة السلطة؟ وإلى أي مدى سيكون المخوَّل بالسلطة متحكماً؟ وهل سيبقى متحملاً للمسؤولية بالاعتذار والاستقالة فقط؟ وما هو الظرف الذي يفرض التدخل عند صاحب السلطة للحد من سلبيات أدائه وتقصيره أو تجاوزه؟ وكيف سيتكرس كل ذلك؟

سيكون للنظر في حجم الإنفاق المالي والزمني لمتابعة انتشار الجائحة وتتبع كل ما ينعكس على الحياة البشرية بسبب هذا الفيروس، أثرٌ في التساؤل عن حقيقة الدور الإعلامي، ومدى موضوعيته ومسؤولية القائمين عليه في تزييف الوعي وقلب الحقائق، وصرف الرأي العام وإلهائه عن مهددات أخرى للحياة البشرية.

وستكون هناك بالتالي توجهات لفرض الحق بملاحقات قضائية لمن يملك منبراً إعلامياً ويستعمله بشكل مغرض أو منحاز أو متواطئ، وسيتوسع البحث في ماهية دور السلطة والمجتمع تجاه الإعلام، ودور الإعلام في متابعة السلطة ومسؤوليته تجاه المجتمع.

وسيستتبع كلُّ ذلك البحثَ عن جواب مقْنِع حول قصور أداء الآليات الحالية لتداول السلطة على طبيعة الحكم، وهل يكفي أن يصل إلى السلطة صاحب برنامج انتخابي جاذب، ويغادرها دون متابعة لتنفيذ ما جاء لأجله؟ وكيف سيُعامل بعد مغادرته السلطة دون أن يحقق ما وعد به؟

وحتى النظام الديمقراطي -بحد ذاته- سيمرّ بتقييم مفضٍ إلى تحوُّل؛ إذ هل يكفي المجتمعات تحقيق فائز ما لنسبة تفوق النصف من عدد المصوتين مهما كان قليلاً دون الاكتراث لعدد المقاطعين لعملية التصويت مهما كان كبيراً؟ ودون اعتبار لحجم الرفض الفعلي، وهل هي بذلك ديمقراطية فعلاً، أم هو إرغام ما بشكل ديمقراطي ما؟

ومن زاوية أُخرى؛ فإن الدولة ككائن هي الثري الأكبر الذي يملك تقدير وتحصيل نصيبه من مدخول كل فرد، وسيُخرج زمن كورونا من يقيِّم مدى عائد تلك الجبايات، وعدالة إنفاقها، ويبحث في عدالة المقدار الذي يحقق الغايات دون أن يستزيد من مداخيل بات أصحابها لا يرونها استقراراً، وليست بمأمن، وأنها لم تجلب الحماية والرعاية التي كانت متخيَّلة قبل زمن كورونا.

لعل أوقع تداعيات جائحة فيروس كورونا هي التطورات التي ستنعكس على مفهوم الدولة الوطنية وتأثيراتها على منطلقات اليمين المتطرف والنزوع لشرخ العالم طولياً. فالعالم كله ينتظر علاجاً بغض النظر عمن سيأتي به، ومن أي بلد وأي قومية كان، وسيتخلى العالم عن عصبياته وهو يسعى للعلاج والقضاء على هذا الوباء. وفي هذا عبور إلى طور جديد من دولة المواطنة التي قد تكون تجاوزاً لمفهوم الدولة المستند تاريخياً للإقليم والعرق

وسيكون هناك نظر متفحص لمدى فعالية حماية الدولة لقطاع الموظفين من جائحة التسريح عند أول تهديد بانخفاض أرباح أرباب العمل، وربما سيتطور ذلك للنظر في مدى فعالية الدولة بكينونتها الحالية أمام أقطاب المال والأعمال، ومن كل هذا نجد حجم التداخل في عالم ما بعد كورونا على الصعيد الدولي وعلى صعيد عالم الاقتصاد.

ولعل أوقع تداعيات جائحة فيروس كورونا هي التطورات التي ستنعكس على مفهوم الدولة الوطنية وتأثيراتها على منطلقات اليمين المتطرف والنزوع لشرخ العالم طولياً. فالعالم كله ينتظر علاجاً بغض النظر عمن سيأتي به، ومن أي بلد وأي قومية كان، وسيتخلى العالم عن عصبياته وهو يسعى للعلاج والقضاء على هذا الوباء.

وفي هذا عبور إلى طور جديد من دولة المواطنة التي قد تكون تجاوزاً لمفهوم الدولة المستند تاريخياً للإقليم والعرق، حيث ستأخذ الدول بريقها من منظورها للحياة والإنسان، وتوازن تعاملها مع البيئة والاقتصاد والمجتمع والمواطن والإنسان غير المواطن.

وستتعزز ظاهرة التجنس والتجنيس والتحول لاختيار المواطنة في الدول والمجتمعات الأقرب لما يعبر عن رؤية الفرد للحياة والكون، وسيتغير بالتدريج قوام الدول وتوجهاتها والمركز الفكري والقيمي الذي تدور في فلكه، وستضطر السلطات في الدول الأقل تعاملاً مع هذه المعايير الناشئة إلى التكيف مع ضغوط داخلية بهذا الاتجاه.

مجمل القول؛ إن عالم ما بعد كورونا ليس كما قبله بالتأكيد، وليس بفعل السياسة والسياسيين لوحدهم بقدر ما هو تبلور وعي يصنع ثقافته ويجذرها، ويتملك أدواته الضاغطة على السياسيين ليحدث تغييراً في السياسة، ولتظهر التحولات من الداخل ومن ثم في الخارج، ليتشكل عالم ما بعد كورونا بالمشاركة الأوسع في هزيمتها والانتصار للإنسانية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.