الخلاف المنهجي حول الحديث بين الشيخين عتر والألباني

التاريخ الإسلامي - تراث
(الجزيرة)

أشرت إشارة عابرة في مقال الأسبوع الماضي إلى الخلاف المنهجي بين شيخنا العلامة نور الدين عتر والشيخ ناصر الدين الألباني رحمهما الله تعالى، فطلب إليّ بعض أهل العلم أن أفصّل في هذه النقطة؛ لأهميتها في فهم منهج الشيخ عتر أولا، وفي فهم طرف من التاريخ الفكري والديني في النصف الثاني من القرن 20 ثانيا؛ فهذا الخلاف يوضح طرفا من اتجاهات التفكير في الحديث النبوي من جهة، وعلاقته بالفقه والصراع الذي احتدم قبل عقود بين المذهبية واللامذهبية من جهة أخرى.

 

حيث كان الحديث ساحة رئيسة لهذا الصراع بين المذهبيين واللامذهبيين، وفي رأيي أن هذا الصراع القديم مهد للصراع الحالي حول الحديث النبوي؛ إلا أن الصراع الأول كان لأجل الخروج من المذهبية بحجة اتباع الحديث (الذي يرون هم أنه صحيح)، بينما الصراع الحالي هو من أجل إقصاء الحديث كلية تمهيدا للتخلص من الفقه، وفي الحالتين كان الحديث هو المدخل الرئيس إلى الفقه بغض النظر عن الموقف؛ رغم أن مصادر الفقه متعددة، ولم تكن تاريخيا مبنية على الحديث وحده.

يتمثل الفارق المنهجي الأول بين الشيخين عتر والألباني في النظرة إلى مدونة الحديث النبوي؛ فالشيخ عتر يسلك مسلك الاستيعاب في حين يسلك الشيخ الألباني مسلك الانتقاء والاستبعاد. وكما بينت في مقال الأسبوع الماضي، فإن رؤية شيخنا تعكسها نصيحته لطالب علم الحديث بأن يعتني بدواوين الحديث الرئيسة الستة وهي صحيحا البخاري (256 للهجرة) ومسلم (261 للهجرة)، وسنن أبي داود (275 للهجرة) والترمذي (279 للهجرة) والنَّسائي (303 للهجرة) وابن ماجه (273 للهجرة). يُضاف إليها مصدران هما: مسند أحمد (241 للهجرة) وموطأ مالك (179 للهجرة) فتصبح 8.

ويضاف إلى هذه الثمانية كتابان جمعا زوائد مدونات حديثية أخرى (تسمى المسانيد والمعاجم) على الكتب الستة، وقد اعتنى بهذه الزيادات كتابان رئيسان:

أولهما "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد" لنور الدين الهيثمي (807 للهجرة) وقد جمع فيه مؤلفه زوائد 3 مسانيد هي مسانيد أحمد، وأبي يعلى (307 للهجرة)، وأبي بكر البزار (292 للهجرة)، وزوائد 3 معاجم للطبراني (360 للهجرة) وهي الكبير والأوسط والصغير.

وثانيهما "المطالب العالية في زوائد المسانيد الثمانية" لابن حجر العسقلاني (852 للهجرة) الذي جمع فيه زوائد 10 مسانيد: 8 كاملة و2 غير مكتملين، فالكاملة هي مسانيد أبي داود الطيالسي (204 للهجرة) وأبي بكر الحميدي (219 للهجرة) وابن أبي عمر العدَني (243 للهجرة) ومسدَّد بن مُسَرْهَد (228 للهجرة) وأحمد بن منيع (244 للهجرة) وأبي بكر بن أبي شيبة (235 للهجرة) وعبد بن حُميد (249 للهجرة) والحارث بن أبي أسامة (282 للهجرة). أما المسندان غير المكتملين فهما: (1) ما فات نور الدين الهيثمي في كتابه السابق "مجمع الزوائد" من مسند أبي يعلى؛ لأن نسخته لم تكن كاملة، (2) والقطعة التي وُجدت من مسند إسحاق بن راهويه (238 للهجرة).

 

في مقابل هذا المسلك، نجد مسلك الشيخ الألباني، الذي سميناه مسلك الانتقاء والاستبعاد، ويمكن رده إلى فكرتين مركزيتين: الأولى رد العمل بالحديث الضعيف مطلقا (وخاصة الحديث الذي يرى هو أنه ضعيف)، والثانية: استبعاد ما يَعده هو ضعيفا من دواوين السنة، ولهذا يوجب فصل وتمييز الصحيح من الضعيف؛ ليقدم للناس ما يسميه بـ"الفقه المصفى"، وقد أطلق على مشروعه "تقريب السنة بين يدي الأمة" وهو مشروع يقوم على أمرين: حذف الأسانيد، وتمييز صحيحها من ضعيفها وفق منهجه وقواعده التي لا يلتزم فيها بقواعد المحدثين النقاد كما لا يلتزم فيها بعمل الفقهاء.

ومن اللافت أن أغلب هذه الدواوين الأصول قد تم تصنيفه في القرن الثالث الهجري "يتقدمها موطأ مالك (179 للهجرة)، ويتأخر عنها معاجم الطبراني (360 للهجرة)"؛ لكن تسديس الكتب قد تم لاحقا بعد أن اكتسبت هذه المصادر القبول من الجماعة العلمية، ومن أوائل من سدّس الستة الحافظ محمد بن طاهر بن القيسراني (507 للهجرة) الذي جمع أطراف الكتب الستة، وابن الأثير الجزري (606 للهجرة) الذي جمع "الأصول الستة" في كتاب سماه "جامع الأصول في أحاديث الرسول". أما محاولات جمع الزاوئد فقد تأخرت حتى القرن الثامن الهجري، وكان للإمام الحافظ العراقي (806 للهجرة) دور بارز في هذا؛ فقد وجّه تلامذته إلى جمع الزوائد على الكتب الستة، وكان منهم الحافظ الهيثمي المشار إليه سابقا، والحافظ البوصيري (840 للهجرة) الذي كتب كتاب "إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة"، والحافظ ابن حجر المشار إليه.

وقد سار شيخنا عتر على سَنن هؤلاء الأئمة، الذين مالوا إلى فكرة الجمع والاستيعاب؛ بحيث لا يكاد يَعزب عنهم شيء من أصول الحديث الموجودة (الأصول هنا معناها المصادر المسندة أو كتب الرواية بالأسانيد)، ولو تأملنا مسالك هذا الجمع سنجده اتخذ 3 أشكال من التصنيف: (1) الجمع بين كتب متعددة، (2) جمع وفهرسة أطراف أحاديث كتب متعددة "كما فعل الحافظان ابن القيسراني والمزي (742 للهجرة)"، (3) جمع زاوئد كتب متعددة على الكتب الستة التي استقر تسديسها.

وفي مقابل هذا المسلك، نجد مسلك الشيخ الألباني، الذي سميناه مسلك الانتقاء والاستبعاد، ويمكن رده إلى فكرتين مركزيتين: الأولى رد العمل بالحديث الضعيف مطلقا (وخاصة الحديث الذي يرى هو أنه ضعيف)، والثانية: استبعاد ما يَعده هو ضعيفا من دواوين السنة، ولهذا يوجب فصل وتمييز الصحيح من الضعيف؛ ليقدم للناس ما يسميه بـ"الفقه المصفى"، وقد أطلق على مشروعه "تقريب السنة بين يدي الأمة" وهو مشروع يقوم على أمرين: حذف الأسانيد، وتمييز صحيحها من ضعيفها وفق منهجه وقواعده التي لا يلتزم فيها بقواعد المحدثين النقاد كما لا يلتزم فيها بعمل الفقهاء.

ولو أخذنا المسألة الأولى -وهي ردّ الضعيف مطلقا- لوجدناها ذات شقين:

الشق الأول: أن مذهب الأئمة الكبار من الفقهاء والمحدثين -بمن فيهم الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو داود وغيرهم- رأوا أن مطلق الحديث الضعيف لا يُرد، وأن بعضه يُحتج به بشروط واعتبارات ليس هنا محل تفصيلها، وأن بعضه الآخر "يُعتَبر به" -باصطلاحهم- أي يبقى محل توقف ونظر ومدارسة ومقارنة بغيره من الروايات في مباحث ما يسمونه علل الحديث، ولا سيما أن مذهب أحمد وغيره أن الضعيف أقوى من الرأي المجرد، كما أن الأئمة من الفقهاء والمحدثين يختلفون في مسالك تقوية الحديث الضعيف وبمَ يتقوى؛ لأن هذه المسائل اجتهادية. ومن هنا وجدنا شيخنا العلامة عبد الفتاح أبو غدة يقول كان الأئمة "يوردون الحديث الضعيف في كتبهم المؤلفة للعمل والاحتجاج، ولا يتحاشَونها أو يرونها منكرا من القول ومهجورا كما يزعمه بعض الزاعمين اليوم… فنبذُ الضعيف غيرِ المطروح وشديد الضعف خروجٌ عن جادة أهل الحديث الأُوَل".

الشق الثاني: أننا حينما نتحدث عن العمل بالضعيف، فإنما نعني الضعيف الذي يحكم عليه الأئمة أنفسهم بأنه ضعيف؛ لأن الحكم على الحديث مسألة اجتهادية، وتختلف من إمام لآخر بناء على القواعد والمنهج، فقد يصح عند إمام ما يضعفه آخر، ومن ثم فإن الضعيف الذي يبحثونه هو الضعيف بناءً على حكمهم هم لا بناء على حكم الألباني وتلامذته؛ فإن حكم الألباني لا يُلزمُ الأئمة السابقين فضلا عن أن يُلزمنا نحن أيضا.

وبخصوص المسألة الثانية -وهي تقطيع دواوين الحديث وتجزئتها- فنجد أن صنيع الألباني في كتب ومدونات الحديث ومن بينها السنن الأربعة مخالفٌ لمقاصد مصنِّفيها ولمسلك الأئمة السابقين، الذين حرصوا على الجمع (تسديس الستة، وجمع الزوائد، وكتب الجوامع، جمع السنن على الأبواب…)؛ فهو أشبه بتعدٍّ على كتب الآخرين، ولاسيما أنه كان يسع الألباني أن يعلق على هذه الكتب دون أن يمزقها باجتهاده الشخصي، ولهذا أنكر عليه بعض كبار علماء عصره منهم شيخنا أبو غدة رحمه الله الذي قال "استمرأ بعض الناس في عصرنا بتر كتب السنن الأربعة وطرح شطرها الذي دونه مؤلفوها الأئمة الأفذاذ… وقطع أواصر تلك الكتب العظيمة، وهو يظن ويزعم أنه قد أحسن صنعا وبئس ما صنع!".

 

لو تأملنا كتب السنن الأربعة -على وجه الخصوص- لرأيناها تقوم على فكرة مركزية هي العمل الفقهي المبكر والاحتجاج له (نحن نتحدث عن القرن الثالث الهجري)، ولذلك سُميت سننا، فأبو داود مثلا صرّح بذلك فقال في رسالة له "وأما هذه المسائل؛ مسائل الثوري ومالك والشافعي فهذه الأحاديث أصولُها"؛ أي إن مسائل فقه هؤلاء الأئمة مستندها هذه الأحاديث التي جمعها في كتابه

ويتمثل الفارق المنهجي الثاني بين الشيخين عتر والألباني في الفقه ومنهجه، فشيخنا عتر -كعامة المحدثين في هذا العصر- يلتزم بالمذاهب الفقهية ومناهجها؛ فيجمع بين الفقه والحديث على طريقة الأئمة السابقين، ولا سيما أنه قد ألح على هذا الجمع أئمة أمثال الرامهرمزي والخطيب البغدادي وابن عبد البر وغيرهم في مصنفاتهم، كما أن كبار أئمة المصطلح من المتأخرين كانوا متمذهبين وأكثرهم شافعية. أما الألباني فإنه جعل نقد الحديث مدخلا للخروج عن مذاهب الفقهاء؛ بل واتهام بعض أئمتهم بمخالفة الحديث، ولهذا أراد أن يُنشئ ما سماه "الفقه المصفى" بناء على إلزام الآخرين بما يراه صحيحا، ونبذ ما يراه ضعيفا، ولا يبالي بعد ذلك إن خالف الأئمة السابقين من فقهاء ومحدثين، ولو وقف عند حدود الالتزام بذلك في خاصة نفسه لكان الأمر هينا؛ ولكنه تجاوز ذلك إلى إلزام المسلمين وعلمائهم بأحكامه.

وإذا تأملنا كتب السنن الأربعة -على وجه الخصوص- رأيناها تقوم على فكرة مركزية هي العمل الفقهي المبكر والاحتجاج له (نحن نتحدث عن القرن الثالث الهجري)، ولذلك سُميت سننا، فأبو داود مثلا صرّح بذلك فقال في رسالة له "وأما هذه المسائل؛ مسائل الثوري ومالك والشافعي فهذه الأحاديث أصولُها"؛ أي إن مسائل فقه هؤلاء الأئمة مستندها هذه الأحاديث التي جمعها في كتابه، ولذلك قال إن "الأحاديث التي وضعتها في كتاب السنن أكثرها مشاهير"؛ أي بين أهل الفقه والحديث، كما أشار إلى أن الحديث المرسل (وهو نوع من أنواع الحديث الضعيف) يُحتج به؛ إذا لم يوجد غيره، ولم يعارض الأحاديث المسندة المتصلة، ووضح أن ما سكت عنه في كتاب السنن هو صالح عنده، وفهم كثير من العلماء من ذلك أنه صالح للاحتجاج.

أما الترمذي فقد جمع أيضا أحاديث كتابه متحريا العمل المتوارث في الأمة إلى زمنه، ولذلك سمى كتابه "الجامع المختصر من السنن ومعرفة الصحيح والمعلول وما عليه العمل"، وقد أشار -بوضوح- إلى أن جميع ما في هذا الكتاب من الحديث معمول به، وقد أخذ به بعض أهل العلم ما خلا حديثين، فهذه مجرد نبذة عن مقاصد مؤلفي كتابين من السنن الأربعة توضح التداخل بين الفقه والحديث من جهة، وأن هذه الأحاديث هي محل قبول وعمل واحتجاج من قبل مجتهدي الفقهاء في الزمن الأول من جهة ثانية، ثم جاء الحافظ ابن حجر فقال "النفوس تركن إلى من أَخرج له بعض الأئمة الستة أكثر من غيرهم؛ لجلالتهم في النفوس وشهرتهم، ولأن أصل وضع التصنيف للحديث على الأبواب [أي السنن]: أن يقتصر فيه على ما يصلح للاحتجاج أو الاستشهاد؛ بخلاف من رَتب على المسانيد فإن أصل وضعه مطلق الجمع".

اتضح مما سبق أن هذه الدواوين المشهورة في جمع السنن إنما جُمعت بعد انقراض الأئمة المتبوعين أصحاب المذاهب الأربعة. ففقههم وفقه غيرهم مما وصل إلينا بعضه؛ إنما كان ثمرة الكتاب والسنة النبوية كما تمثلته أجيال من العلماء والأئمة والرواة في القرون المبكرة، والمتقدمون كانوا أعلم بها منا؛ رغم كل ما توفر لنا من المدونات؛ ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية "لو فُرض انحصار حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها (أي المدونات المشهورة)، فليس كل ما في الكتب يعلمه العالم، ولا يكاد ذلك يحصل لأحد؛ بل قد يكون عند الرجل الدواوين الكثيرة وهو لا يحيط بما فيها. بل الذين كانوا قبل جمع هذه الدواوين كانوا أعلم بالسنة من المتأخرين بكثير؛ لأن كثيرا مما بلغهم وصح عندهم قد لا يبلغنا إلا عن مجهول، أو بإسناد منقطع، أو لا يبلغنا بالكلية، فكانت دواوينهم صدورَهم التي تحوي أضعاف ما في الدواوين، وهذا أمر لا يشك فيه من علم القضية"، وهو يدفع توهم أن توفر التقنيات الحديثة يقتضي مزيدا من العلم واطلاعا أوسع، وهو ناتج عن تصور أجنبي عن الحديث النبوي وعلومه وطرائق نقده لدى الأئمة السابقين.

 

فالجمع والاستيعاب، والعمل، والاجتهاد المنهجي الواسع أو المنفتح 3 مسائل مركزية هنا تميز طريقة شيخنا عتر عن الشيخ الألباني، وهذا يساعدنا على فهم كيف شكل الحديث أداة بيد اللامذهبيين للخروج على المذاهب الفقهية المستقرة عبر قرون متطاولة من أجل تثبيت مرجعيتهم هم في مقابلها واتهام الأئمة السابقين بمخالفة السنة

وأضيف إلى ذلك أن التصحيح والتضعيف مسألة اجتهادية، وهي مبنية على خبرات ومعارف متنوعة على خلاف ما قد يتوهم بعضهم من المناهج، التي نطبقها اليوم أو نظّر لها متأخرو المحدثين الذين يرجع الشيخ الألباني إلى كتبهم ولا يجاوزها، وربما أوهم هو وتلامذته أن حكمهم على الحديث هو حكم في حقيقة الأمر وباطنه، ومن هنا نجد إلحاح علماء مصطلح الحديث عامة على أن حكمهم على الحديث إنما هو بحسب ما يبدو في ظاهر الأمر لا في حقيقته، ومن ثم احتملوا الخلاف وأقروا التعددية في المناهج والآراء، وهو الذي أثبتّه بتوسع في كتابي "رد الحديث من جهة المتن" وكتابي الآخر "قبول الحديث"، وذلك على خلاف مدرسة الألباني، فلو اعتقد الألباني أن حكمه على الحديث هو اجتهاد منه بحسب علمه وبحسب ما يبدو له في ظاهر الأمر لما أطلق تلك التسميات المتساهلة كـ"ضعيف سنن الترمذي" و"ضعيف سنن أبي داود" وغيرهما، فلو التزم الدقة والأمانة العلمية لكان حقه أن يسميه "ضعيف الألباني" لا ضعيف الترمذي وأبي داود.

ولقد أشار الإمام النووي إلى هذا الاختلاف المنهجي في نقد الحديث في سياق رده على نقد الدارقطني للصحيحين، فقال إن "ذلك الطعن مبني على قواعد لبعض المحدثين ضعيفة جدا مخالفة لما عليه الجمهور من أهل الفقه والأصول وغيرهم"؛ بل إن الإمام المحدث المفسر الفقيه المجتهد محمد بن جرير الطبري (310 للهجرة) كان يسلك في كتابه "تهذيب الآثار" مسلكا فريدا، وقد التزم فيه الصحة على منهجه، فنراه يقول "هذا خبر صحيح عندنا، وقد يجب أن يكون على مذهب الآخرين سقيما غير صحيح لعلل"، ثم يذكر تلك العلل بعقل واسع وعلم ماتع. فأين هذا من طريقة الألباني وتلامذته؟. وقد جعل الإمام الحافظ المنذري اختلاف المحدثين كاختلاف الفقهاء، وأن كل ذلك يقتضيه الاجتهاد، فـ"للحفاظ في الرجال مذاهب فعل كل واحد منهم ما أدى إليه اجتهاده من القبول والرد"، ولو أنصف الألباني واتسق مع منهجه لكان حقه أن يميز في فقه أحمد بين "حلال أحمد" و"حرام أحمد"، وكذا مع باقي الأئمة ليُخرج لنا فقهه المصفى قبل موته رحمه الله.

فالجمع والاستيعاب، والعمل، والاجتهاد المنهجي الواسع أو المنفتح 3 مسائل مركزية هنا تميز طريقة شيخنا عتر عن الشيخ الألباني، وهذا يساعدنا على فهم كيف شكل الحديث أداة بيد اللامذهبيين للخروج على المذاهب الفقهية المستقرة عبر قرون متطاولة من أجل تثبيت مرجعيتهم هم في مقابلها واتهام الأئمة السابقين بمخالفة السنة، ولهذا وجدنا عناية عتر بأحاديث الأحكام لمواجهة دعاوى اللامذهبية، ولتقويض مقولة الأثريين في زعم اتباع الحديث بديلا عن المذاهب، فحاول أن يَرُد الأمر إلى نصابه بتحرير محل النقاش، وأنه ليس في (عدم الاستدلال بالحديث)؛ بل في (كيفية الاستدلال به) واقتناص الأحكام من ألفاظه، كما أن العلامة الشيخ محمد عوامة كتب كتابه المهم في هذا السياق حول "أثر الحديث الشريف في اختلاف الأئمة الفقهاء" لمواجهة توجه الألباني وللدفاع عما أسماه "خط سلف الأمة وخلفها"، وقال "ما كتبت هذه الصفحات إلا دفاعا عن الحديث الشريف سند الشريعة الغراء أن يعبث بها العابثون باسم الحديث الشريف والسنة المطهرة"، وقد لقي كتابه استحسانا لائقا به من بعض علماء عصره كالمحدث محمد زكريا الكاندِهْلِوي، والمحدث حبيب الرحمن الأعظمي، والشيخ أبو غدة الذي وصف الكتاب بأنه جاء "لرد الشاذين عن مَهْيَع الطريق بدعوة الداعين إلى التشويش على الأئمة المتبوعين".

كوّن الشيخ الألباني رحمه الله نفسه بنفسه، ولذلك كان متحررا من التقاليد العلمية وقواعدها، وقد كُتبت في نقده ومخالفاته وتناقضاته كتب، وهذه نقطة مركزية انتقده لأجلها عامة علماء عصره ممن لهم نسب وسلف وأسانيد وتقاليد يلتزمون بها، وكان شديد النقد والتهجم على العديد من الأئمة السابقين من محدثين وفقهاء. في حين كان شيخنا عتر على خلاف ذلك شديد التبجيل والتوقير للأئمة السابقين، وشديد الوفاء لأشياخه يذكرهم ويدعو لهم، وهو ما يذكرنا بأحد درجات العدل كما أوضحها الإمام الراغب الأصفهاني؛ وهي أن يستعمل "العدل بينه وبين أسلافه الماضين في إيثار وصاياهم والدعاء لهم". فاللهم اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، واجزِ عنا أئمتنا ومشايخنا خير الجزاء.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.