لماذا تبدو الكتابة الروائية صعبة؟
لم أستطع لجم إعجابي بالطريقة التي تكتب بها الروائية العراقية إنعام كجه جي أعمالها، فجاء إطرائي على هيئة سؤال؛ كيف تسردين كل تلك الحكايات المتداخلة والممتدة في الزمن، لشخصيات بأعمار وأمزجة ومصائر متفاوتة، وكأنك تحكين لجارة ما جرى هذا الصباح، بكل مافي الكلام من حميمية وقرب وبساطة؟ لم تزد إنعام على أن قالت: ستعرف حين تصل إلى مثل عمري.
لم أحصل على الجواب بطبيعة الحال، ولم يكن هذا في النهاية مقصدي لأني أعرفه سلفاً، فإنعام التي تكتب مثلما تحكي بأريحية وظرف محبّبين في جلساتنا على هامش معارض الكتب، إنما تفعل ذلك بكامل الجدية. أي أنّ ما يبدو انبساطاً في السرد وجرياناً ناعماً في أحداثه، إنما هو نتيجة جهد وانتباه، دون أن يخصم بالطبع من عبقرية صاحبته.
الكاتب يعرف أنّ الرواية ليست الحكاية فقط، بل هي أقرب إلى رحلة يعصر فيها تجارباً وتأملات وخلاصات أو أسئلة تقود إليها. ويتعذّر فعل ذلك غالباً دون تماسّ حقيقي ونافذ مع الحياة. لكنّ الأكيد أنه يتعذّر فعل ذلك دون قدرة على الانتقاء وتمييز ما يصلح وحذف ما قد تمجّده الحياة لكن يعافه السرد، وتلك مهارات سامقة ولا ريب.
هذا الأمر يكاد يشترك فيه كبار كُتّاب الرواية، فالكولمبي غابرييل غارسيا ماركيز على سبيل المثال، نشر روايته "الجنرال في متاهته" عن محرر أمريكا الجنوبية سيمون بوليفار بعد أن حاز جائزة نوبل، وشهد الجميع بعبقريته الفارقة، دون أن يقوده ذلك إلى التخلّي عن جدّيته البالغة في التحضير لنصّه. فقد عاد إلى الأماكن التي احتضنتْ القصة رغم أُلفتها بالنسبة إليه، كنهر مجدولينا الذي رافق طفولته، وقرأ سيلاً من الوثائق التي تؤرخ لحياة بطله، وتعنّت في محاولة الوصول إلى أدقّ التفاصيل كمقاس حذائه بالضبط، وطريقته البذيئة بالكلام. كما تواصل مع عالم فلك ليدّله على الليالي التي كان فيها القمر بدراً خلال الثلاثين عاماً الأولى من القرن المنصرم، وعاد ليحذف مشهداً يصف تلذّذ بوليفار بأكل المانغو حين تبيّن أنّ الثمرة لم تكن قد دخلت أمريكا الجنوبية حينها.
كل ذلك الكدّ ذوّبه ماركيز في نصّه بكدّ أكبر بحيث بدتْ الحكاية قطعة واحدة لا مكان فيها للندوب والنتوءات، والأهم أنّ العمل لم يُظهر كلّ ذلك التعب الذي استبق ورافق كتابته. هنا تظهر قيمة أخرى ليس من الهيّن نيلها، إذ وبقدر ما يُحسن الروائيّ الاشتغال على روايته، عليه أن يستبطن ذلك في طيّات النص، وألا يتباهى به سافراً فيقدح في الإيهام بصدقية ما جرى. الأمر يُشبه حياكة السجّاد، حين تتداخل الخيوط وتتعقّد لكن في النهاية يجب ألا يبدو شيء من ذلك على صفحة السجّاد، وإلا عُدّ عيباً يصرف الراغبين.
وبالعودة إلى إنعام؛ هل كانت محقّة بالقول إني سأتقن طريقتها حين أصل إلى مثل عمرها؟ أتمنى ذلك، لكنّ الأكيد أنّ كتابة الرواية لا تصبح أسهل مع مرور الوقت وتراكم الخبرات. فأمام نمو التجربة تعمل جملة أمور على كبح أيّ استرخاء قد يتسلّل إزاء عملية الكتابة، فالكاتب ومهما تعدّدت إصداراته، يظلّ يُسابق نفسه، ويسعى مع كل عمل جديد لتجاوز سابقه، وهذا لا يتأتى دون جهد مضاعف. كما أنه كلما اكتسب وعياً بأدوات الكتابة زادت المشقّة عليه، فيجد نفسه يرنو إلى تجويد تلو آخر بغية الوصول إلى رتبة لا تُنال. خاصة حين يزداد معرفة بأنّ الرواية لا تستند فقط على ما يُقال، وإنما كيف يُقال، وهذا يجعل من محاولة الإتيان بأسلوب مختلف ضرباً من العذاب. الكاتب هنا هو كحامل الإزميل بيد والمطرقة بالأخرى، فيما ذهنه هو الرخام الذي يُطرق بشدة وتوالٍ بحثاً عن تشكيل جديد.
كما أنّ الكاتب يعرف أنّ الرواية ليست الحكاية فقط، بل هي أقرب إلى رحلة يعصر فيها تجارب وتأملات وخلاصات أو أسئلة تقود إليها. ويتعذّر فعل ذلك غالباً دون تماسّ حقيقي ونافذ مع الحياة. لكنّ الأكيد أنه يتعذّر فعل ذلك دون قدرة على الانتقاء وتمييز ما يصلح وحذف ما قد تمجّده الحياة لكن يعافه السرد، وتلك مهارات سامقة ولا ريب.
وهناك القارىء الذي لا يكفّ يرفع توقعاته مع كل عمل ناجح، دون أن يتخلّى عن حقّه في رفض ما لايُعجبه أياً يكن التأريخ الذي يقف عليه الروائي. هذا ربما ما يجعل كلّ كاتب حصيف لا يتوقف عن الخوف من قارئه، لأنه يعرف أنّ أي ارتكان إلى الطمأنينة التي تبعثها الأعمال السابقة قد يهوي بكتابه الجديد. ولأنّ القارىء دائماً، وهذه قناعتي، أكثر دراية واطلاعاً وشراسة. على الأقل، هذا هو النموذج الذي برأيي ينبغي وضعه في حسبان كلّ كاتب وهو يستحضر متلقّي إنتاجه.
كل تلك العتبات الشاهقة هي ربما ما جعلتْ الروائيّ الأمريكي ديفيد بالداتشي يكتب مرة بما يُشبه التهكّم " الجميع يعتقد بأنه يستطيع كتابة رواية. إنهم يعرفون بأنهم لا يستطيعون لعب كرة السلّة لأنهم لا يملكون الطول المناسب أو القدرة الرياضية. ولكن يعتقد الناس بأنّ الأمر على هذا النحو: "عندي عقل وعندي حاسوب محمول، إلى أيّ حدٍ سيكون الأمر صعباً؟". أولئك الذين يحاولون، سيعرفون بأنها عمل صعب للغاية".
إذن، وجواباً على السؤال الذي تصدّر هذا المقال؛ تبدو الكتابة الروائية صعبة، لأنها كذلك بالفعل!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.