في عالم كورونا.. ماذا سنفعل بكل هذا الوقت؟

بالفيديو.. حياة نادر بالحجر الصحي بانتظار نتائج تحليل كورونا

حكى لي صديق ذات مرة هازلا قصة متداولة في بلاده، تقول إن طيارًا فرنسيا سقط في الصحراء فصادف رجلًا يسافر على جَمَل فتعجب الأخير من مظهر الطائرة التي كان يراها للمرة الأولى، فأخبره الطيار أنها تستطيع أن تصل في يوم واحد إلى ما يصله جمله في شهر كامل؛ فتعجب الرجل وقال: وماذا سأفعل في التسعة وعشرين يومًا الباقية؟

كان صديقي يسردها وقتها ليخبرني عن جَمال التأني، مستشهدًا بمجد أهل بلده في تضييع الوقت؛ بداية من تحديد مواعيد لقاءاتهم بالمسافة الزمنية بين الصلوات مما يعني عدة ساعات، ووصولًا إلى طقوس إعداد موائدهم التي تستمر أحيانا لعدة ساعات أخرى.

كم الساعة.. بتوقيت كورونا؟ الأسبوع الماضي بدأ تطبيق التوقيت العالمي الجديد الخاص بـ"كورونا"، ذلك الفيروس الذي سلب العالم صخبه وأجبره على تخفيف هرولته، فباتت الشوارع خالية والمدن الكبرى مهجورة، وامتلأت البيوت بساكنيها من جديد ولفترة مفتوحة، مما يعني أربعا وعشرين ساعة من المشاركة اليومية لأفراد الأسرة في مكان واحد، ومن دون أي فرصة للخروج من تلك الجدران، في تراجع لم تشهده البشرية من قبل؛ ليأتي السؤال الأهم هنا: ماذا سنفعل في كل هذا الوقت؟

في صباح يوم الاثنين الذي بات لا يختلف كثيرًا عن بقية الأيام الأخرى، في ظل بقائنا طوال الأسبوع في المنزل؛ كانت ابنتي متعجلة للجلوس على أرجوحة وحيدة تتوسط دارنا.. قالت لأختها بعصبية وحزم: "انزلي بسرعة، ستضيعين وقتي"!

انتبهت للجملة السابقة، كانت تلك كلماتي الأثيرة أيام ما قبل كورونا، كنت كالجميع أهرول خلف العالم أو أحاول اللحاق به إن صح التعبير؛ فالوقت كان دومًا محدودًا بتلك الساعات التي تعقب عودتهما من المدرسة ورجوعي من العمل، ثم تأتي التمارين ودرس الموسيقى والمذاكرة، وإعداد الطعام وتجهيز كل ما سنحتاجه في الغد، ثم الاستعداد للنوم لنستطيع الاستيقاظ مبكرًا ليبدأ يوم جديد.

خلال عدة أيام ربما لم نكن نجد وقتًا لحديث هادئ نحكي فيه أبسط التفاصيل اليومية إلا ونحن في السيارة في طريق لإنجاز مهمة ما. التفتت إلى صغيرتي وقلت: الآن صار لدينا كل الوقت ولسنا مضطرين للعجلة أبدًا.. تمهلي، فبعض الأمور تحتاج إلى التريث.. دعينا نستمتع بالأشياء كلها بلا تسرع. تعجبت ابنتي مما قلته وقدمت محاضرة عن أهمية الوقت وكيف أن إهداره ذنب لا يغتفر، وطبعا ذكرتني أنها كلماتي المكررة

خلال عدة أيام ربما لم نكن نجد وقتًا لحديث هادئ نحكي فيه أبسط التفاصيل اليومية إلا ونحن في السيارة في طريق لإنجاز مهمة ما. التفتت إلى صغيرتي وقلت: الآن صار لدينا كل الوقت ولسنا مضطرين للعجلة أبدًا.. تمهلي، فبعض الأمور تحتاج إلى التريث.. دعينا نستمتع بالأشياء كلها بلا تسرع. تعجبت ابنتي مما قلته وقدمت محاضرة عن أهمية الوقت وكيف أن إهداره ذنب لا يغتفر، وطبعا ذكرتني أنها كلماتي المكررة.

ضحكت وقلت لها تغيرت المعايير يا عزيزتي، فقد أخذوا منا كل ما كان يهدر وقتنا.. لم يعد العمل ثماني ساعات بالإضافة إلى وقت المواصلات، لا دراسة أو تمارين، كما أن المحالّ التجارية مغلقة، وليس هناك أصدقاء يمكنهم زيارتنا…؛ إذن فلنتمهل ونفكر بجدية كيف يمكننا الاستفادة من الوقت من دون إهداره أو الركض خلفه؟

يومها؛ استعدتُ ما قاله ذلك الصحراوي الحكيم، ففضلا عن كونه لم يجرب مثلنا الحياة في ظل كل هذه العقارب المتسارعة التي تجري خلفنا، فقد كان محظوظًا بالتعامل البسيط مع الزمن بقيمته العادية، وليس بما يساويه من مال يترجمه عداد البصمة عند أبواب مقارّ العمل، ولم يخاصمه النوم لأن لديه مهامّ طويلة تفوق ساعات يوم الإجازة الأسبوعية.

ماذا سنفعل غدًا؟ سؤال كنت في حاجة للإجابة عليه مساء كل خميس؛ ففي كل أسبوع كان لدينا يوم جمعة وحيد نسميه نحن "اليوم المفتوح"، ونقصد به التفرغ من أي مهام ضرورية ولا نلتزم بوقت للاستيقاظ.. الآن صار السؤال يوميا، ولا يحتمل التأجيل، ولا يكفي أن نحدد نشاطًا وحيدًا خلاله.

في أول أيام تعطيل الدراسة كنت متفائلة، فكرت في كل تلك الأنشطة التي بوسعها أن تشغل يومهما، أحضرت أدوات للتلوين والرسم.. جمعت قصصا مناسبة لعمر كل منهما، ووجدت لعبة صغيرة لم تقتنيها الصغيرة بعدُ، واشتريت بذورًا جديدة لزراعتها معهما.

أنهينا كل تلك الأنشطة خلال اليوم الأول، وفي اليوم التالي علمت أن الدراسة ستتعطل إلى أجل غير معلوم وربما تكون نهاية العام، وفهمت لحظتها كم ضيعت فرصًا بالتصرف بطريقة قديمة بإهدار كل تلك الأنشطة في يوم.

الوقت.. عدو أم صديق؟ في فيلم "آليس عبر المرآة"؛ كانت المرة الأولى التي أرى فيها تجسيدًا للوقت.. ذلك الشيء الذي اعتبر نفسه مالكًا لكل شيء.. وغير قابل للتدمير أو الهلاك.. المتحكم في تروس حيوات البشر.. ذلك الدقيق بحزم.

كانت الفتاة "آليس" في صراع مع الوقت لتخطف منه كرة الزمن وتعود لتصحح وضعًا حدث قبل أعوام طويلة.. تستطيع بعدها مساعدة صديقها في العثور على عائلته.. حاولت واجتهدت وحصلت على الآلة، ولكنها فهمت أن العودة بالزمن ليست الطريقة السليمة، ولكنها أرهقت الوقت الذي أخبرها ناصحًا بأنها لا تستطيع تغيير الماضي، لكن يمكنها أن تتعلم منه.

الحقيقة العلمية تقول إن اليوم ثابت بعداد ثوانيه ودقائقه وساعاته، وما يغير إدراكنا له هو ما نفعله خلال هذه الوحدة الممنوحة لنا من الزمن، فبعض الأوقات تمرّ ببطء وغيرها يتسرب سريعًا من دون أن نشعر به.

في كثير من أفلام السينما نشاهد ذلك التركيز على عامل الزمن في بناء الحبكة، فيتوقف مصير الأبطال على لحظات بسيطة، قد يفقد أحدهم حياته لتأخره ثواني معدودة، وقد يحصل آخر على ثروة طائلة أو لقاء حب عمره لأنه جاء في التوقيت المناسب.. وهكذا صار الوقت أهم من كيفية إنجازنا للأعمال.

كحلّ مؤقت؛ ارتفع الإقبال على مشاهدة الأفلام عبر كل المنصات والتطبيقات، وطال بقاؤنا على مواقع التواصل لمعرفة آخر الأخبار، وفي الوقت ذاته ظهرت مخاوف من انهيار تلك المنظومة الترفيهية القائمة بالكامل على الإنترنت؛ لذا وجب البحث عن أشياء مختلفة لملء خزان الوقت الذي صار أوسع من خيالنا! هنا سيكتشف كل منا قوة احتماله الحقيقية لاستيعاب مَن حوله حتى أقرب الناس إليه


اختبار قوة التحمل
: على مواقع التواصل الاجتماعي؛ انتشرت النكات حول تأثير الوضع الحالي من إقامة جبرية على العلاقات العائلية، وكيف أن نِسب الطلاق ارتفعت، كما صارت الشجارات العائلية في السماء عالميًا.

كحلّ مؤقت؛ ارتفع الإقبال على مشاهدة الأفلام عبر كل المنصات والتطبيقات، وطال بقاؤنا على مواقع التواصل لمعرفة آخر الأخبار، وفي الوقت ذاته ظهرت مخاوف من انهيار تلك المنظومة الترفيهية القائمة بالكامل على الإنترنت؛ لذا وجب البحث عن أشياء مختلفة لملء خزان الوقت الذي صار أوسع من خيالنا!

هنا سيكتشف كل منا قوة احتماله الحقيقية لاستيعاب مَن حوله حتى أقرب الناس إليه، ولا يعني ذلك أن نبقى مربوطين بأحجار بجوار بعضنا، بل قد يحتاج الأمر أفكارًا مبتكرة للاستمتاع الجمعي والفردي أيضًا، كما أنها فرصة عظيمة لتغيير عدة مفاهيم تتعلق بفكرة الخصوصية حتى بين أفراد الأسرة الواحدة.

حلول الأمهات: كتبت إحداهن على موقع تويتر مجموعة من الأفكار الجادة عن طريقتها في إدارة وقت أبنائها، جدول يومي بمهام محددة.. مذاكرة وتعليم عن بُعد ودورات لاكتساب مهارات جديدة، بهرتني السيدة بكثافة أفكارها، ولكن مع التجربة وجدت كلامها أشبه بآلة تتحدى توقف الزمن بإعادة شحن البطارية ودفع العجلة من جديد، وهي فكرة مهلكة ولن تدوم تشبه العالم القديم.. سباق مع الأشياء والملفات وليس استجابة لفكرة الإبطاء من سرعتنا نحن، وهو آخر ما نحتاجه اليوم؛ فالآن الحل في أن نصادق الزمن لا أن نستعديه.

في أيام طفولتنا لم تكن لدينا كل تلك السبل للمتعة ولا الرقابة الأبوية، لم يكن هناك من يهتم بإمتاعنا أو التربيت على أكتافنا لو لم نحصل على ما نريد من المتعة..، كنا نلعب وندرس ونساعد أهلنا في الزراعة ثم نتعب وننام.

قبل أيام؛ جربت عدة حلول غير محضرة مسبقًا، لا أجيب على سؤال: ماذا سنفعل غدًا؟ كنت أطلب منهما التفكير فيما تريدانه وتستطيعان إنجازه، صرنا نبدأ يومنا باجتماع غير محدد المدة ذكرني بما كان يفعله محمد صبحي في مسلسل "عائلة ونيس"، ولكن هذه المرة يديره الأطفال بالكامل للتعبير عن مطالبهم واقتراحاتهم لإدارة يومهم.

نستخدم جرسًا لضبط مشاركات كل منا.. نمارس الرياضة في فضاء منزلنا الخارجي أو غرفة المعيشة.. نعدّ الإفطار ونتناوله على مهل معًا بعد أن كنا نخطفه سريعًا كل صباح، ننثر بذورًا ونسقيها بانتظار أن تثمر.. نجني ثمارًا كنا قد زرعناها من قبل في حديقة خلفية صغيرة.

بعدها؛ تنهي كل منهما فروضها الدراسية خلال ساعة أو ساعتين على الأكثر، أما أنا فأذهب إلى عملي الذي لا يناسبه نظام العمل عن بُعد فأنهيه في وقت أقل من ذي قبل، لتبدأ دورة جديدة من المهام والاكتشافات..

نطهو غداءنا، نعجن ونخبز ونؤلف خلطات جديدة لأطعمة لم نتذوقها من قبل، نستمتع بفوضى المطبخ قبل أن ننظفها.. نتهكم على ضآلة رغيف الخبز ونحتفل برائحته الشهية، نلوم بعضنا على احتراق الطعام لانشغالنا باللعب، ونقرر أن نتناوله رغم ذلك.. نلهو بألعاب لم نجربها مسبقًا، نضحك على أنفسنا عندما نضبط أحدنا يغش.

نخرج للمشي ليلا.. ونحكي عن أجمل ما أنجزناه خلال اليوم.. نجري اتصالات هاتفية مع العائلة والأصدقاء لنطمئن على أحوالهم، نختار فيلمًا بالتصويت الحر ونشاهده ونحكي عنه بعد متابعته.. نقرأ ساعة على الأقل كل منا وحده أو معًا، نحضّر العشاء ونتشارك مشروبًا ساخنًا.. نقرأ قصة قبل النوم.. يا له من يوم حافل!

نحتاج أن نستوعب أن ما يجري يتطلب وقفة متأنية، فلن تمنحنا المقاومة إلا الخسارة. وبعد انتهاء هذا السكون العالمي ربما تكون واحدة من إيجابياته أن عرّفنا على "الزمن".. ذلك المسيّر لأحداث حياتنا.. الصديق العدو.. تلك الثواني والدقائق والساعات التي تمضي في عقارب متوالية وصارمة

بدأنا الأسبوع الثاني من الاختبار العالمي لـ"أوكازيون" سعة الزمن، وقد يصيبنا الملل قريبًا أو نكتشف أن حيلنا نضبت، ولكن حتمًا اكتشفنا أننا قادرون على خلق معنى آخر للوقت؛ فهو مرتبط بما نريده ونشعر بأهميته.

فلم أكن أتوقع أن نجد كل تلك الأشياء الممتعة لنفعلها كل يوم.. تخيلت أن الوقت سيقتل علاقتنا.. سيجعلني أمًّا تصرخ طوال اليوم لإيقاف الشجار، وسيصبحون ضحايا للأفلام والهواتف والتطبيقات.. لكن العجيب أن وقت المشاهدة قلّ عن ذي قبل.. وباتت هناك فرصة لنمرّ بمزيد من التجارب معًا.

من فضلك خفف سرعتك! تمامًا كتلك العبارة التي تسبق المطبات على الطرق؛ نحتاج أن نستوعب أن ما يجري يتطلب وقفة متأنية، فلن تمنحنا المقاومة إلا الخسارة. وبعد انتهاء هذا السكون العالمي ربما تكون واحدة من إيجابياته أن عرّفنا على "الزمن"..  ذلك المسيّر لأحداث حياتنا.. الصديق العدو.. تلك الثواني والدقائق والساعات التي تمضي في عقارب متوالية وصارمة.

إنها تضعنا في خطوط متوازية لا تتقاطع كثيرًا مع ما نحبه إلا ما ندر.. لنكون بذلك أقرب إلى تروس في نظامها الذي لا يتوقف إلا بفعل فاعل، وقد فعلها فيروس هذه المرة.

من الطرق التي نلجأ إليها بشكل لا إرادي أن نبحث عن الميزات وسط صخب العيوب، فالآن نستطيع تذوق جمال امتداده وعظمة اكتشاف ما يمكننا إنجازه باختيارنا، لم نعد نمتلك رفاهية مقاومة تغيرنا أمام وتيرته البطيئة الجديدة في عالم أصابه العطب فجأة. ربما يحاول الوقت أن يلفت انتباهنا ألا نعود لتلك السرعة التي كنا عليها؛ فحتما لن يكون العالم صاخبًا كذي قبل، وعلى أقل تقدير سيحتاج مدة ليرجع لسرعته.

وربما -خلال اختبارنا الأخير- نكون قد تعلمنا ألا نجري خلف عقرب الثواني بسرعته العالية، لاهثين غير منتبهين لما نفوّته سهوًا، وقد نصادق عقرب الساعات أكثر، ومن غير المستبعد أن نتخذ من عقرب الدقائق حلًا وسطًا، نخفي به رغباتنا البسيطة في الاستمتاع بالأشياء بعيدًا عن الهرولة أو البطء المبالغ فيه، وقد نكون محظوظين لو أدركنا أن الوقت صديق وليس عدوًا، كما أقنعونا في دنيا ما قبل إبطاء السرعة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.