من المأزوم حقا يا رئيس فرنسا؟

ماكرون يتعهد بمواصلة دعم بلاده لتونس
(الجزيرة)

ذات يوم ليس ببعيد سيتوقف رئيس فرنسا، إيمانويل ماكرون، عن النظر في مرآة مكبرة تصيب الناظر فيها بعمى الإدراك لا عمى الألوان، كما نصحه الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، فيكتشف من هو المأزوم حقا الإسلام أم فرنسا؛ بل قل العالم الغربي الذي تنتمي إليه فرنسا.

وقبل أن أسترسل في توصيف أزمة ماكرون وعالمه الغربي الرأسمالي، لا بد أن أعترف أن البشر المسلمين شعوبا وأفرادا، والعرب منهم خاصة، يعيشون لا أزمة واحدة فحسب؛ بل أزمات بعضها مما يجنون به على أنفسهم، وبعضها مما يسومهم به من استعمروا أرضهم، وما زالوا يهزون في وجوههم أسواط الوصاية، فيحنون رقابهم ويكشفون ظهورهم لجلاديهم.

وحتى لا يقول المبهورون بالغرب وحداثته التنويرية إنني أكابر، مثل مهزوم يأبى أن يعترف بهزيمته، فإنني أقر وأعلم أن ما حققه الغرب لشعوبه من تقدم مادي ونفع اقتصادي تنقصه عدالة التوزيع، وقدْر من العدل الاجتماعي تنقصه الأخلاق، وديمقراطية تبادل السلطة في ظل النظام الرأسمالي تنقصها الرحمة تجاه الآخر الخارجي، لا يستطيع أحد أن ينكره أو ينفيه جملة.

بيد أن البريق الساطع كثيرا ما يذهب بالأبصار ويغشى البصائر، وهذا هو حال كثير من الناس في أوطاننا وفي العالم، إذ ينجرف أحدهم مع ما في الغرب من بريق يخفي الحقيقة، كما تخفيها العتمة.

خرج علينا ماكرون ليطالب بانتشال الإسلام من أزمة يعيشها كما زعم، وجاء إلى لبنان، وكأنه يمشي على خطى أسلافه من عهد قريب، وقلد "بطل" رابعة وسام حقوق الإنسان.

 

فالعقلاء والمنصفون في فرنسا والغرب يدركون أن بلدانهم وثقافتهم، هي التي تدب فيها أزمات، وإن لم تبلغ حُماها وأعراضها حدا يستوجب العناية الحثيثة حتى الآن؛ لكن حرارتها آخذة في الارتفاع.

لا تهمني في هذا المقام زيارته للبنان، ولا حفاوته بذاك "البطل"؛ بل حسبي من هذه المحاججة أن نرى من المأزوم الإسلام أم الغرب وثقافته الرأسمالية المتوحشة، ودولة ما يسمى بعصر التنوير الحديث، التي أخذت بالعلم والتكنولوجيا لتزدهر، ولو كان ذلك الازدهار على حساب من استعمرتهم، ونهبت خيراتهم في بقاع الأرض.

فالعقلاء والمنصفون في فرنسا والغرب يدركون أن بلدانهم وثقافتهم، هي التي تدب فيها أزمات، وإن لم تبلغ حُماها وأعراضها حدا يستوجب العناية الحثيثة حتى الآن؛ لكن حرارتها آخذة في الارتفاع.

ماذا فعلت ثقافة "دَعْهُ يمر دعه يعمل" سوى أن أطلقت العنان لجشع المال وأصحابه، وأزاحت كل وازع أخلاقي يحد من الجشع، فتكدست الثروات في أيدي فئة من الناس لا يزيد تعدادها عما نسبته 2 إلى 5% من السكان على أعلى تقدير، أزمة غياب التوزيع العادل للثروات.

وهذه هي، يا سيادة رئيس فرنسا، الأزمة التي تنخر الآن في جسد المجتمعات مثل دمل خبيث سيسمم الجسم إن لم يفقأه المرهم المناسب، أو تستأصله شوكة نطاسي بارع قبل فوات الأوان. واقرأ إن شئت ما كتبه البروفيسور الأميركي "جوزيف ستغليتس" الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد في كتبه، وخاصة كتاباه "ثمن عدم المساواة" (The Price of Inequality) و"الانقسام الكبير" (The Great Divide).

وهذا التوزيع الظالم للثروة لا تعاني منه الولايات المتحدة فحسب؛ بل هو واضح كذلك في أوروبا وكثير من دول العالم الأخرى، التي تنجرف وراء النموذج الغربي بدون حساب للعواقب. إنها أزمة مشتركة وإن كانت بدرجات متفاوتة.

لقد استعبدت الرأسمالية المنفلتة الدولة والمجتمع والأفراد، إن جاز لنا هذا التقسيم. الدولة بساستها وسياساتها وتشريعاتها، تأتمر بما يريده دهاقنة المال من شركات عابرة للحدود والقوميات، وبنوك وصناديق تحوط.

والمجتمع تتلاشى فيه تدريجيا، مع تزايد تكدس الثروة في حسابات القلة القليلة، تلك الطبقة المتوسطة التي ترعرعت من عرق أبنائها الثقافات والعلوم والحضارة، حتى يجد المجتمع نفسه، ذات يوم ليس ببعيد، منقسما إلى فُسْطاطَيْن واحد لأرستقراطيي الغنى المفرط، وواحد للعَالةِ من فقراء اليوم بيومه.

والأفراد أصبحوا، والحال هذه، عبيدا أو بيادق في أيدي من يوظفونهم، سواء في جهاز الدولة المتماهية مع رأس المال، أو في القطاع الخاص. يكدح الواحد منهم فتأخذ الضريبة آخر الشهر جزءا كبيرا؛ مما وصل إلى حسابه في البنك، ليمتص البنك عبر بطاقة الائتمان ما تبقى لديه من ثُمَالَة تسد الرمق.

وهكذا فمعشر الموظفين جميعا يُنتجون ويستهلكون كي تمتلئ صناديق الدولة، وتفيض خزائن الشركات والبنوك، وحين يحين وقت التقاعد لا يجد أحدهم إلا ما يسد الرمق أو أكثر قليلا. إنها دوامة تدور فيها عقول وعضلات هؤلاء المنتجين والمستهلكين، ولا ينبغي لها أن تتوقف فيخسر صاحب رأس المال شيئا من ثروته.

وإن أخطأت الشركات والبنوك يوما في حساب المخاطر وانهار السقف على الرؤوس، كما حدث عام 2008، أو كما يحدث الآن تحت وطأة جائحة كورونا، يجد ذلك المنتج المستهلك نفسه في خيمة في حديقة عامة، أو على قارعة الطريق يطلب إحسانا، بعد أن فقد وظيفته واستولى البنك على بيته المرتهن. نعم لدى الغرب ديمقراطية إثنية؛ لكن هل تكفي الديمقراطية وحدها ليكون العدل الاجتماعي كما ينبغي له أن يكون؟.

 

تكدسات الثروة ورأس المال تنتقل من الغرب إلى الشرق وإلى آسيا خاصة. ويجب أن تعلم، يا سيادة الرئيس، ما يعنيه انتقال تكدس الثروة من جهة إلى أخرى، وما ينجم عنه من انتقال للنمو والإنتاج والريادة العلمية.

هذه يا سيادة رئيس فرنسا واحدة من الأزمات تتعاظم اليوم، إذ يجد الغرب نفسه في مواجهة منافسيه من أهل المستعمرات السابقة، الذين استوعبوا العلم الحديث والتكنولوجيا وانفتحت لهم أبوابها على مصارعها، فها هم يغزون الفضاء، ويتفوقون في تسجيل براءات الاختراع، وإنتاج برامج وأنظمة المعلومات الرقمية، ويطورون ما يحتاجون من أسلحة الدمار الشامل، فلم يعد الخوف والتخويف سلعة في يد الغرب وحده دون سواه.

وها هي تكدسات الثروة ورأس المال تنتقل من الغرب إلى الشرق وإلى آسيا خاصة. ويجب أن تعلم، يا سيادة الرئيس، ما يعنيه انتقال تكدس الثروة من جهة إلى أخرى، وما ينجم عنه من انتقال للنمو والإنتاج والريادة العلمية.

والغرب يدرك ذلك يقينا، ويحاول بكل الطرق أن يكبح تقدم منافسيه شرقا ليظل القرن الـ21 قرنا أميركيا غربيا، كما كان القرنان 19 و20؛ بل إن إعلامه وصحفه يتحدثان عن احتمالات اللجوء للحرب، لمنع أي سيرورة للتاريخ تخالف هواه وتشبثاته. أزمة تهدد العالم بأسره، والخوف هو أن ينزلق الغرب والعالم معه من حافة الهاوية إلى قعرها.

ثمة أزمة أخرى يا سيادة رئيس فرنسا. أنتم في الغرب، إذ جعلتم المنفعة المادية والاقتصادية المتوحشة الهدف الأول، نزعتم الأخلاق من تشريعاتكم ومناهج تعليمكم وعِلْمِكم؛ بل عن الأساس الذي تقوم عليه دولة عصر التنوير، وانظر ما الذي حدث.

ما حال مجتمعات تتوسع فيها ظاهرة الوالد الواحد، وتكثر فيها بيوت إيواء العجزة، وتتفكك الأسرة، ويحجم الناس عن الإنجاب كي لا يتعب ويجد الوالدان في التربية؟ أليست هذه أيضا، يا سيادة رئيس فرنسا، أزمة أخرى؟ ولكنها ليست أزمة مشتركة كسابقتها.

إنها أزمة أخلاق، لو لم تكن مستفحلة في مجتمعاتكم لربما قبلتم أن تعتذروا عن الماضي الاستعماري، وما جره من ويلات على الشعوب ونهب لثرواتها، وفرنسا صاحبة سبق في هذا، ولا حاجة لأن أسوق الأمثلة؛ بل حسبك أيها الرئيس أن تراجع في لحظة صفاء، إن أتاحت لك تلك اللحظة كوابيس الخوف من الخروج من قصر الإليزيه، أن تراجع صفحات ماضي بلادك في الجزائر ودول أفريقيا والهند الصينية والأميركيتين.

إنها أزمة أخلاق أيها الرئيس، لو لم تكن مستفحلة ما كان الغرب بآلاته الإنتاجية الجبارة ليجلب على البيئة المشتركة بين كل المخلوقات على هذا الكوكب، الدمار والفناء بدون رادع أو وازع.

إنها أزمة أخلاق لولاها ما كنت تضع على صدر دكتاتور وساما رفيعا، وتتحالف معه على الإسلام وكلاكما واهم ومأزوم.

فأين الإسلام العقيدة والشريعة من كل تلك الأزمات؟، رغم أن أنظمة نصبها الاستعمار وتزعم الانتماء إليه، تنصلت من كل قيم الإسلام وأخلاقه، ونكصت على أعقابها، فانبرى المأزومون من أمثالك للتطاول.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.