المشرق العربي.. ساحة معركة إقليمية دولية (1-5)
تعيش منطقة المشرق العربي تحت وطأة مستويين من الصراعات؛ مستوى دولي بين الولايات المتحدة وروسيا والصين، وآخر إقليمي بين تركيا وإيران وإسرائيل، مع تداخل المستويين وتشابكهما في ضوء التحالفات العميقة والمديدة والتقاطعات المرحلية والعابرة.
واللافت للانتباه هو انفجار صراع مصالح قومية متناقضة وخيارات سياسية وإستراتيجية متضاربة في حيز جغرافي ضيق، ووقوع هذا الصراع على ساحة دول عربية أنظمتها مهتمة بالبقاء في السلطة ولو على حساب البلاد والعباد، وترد على الموقف الدقيق والخطير -فرديا وجماعيا- بالحد الأدنى، بحيث لا تستفز الخصوم وتجعلهم يعملون ضد حكمها؛ مما جعل المخاطر كبيرة على هذه الدول وشعوبها ومستقبلها.
نظام عالمي ينهار
شهد العالم في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي تطورات عاصفة وعلى أكثر من صعيد، وهي تطورات تقنية وسياسية واقتصادية هائلة ترتبت على كشوف علمية وتطبيقات تقنية وإدارية حوّلت العالم إلى قرية كونية، بسبب ثورة المواصلات والاتصالات والاعتماد المتبادل، وتقسيم العمل الجديد الذي أطلقته الشركات العابرة للقومية.
وتولّد عن ذلك ترابط وتكامل بين مراكز البحث والاختراع وشركات الإنتاج والتسويق؛ مما أتاح فرصا لإطلاق عولمة حديثة ومتطورة كسرت التخوم بين داخل الدول وخارجها، وغيّرت مضمون السيادة الوطنية من حماية الأرض والحدود إلى توازن التأثير والتأثر بين الدولة والعالم الخارجي؛ فالدولة التي تؤثر في الخارج -بقوتها الناعمة أو الصلبة أو بتقديم منافع- أكثرَ من تأثرها به تكون ذات سيادة؛ والدولة التي تتأثر بالخارج أكثر من تأثيرها فيه تفقد جزءا من سيادتها الوطنية حتى ولو كانت أرضها وحدودها سالمة ومصانة.
ارتبط النظام الدولي -الذي نشأ بُعيد نهاية الحرب العالمية الثانية- بدور غربي رئيس، مما رتّب هيمنة وسيطرة غربيتين على قيادته وتسييره بوضع قوانينه وضبط مساراته، حيث غدا التحالف الغربي بمثابة حكومة عالمية تشرف على هذا النظام.
لكن الصورة اهتزت بتعرض النظام الدولي السائد لمراجعات كثيرة؛ فقد حصلت تطورات كثيرة في مجالات السياسة والاقتصاد أدت إلى ظهور قوى إقليمية ودولية، عبّرت عن تطلعات سياسية واقتصادية ومواقف مغايرة ومخالفة للخيارات الغربية والأميركية منها بشكل خاص، ورؤى بديلة للنظام الدولي والعلاقات الدولية السائدة، في تحدٍّ مباشر للهيمنة الأميركية الراهنة ونظامها أحادي القطب.
ارتبط النظام الدولي -الذي نشأ بُعيد نهاية الحرب العالمية الثانية- بدور غربي رئيس، مما رتّب هيمنة وسيطرة غربيتين على قيادته وتسييره بوضع قوانينه وضبط مساراته، حيث غدا التحالف الغربي بمثابة حكومة عالمية تشرف على هذا النظام. لكن الصورة اهتزت بتعرض النظام الدولي السائد لمراجعات كثيرة؛ فقد حصلت تطورات كثيرة في مجالات السياسة والاقتصاد أدت إلى ظهور قوى إقليمية ودولية |
فقد بدأت النمور الآسيوية التحدي في مجالات الصناعة والمنافسة على الأسواق، قبل أن تضربها عواصف الأزمات المالية المحلية والدولية، ونهضت الصين والهند صناعيا واقتصاديا، واستعادت روسيا توازنها الداخلي وانخرطت في مواجهات سياسية وعسكرية في جوارها القريب: جورجيا 2008، وأوكرانيا 2014، والبعيد في سوريا 2015؛ ردا على مساعي غربية لتطويقها واستتباعها.
ومع احتدام الصراع والتنافس؛ أدركت القوى الجديدة الناهضة وزن الغرب الكبير وصعوبة كسر هيمنته عبر مواجهات فردية معزولة، فشكلت بينها أطرا سياسية وأمنية مثل منظمة شنغهاي للتعاون، وأخرى اقتصادية مجموعة البريكس؛ لتشكيل ثقل مواز على طريق كسر الهيمنة الغربية وصياغة عالم جديد قائم على التعددية والندية.
حصل هذا بالتوازي مع ظهور سلبيات العولمة الغربية من فقدان الشعور بالمكان، والاستقرار الاجتماعي والنفسي؛ والحصون التقليدية في وجه تقلبات الحیاة، والخلل في توزيع عوائد وفوائد العولمة بشكل ثابت أو متساو، الذي ترتب على غياب تدخل الحكومات، وما ولّده من غضب واضطراب بعد رفع سقف التوقعات.
أصبحت شرائح كبیرة من الغربیین ترى أن العولمة لم تعد مناسبةً لھا، ولم تعد ترى أي سبب يبرر تسلیم مصیرھا إلى مؤسسات تعاني من اختلال وظیفي قادت إلى استنزاف جیوبھا. وهذا قاد إلى انفجار دعوات شعبوية ضد نظام العولمة القائم وآليات عمله في عودة إلى القومية والحمائية، وجاء الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب بشعاره "أمیركا أولاً"، ودعوته إلى التخلي عن الأطر الجماعية والتعاونية والعودة إلى آليات العمل الدولي القديمة القائمة على العلاقات الثنائية، والتي سادت في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي.
وقد أشاع هذا -مع تراجع القوة الخشنة للولایات المتحدة عن ذروتھا في حقبة ما بعد الحرب الباردة- حالة من القلق والفوضى في آن، وأطلق تنافسا محموما على تجميع أوراق قوة وزيادتها وزجّها في ساحات الصراع والتنافس، فقاد ذلك إلى حالة من التهديد بحيث صارت كل دولة تحاول ضمان أمنها سواء بالدفاع أو بالمبادرة بالهجوم.
عود على بدء
أثّرت الكشوف العلمية والتطبيقات التقنية على صورة العالم تأثيرا صاعقا، حیث أفرزت الأشكالُ الجدیدة من المواصلات والاتصالات والتسلیح قدراتٍ جديدةً، انعكست على السیاسة والاقتصاد والحروب فزعزعت التوازنات المحلية والإقليمية والدولية، وهددت المطالباتُ الشعبیة بالعدالة والمساواة وصعودُ النزعات القومیة الوضعَ القائم في الدول الغربية.
خلخل هذا أسس العولمة والنظام الدولي القائم، وفتح الباب لمواجهات وصراعات متعددة الأنماط والمستويات على طريق إحلال نظام دولي جديد، في ضوء تغير القدرات وتوازن قوى وليدة؛ والعمل على إقرار قواعد جديدة للعلاقات الدولية.
وهذه جميعها -مع الإستراتيجية الكونية التي تتطلبها طبيعة الدول العظمى، والتي تستدعي الاستجابة للتغيرات والتحديات على مستوى الكوكب- دفعت القوى الناهضة إلى تحدي التفوق الغربي، والعمل على احتوائه والحد من هيمنته وسيطرته بمنافسته في مجالات التقنية والاختراعات والاقتصاد والتسلح، والاستحواذ على جزء متزايد من حصته في هذه المجالات بشكل متواتر.
كما دفعت الولاياتِ المتحدة -التي تسعى للبقاء قوة عظمى وحيدة في العالم- إلى إعادة ترتيب سلّم أولوياتها ليتسق مع ما تعتبره مخاطر على نفوذها ومكانتها الدولية؛ إذ سيؤدي فشل الولايات المتحدة -كقوة عظمى مهيمنة- في إيقاف انهيار النظام الدولي الغربي إلى انفجار صراعات إقليمية ودولية، مما سيثير موجة تحولات وتطورات على كل الأصعدة السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية.
دفعت تطورات عالمية عديدة الولاياتِ المتحدة -التي تسعى للبقاء قوة عظمى وحيدة في العالم- إلى إعادة ترتيب سلّم أولوياتها ليتسق مع ما تعتبره مخاطر على نفوذها ومكانتها الدولية؛ إذ سيؤدي فشل الولايات المتحدة -كقوة عظمى مهيمنة- في إيقاف انهيار النظام الدولي الغربي إلى انفجار صراعات إقليمية ودولية، مما سيثير موجة تحولات وتطورات على كل الأصعدة السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية |
أدى التدافع الكبير إلى تحول في الإستراتيجية الأميركية حيث برزت مهام أساسية وذات أولوية: احتواء الصين، واحتواء روسيا، واحتواء إيران. واستدعت المهمة الأولى (احتواء الصين) تشكيل تحالف يمتد من اليابان إلى إندونيسيا وسنغافورة، مرورا بكوريا الجنوبية والفلبين وفيتنام وكمبوديا.
واستدعت الثانية (احتواء روسيا) التركيز على سهل شمال أوروبا والبحر الأسود، مع دورٍ رئيسٍ لبولندا في الشمال ورومانيا في الجنوب، مع التفكير بإدراج تركيا في هذا المحور لتعزيز التوجه المعادي لروسيا؛ كما سيوفر مركزَ ثقل مهم في وجه التوسع الإيراني. واستدعت المهمة الثالثة (احتواء إيران) طرح فكرة الناتو العربي والسعي لجمع الدول العربية وإسرائيل في تحالف واحد.
كل هذا مع إطلاق موجة جديدة من سباق تسلح مكثف مع روسيا والصين بهدف تعزيز قوة الردع، واستنزاف قدرات الخصوم. واستدعى هذا المزيدَ من الاهتمام بالقوى الوسطى الرئيسية في غرب المحيط الهادئ والحدود الأوراسية (أوربا-آسيا)، حيث باتت الولايات المتحدة منشغلة بمحاولة إقناع كوريا الجنوبية واليابان والفلبين وفيتنام باستضافة صواريخها الأرضية متوسطة المدى.
دفع ذلك الصين وروسيا لاستخدام تكتيك العصا والجزرة لمحاولة ثني هذه الدول عن الانسياق وراء التوجه الأميركي، وتوظيف الصين للروابط لاقتصادية المتزايدة مع الفلبين، والحرب التجارية العميقة بين كوريا الجنوبية واليابان، لتقويض شبكة حلفاء الولايات المتحدة بمنطقة المحيط الهادئ. وبدأت روسيا نشر صواريخها متوسطة المدى في أوروبا بوتيرة متدرجة، تحت ستار رواية تقول بأن الولايات المتحدة هي المسؤولة عن إبطال أطر السيطرة على الأسلحة النووية متوسطة المدى.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.