تحديات وسيناريوهات محتملة.. كيف يبدو السودان عام 2020؟

جدل كثيف بشأن موازنة 2020 المالية في السودان

يخطو السودان نحو العام الجديد وهو مثقل بتركة من التحديات التي تواجه عملية الانتقال بعد الإطاحة بنظام الرئيس المعزول عمر البشير. وفي هذا المقال يرصد عبد الباقي الظافر هذه التحديات والسيناريوهات المحتملة بشأنها.

منتصف يناير/كانون الثاني الجاري كان رئيس الوزراء عبد الله حمدوك يتوسط غلاف مجلة فورين بوليسي الأميركية.. المقال المترع بالمعلومات كان يشفق على القادم الجديد لعالم السياسة السودانية باعتباره يحمل حملا ثقيلا على ظهره. وقبل أن يرى المقال التعريفي النور بيومين كانت الخرطوم قد شهدت تمردا لبعض لمجموعات من قوات هيئة العمليات التابعة لجهاز الأمن والمخابرات. هيئة العمليات يقدر عددها بـ 12 ألف مقاتل جيد التدريب. رفض نصف هذه القوات الاندماج في القوات المسلحة بعد أن صدر قرار بتسريحها. التمرد الفريد في تاريخ السودان لم يكن سوى مؤشر صغير لما تواجه الحكومة الانتقالية من صعاب وتحديات في العام الجديد. لكن رغم تلك العتمة فإن ضوءا ينتظر السودان نهاية النفق.

حكومة الرجل المحظوظ:

قبل أسابيع كنت أسير بشارع شيكان المفضي إلى حارات الثورة بأم درمان والتي تمثل الضلع الثالث في العاصمة المثلثة. وشيكان معركة مهمة في تاريخ السودان حيث انتصرت قوات المهدية على جيوش الحكم المصري التركي على السودان. لفت نظري مكان صغير لصيانة السيارات وقد أعاد صاحبه تسميته حمدوك تيمنا برئيس وزراء الفترة الانتقالية الدكتور عبد الله حمدوك.. وعلى البعد من ذات المكان لافتات أخرى تحمل عبارة شكرًا حمدوك واُخرى تحمل لعنات على حكام السودان السابقين والذين عزلهم الشعب في انتفاضته المجيدة في ديسمبر/كانون الأول 2018.

ملف العلاقات الدولية وفك العزلة المضروبة على السودان لم يكلف حكومة حمدوك سوى طرق الأبواب.. غالبا وفي حكم المؤكد أن يشهد العام الجديد ازالة اسم السودان من القائمة الاميركية للدول الراعية للإرهاب.

المرور على هذا الشارع برمزيته التاريخية يضعك تماما أمام الآمال التي يضعها السودانيون على الحكومة الانتقالية والفرص العظيمة لأن يصبح 2020 عام انتقال من ضيق الشمولية إلى رحاب الديمقراطية.. لا تنحصر الفرص في مجرد الإجماع الشعبي ولا التأييد الواسع الذي تحظى به الحكومة الانتقالية فحسب، الفرص تتمدد على ترحيب منقطع النظير من دول العالم.. لا أحد تقريبا يعادي هذه الحكومة. بل إن ملف العلاقات الدولية وفك العزلة الدولية المضروبة على السودان لم يكلف حكومة حمدوك سوى طرق الأبواب.. غالبا وفي حكم المؤكد أن يشهد العام الجديد إزالة اسم السودان من القائمة الأميركية للدول الراعية للإرهاب. تلك مساحة جديدة ومهمة ستمكن السودان من الاستفادة من كثير من المساعدات المالية بما في ذلك فرص تمويل واسعة من المؤسسات الدولية. كما أن مؤتمر أصدقاء السودان -والذي يشمل دولا عربية وغربية ومن المقرر أن تعقد جلسته الحاسمة في أبريل/نيسان المقبل- من المتوقع أن يضخ أموالا يحتاجها السودان بإلحاح كبير.

لا بد من السلام وإن طال السفر:
السلام بات في متناول يد السودانيين. كل الحركات المسلحة وضعت السلاح وانخرطت في مفاوضات في جوبا عاصمة دولة جنوب السودان، وهذه المفاوضات قد تبدو معقدة وشاقة لكنها ستثمر في النهاية سلاما ينهي عقودا من الحرب الأهلية والتي كانت سببا في انشطار السودان إلى دولتين في يوليو/تموز 2011.

بعد سقوط النظام الشمولي في أبريل/نيسان 2019 لم تعد الحرب خيارا إلا لمن أبى السلام ومن يأبى السلام لن يجد له نصيرا ممولا من دول الجوار والتي تسعى لدعم الحكومة الجديدة، وربما أبرز الشواهد على مكانة السودان الجديد هي تنازل جيبوتي عن رئاسة منظمة الإيقاد الإقليمية لصالح السودان.

لكن كل تلك الفرص بالإمكان أن تتبدد إن لم يحسّن السودانيون إدارة عام الانتقال التأسيسي 2020. الحكومة تواجه تحديات ضخمة من بينها السلام الاجتماعي.. انهيار النظام السابق -والذي كان يعتمد على القبضة الأمنية في تسيير دولاب الدولة- أغرى مجموعات كثيرة على الأفراط في تجاوز القانون كما حدث من قوات هيئة عمليات جهاز الأمن والمخابرات التي تمردت في 14 من يناير/كانون الثاني الجاري.

في خواتيم العام المنصرم تحول خلاف بسيط في مقهى شعبي بمدينة الجنينة غربي السودان إلى حرب قبلية أوقعت نحو أربعين قتيلا وعشرات الجرحى. مهمة إطفاء تلك الحرب جعلت رئيس الوزراء يشد الرحال إلى هناك مع بعض أعضاء حكومته وأعضاء بارزين في المجلس السيادي. ذات الأحداث وقعت شرقي السودان في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وأجبرت حمدوك ليقوم بمهمة رجل الإطفاء حيث وقعت القبائل المتقاتلة اتفاقا هشا ربما تذروه رياح الخلافات في أي وقت.

السلام الاجتماعي قد يزداد وهنا على وهن بعد رجوع الحركات المسلحة لربوع الوطن بأحلام عريضة مع واقع لا يسع تلك الأحلام ومناخ موات للخلافات القبلية، كما أن المليشيات المحسوبة على النظام ربما يرتفع صوتها وربما ترتفع نيران الذخيرة احتجاجا على قرارات التسريح والإحالة للتقاعد.

السلام الاجتماعي قد يزداد وهنا على وهن بعد رجوع الحركات المسلحة لربوع الوطن بأحلام عريضة مع واقع لا يسع تلك الأحلام ومناخ موات للخلافات القبلية، كما أن المليشيات المحسوبة على النظام ربما يرتفع صوتها وربما ترتفع نيران الذخيرة احتجاجا على قرارات التسريح والإحالة للتقاعد

تجرع الدواء المر:
فرص الإصلاح الاقتصادي ستكون واحدا من التحديات العظيمة التي تواجه حكومة السودان الانتقالية، حيث لا تتوفر إرادة سياسية لشراب الدواء المر والمتمثل في رفع الدعم عن السلع الأساسية. هذا الدعم يستهلك نحو 251 مليار جنيه أي حوالي 40% من حجم الموازنة الجديدة. ولتقريب الصورة فإن أسعار الوقود في السودان والذي يستورد كثير من احتياجه من الخارج تظل هي الأقل على مستوى العالم، ويأتي السودان بعد فنزويلا مباشرة والتي تعتبر من الدول المنتجة للنفط والمصدرة له. دولار أميركي واحد يمكن أن تشتري به نحو تسعين قطعة خبز رغم أن السودان يستورد معظم حاجته من القمح من الخارج، وقد تهاوى سعر العملة الوطنية (الجنيه) أمام الدولار حيث تراجعت قيمة الجنيه بنحو 40% منذ أبريل/نيسان من العام الماضي.

ويعتقد خبراء اقتصاديون عديدون أن رفع الدعم أو إعادة هيكلته بحيث يصل للفقراء على وجه الحصر هو الطريق القصير نحو التعافي الاقتصادي، ورغم ذلك ترددت قوى الحرية والتغيير التي قادت الثورة في السماح لحكومتها في المضي قدما في ذلك الاتجاه، وقامت بإجبار الحكومة على التراجع عن خطط الإصلاح، ورهنت ذلك بعقد مؤتمر تشاوري في مارس/آذار المقبل. هذه الأوضاع جعلت وزير المالية الجديد يلوح بالاستقالة في ظل عدم توفر بدائل توازن بين ما يطلبه الشارع من رخاء وما يحتاجه الاقتصاد من حزم.

العدالة وبناء المؤسسات:
يحمل العام الجديد تحدي بناء مؤسسات الانتقال. مازال المجلس التشريعي في رحم الغيب في انتظار ما تسفر عنه مفاوضات السلام في جوبا. هذا الغياب وفر مساحة أوفر لتحرك الجنرالات الذين انقلبوا على النظام السابق في الساعات الأخيرة من عمر الثورة الشعبية، حيث يتولى المجلس السيادي ومجلس الوزراء مهمة التشريع في غياب المجلس التشريعي مما أدى للإبطاء في عملية الإصلاح السياسي والتي لا تروق لجنرالات المؤسسة العسكرية والذين يميلون للمحافظة وعدم تجاوز الأطر القديمة.

وفي هذا السياق لم تجدد الحكومة ولاية قضاة المحكمة الدستورية ولم يبق على رأس العمل من بين تسعة قضاة إلا رئيس المحكمة والذي ينتهي عقده العام المقبل. وتمثل العدالة الانتقالية واحدا من الملفات الحساسة، ويمثل العام الجديد نقطة تحول مهمة جدا، بدءا من مصير الرئيس المعزول الذي طالبت بعض القوى السياسية بتسليمه للمحكمة الجنائية الدولية لمحاسبته على الانتهاكات التي حدثت في دارفور خلال سنوات الحرب هناك، وهو خيار لا يجد حماسا من رئيس الحكومة الانتقالية -حسب مقربين منه- فضلا عن رفض كبير من المكون العسكري في المجلس السيادي، والذي يخشى أن تصل النيران إلى أطراف ثيابه باعتبار أن أبرز وجوه هذا المكون شكلوا وجودا في المشهد العسكري بدارفور خلال سنوات الحرب.

تمثل العدالة الانتقالية واحدا من الملفات الحساسة ويمثل العام الجديد نقطة تحول مهمة جدا. بدءا من مصير الرئيس المعزول والذي طالبت بعض القوى السياسية بتسليمه للمحكمة الجنائية الدولية لمحاسبته على الانتهاكات التي حدثت في دارفور خلال سنوات الحرب هناك

ويمثل إنصاف ضحايا الثورة من الشهداء والجرحى أحد أبرز تحديات العام الجديد رغم أن الحكومة كونت لجنة للقيام بهذه المهمة المعقدة وانتهت مهلة الأشهر الثلاثة الممنوحة لهذه اللجنة دون أن تفعل شيئا سوى طلب التمديد. ويبرز التحدي في الإحساس أن العدالة لن تستطيع أن تصل لمن أمر بفض اعتصام القيادة العامة في الثالث من يونيو/حزيران 2019 والذي يشتبه أن يكون أحد القادة العسكريين المتنفذين في الشأن، وأن المسؤولية التقصيرية في عدم وقف العنف قد تشمل أعضاء بارزين في المجلس العسكري الذي كان يتولى السلطة آنذاك.

كيفية الموازنة بين إرضاء الشارع وذوي الضحايا وفي ذات الوقت عدم جر البلاد لمواجهة جديدة ستكون امتحانا أمام حكومة حمدوك.

المواجهة مع الجنرالات.. متى أوان المعركة؟
تجنب المواجهة سينتقل إلى حيّز التعامل مع المكون العسكري في المجلس السيادي. الوثيقة الدستورية جعلت من المكون العسكري طرفا أصيلا في المعادلة السياسية، لكن هنالك نقاط اشتباك بين الحكومة المدنية والمكون العسكري. الجنرالات ينظرون إلى القوات المسلحة بكل أطيافها من جيش وأمن وقوات الدعم السريع باعتبارها جزيرة محررة من قبضة المدنيين.

على سبيل المثال تم تعيين والي من عهد حكومة البشير نائبا لمدير جهاز المخابرات، لم يكن الأمر سهل الهضم للحكومة المدنية ولكنها تجاوزت الأمر وتعاملت معه باعتباره واقعا، لكن هنالك قضايا أخرى لن تمر بذات اليسر في العام الجديد من بينها فكرة هيكلة القوات المسلحة والتي أشار اليها حمدوك في خطابه للشعب في 25ديسمبر/كانون الأول الماضي حيث أشار إلى عزم حكومته بِنَاء جيش جديد بعقيدة قتالية جديدة.

بعد نحو أسبوع وفي اليوم الأخير من العام المنصرم كان رئيس مجلس السيادة الجنرال عبد الفتاح البرهان يرد على الإشارة برسالة أن القوات المسلحة ستظل عصية على الاختراق محافظة على وحدتها. وغالبا ما يتم تأجيل البت في أمر مستقبل قوات الدعم السريع إلى أجل يتجاوز العام الحالي. لكن الملف الحساس سيكون قابلا للانفجار في أي وقت.

حمدوك ينتظر السلام ليعيد توازن القوة في الجيش، كما يعتقد أن انتهاء الحرب في اليمن بتسوية سلمية سيجرد الدعم السريع من أهم مصادر قوته المتمثل في الإسناد المالي من الحلف السعودي الإماراتي، وعندها سيُصبِح الملف سهل المعالجة.

ماذا لو انفرط العقد؟
يواجه السودان تحديا آخر يتمثل في هشاشة التحالف الحاكم والمتمثل في الحرية والتغيير. بعض مكونات هذا التحالف مثل الحزب الشيوعي اختارت في وقت مبكّر الاصطفاف مع الشارع والتغريد خارج السرب الحكومي، والجمع بين ميزة أن تكون شريكا في الحكم وفي ذات الوقت معارضا للحكومة جعلت قوى أخرى تقترب من النموذج الشيوعي. فقد صرح رئيس حزب المؤتمر السوداني عمر الدقير أن حكومة حمدوك أقل من قامة الثورة.

على ذات المسار مضى حزب الأمة والذي منح زعيمه الإمام الصادق المهدي -في لقاء تلفزيوني- الحكومة درجة 40% فقط وهي درجة ليست كافية للنجاح في امتحان السياسة في السودان. وعلى ذات النحو يمكن قراءة رفض تجمع المهنيين وتحالف الحرية والتغيير لموازنة العام الجديد باعتبارها محاولة لتمييز الموقف السياسي.

ويبقى الحديث عن انقلاب عسكري ضربا من كذب المنجمين في عالم السياسة، فالتحولات الجديدة تصعب من مهمة صناعة انقلاب تقليدي على الأقل مع المعطيات الراهنة في المعادلة السودانية ذات التعقيد الشديد

معظم القوى السياسية في تحالف الحرية رفضت قانونا يضع قيودا على حرية التعبير من أجل حماية الثورة، كما جاء في إفادة تقدم بها متحدث باسم مجلس الوزراء وتزامن ذلك مع إغلاق بعض المؤسسات الإعلامية بقرارات إدارية للاشتباه بأنها تمثل واجهات للنظام السابق.. وهنا يقفز السؤال: من يؤيد حكومة حمدوك مع كل هذه المواقف المتحفظة؟ الاجابة تمضي مباشرة نحو الشباب الذي صنع الثورة ويرى في حمدوك أمل الأمة في التغيير.

السيناريو السيئ:
التحدي الأكبر يتمثل في سؤال: ماذا لو خذل العالم حمدوك؟ حيث إن ميزانية العام الجديد تعاني عجزا يتجاوز الثلاثة مليارات ومئتي مليون دولار في المقاربة بين الصادر والوارد. وهذا المبلغ الضخم يتوقع وزير المالية أن يتصدق به العالم على حكومة الثورة، وقد ضرب لنا مثلا بما تتلقاه الحكومة الإثيوبية من مساعدات عالمية تتجاوز هذا الرقم.. لكن ماذا إذا تباطأ العالم أو فرض شروطه بإجراء إصلاح اقتصادي قاس ولم يتحمله الشارع؟ غالبا ما تتغير المعادلة المتفائلة إن حدث هذا السيناريو السيئ عبر تبدد الرصيد الشعبي للحكومة المدنية.

لا انقلاب يلوح في الأفق:
في غالب الأمر تتمتع الحكومة الانتقالية بفرص أكبر للعبور بالسودان لبر الأمان، مقابل مخاطر محدودة لن تقصم ظهر الديمقراطية الوليدة ولكنها قد تفتح الطريق أمام تعديلات سياسية تعصف برئيس الوزراء أو على أقل تقدير تجري تغييرا واسعا في مجلس الوزراء، كما حدث مع حكومة سر الختم الخليفة التي تكونت في أعقاب ثورة أكتوبر/تشرين الأول 1964 ليعود قادة الأحزاب لممارسة الحكم بالأصالة والترتيب لانتخابات مبكرة تبدأ قبل النصف الثاني من الفترة الانتقالية.

ويبقى الحديث عن انقلاب عسكري ضربا من كذب المنجمين في عالم السياسة، فالتحولات الجديدة تصعب من مهمة صناعة انقلاب تقليدي على الأقل مع المعطيات الراهنة في المعادلة السودانية ذات التعقيد الشديد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.