"القادمون".. من هم الطلبة العرب في الغرب؟
في يونيو/حزيران من كل عام؛ يتخرج آلاف الطلاب العرب في الجامعات الغربية بأوروبا وأميركا الشمالية، وتتضارب التعريفات والأرقام والمعلومات عن هذه الفئة المتزايدة والمهمة ودورها في المجتمع العربي، والتي تعتبر اليوم بلا شك "مخزن الخبرات وأكبر قوة قادرة على التغيير المجتمعي والفكري في مجتمعنا".. هم "القادمون" لا محالة بأكبر حراك مرتقب للتغيير الفكري سيعرفه العالم العربي في العقود الثلاثة المقبلة.
ويبقى السؤال الأكثر تعقيدًا هو متى؟ ولماذا يتراجع العالم العربي فكريًّا واجتماعيًّا رغم تزايد أعداد متعلميه بالخارج؟ وما الأسباب؟ وأين يكمن الحل؟ وما مشهد حركة العقول في العالم العربي في الثلاثين سنة المقبلة؟ وكيف تلعب دول الخليج دورًا أساسيًّا في الحراك العلمي للعالم العربي؟
من هم "القادمون"؟
يسافر سنويا ما يقارب مئة ألف طالب يحملون جنسيات عربية للدراسة بالجامعات الأميركية والكندية والأوروبية والأسترالية؛ حسب التقارير الأممية لليونيسكو في 2012 والمحدثة بتقرير المعهد الدولي للتعليم في 2018، وهم يشكلون ما يقارب 6% من نسبة الطلبة المغتربين في الجامعات الغربية، التي يحتل الطلاب الصينيون نصيب الأسد في عدد الطلبة المغتربين فيها.
بالنظر إلى الإحصاءات الصادرة من الجهات الرسمية العربية لجنسيات الطلبة العرب المبتعثين بصورة رسمية؛ تحتل السعودية والكويت وفلسطين والأردن النصيب الأكبر. وتغيب عن هذه الإحصاءات أعداد كبيرة ممن يسافرون على نفقتهم الخاصة أو بمنح غربية، وتمثل هذه الفئة ما يقارب 36 ألفا سنويا من جنسيات مختلفة، أغلبهم من مصر والمغرب وتونس والجزائر |
وهذه الأرقام في تزايد مطرد نتيجة حركة هجرة العقول المستمرة بسبب عدم الاستقرار الذي تمر به المنطقة. وبينما يعود 82% من الطلاب الصينيين إلى بلادهم؛ لا يعود إلا ما يقارب 5% من الطلبة العرب إلى دولهم الأصلية، حسب الدراسات.
ونعرّف هنا الطلبة العرب المغتربين بأنهم الطلاب الذين يتحدثون اللغة العربية في الجامعات الغربية، ويمكن تقسيمهم إلى ثلاث مجموعات:
1- المغتربون العرب القادمون مباشرة من موطنهم الأصلي.
2- المغتربون أبناء المهاجرين في دول الخليج.
3- أبناء الجيل الثاني من المهاجرين العرب في الغرب، وهم يحملون جنسيات دول نشأتهم ولا تشملهم الدراسات المذكورة أعلاه.
وسنختصر هذه الشرائح الثلاث في مصطلح "القادمون".
صورة (2)
وتتفاوت هذه الشرائح الثلاث في رؤيتها للتعلم والتأقلم مع الحياة في الغرب،والحنين والانتماء والانشغال بهموم الوطن الأصلي. وسيكون كل من هذه الفئات موضوع مقال ودراسة مستقلة؛ ولكننا سنرصد هنا ملاحظات عامة عن "القادمون" من خلال عدة لقاءات باتحادات الطلاب العربية في الجامعات الغربية في السنوات العشر الماضية، وذلك في غياب إحصاءات دقيقة عن الفئات الثلاث المكونة لهذه الشريحة المجتمعية المهمة.
بالنظر إلى الإحصاءات الصادرة من الجهات الرسمية العربية لجنسيات الطلبة العرب المبتعثين بصورة رسمية؛ تحتل السعودية والكويت وفلسطين والأردن النصيب الأكبر. وتغيب عن هذه الإحصاءات أعداد كبيرة ممن يسافرون على نفقتهم الخاصة أو بمنح غربية، وتمثل هذه الفئة ما يقارب 36 ألفا سنويا من جنسيات مختلفة، أغلبهم من مصر والمغرب وتونس والجزائر.
وبجمع الفئتين (أي المبعوثين رسميا والدارسين على نفقتهم الخاصة)، وبنظرة أكثر دقة للدول التي درس فيها هؤلاء الطلاب (بغض النظر عن جنسياتهم)؛ ستجد أن الكويت وقطر والإمارات تفرز النصيب الأكبر من الدارسين بالجامعات البريطانية والأميركية والكندية، بينما تتفوق المغرب والجزائر وتونس في عدد الدارسين في الجامعات الأوروبية، خاصة الفرانكفونية، وتتقدم كل من قطر والكويت بأكبر نصيب للطلبة الدارسين بهما والملتحقين بجامعات القمة في الولايات المتحدة.
وفي مجمل هذه التصنيفات؛ يرى المراقب أن أبناء المقيمين العرب في دول الخليج هم بلا شك الشريحة الكبرى في الطلبة العرب بالجامعات البريطانية والأميركية، يليهم مواطنو دول مجلس التعاون الخليجي خاصة السعودية. ويرجع التزايد الملحوظ في أعداد أبناء الفئة الثانية من المغتربين إلى عدة عوامل اجتماعية واقتصادية مركبة، تتمركز حول وجود ظروف اجتماعية ومادية متميزة للآباء تسهل إرسال الأبناء للدراسة بالخارج.
مفهوم الغربة لطالب العلم يختلف تمامًا عن مفهومه للاجئين والمهاجرين من فئات مختلفة؛ فالغربة للطالب العربي لا تعني وجوده في مكان بعيد عن وطنه بقدر ما تعني عدم وجود مكان للعودة إليه |
تحديات الحياة بالغربة
مفهوم الغربة لطالب العلم يختلف تمامًا عن مفهومه للاجئين والمهاجرين من فئات مختلفة؛ فالغربة للطالب العربي لا تعني وجوده في مكان بعيد عن وطنه بقدر ما تعني عدم وجود مكان للعودة إليه، وهذه حقيقة موجعة تجمع الفئات الثلاث المذكورة أعلاه، إذ يرى أغلب الطلبة العرب أنهم غير قادرين على التعايش الفكري مع مجتمعاتهم -التي أتوا منها- بعد قضاء فترات الدراسة في الخارج.
وليس ذلك بغريب؛ فالمغتربون من الفئة الأولى (أي العرب القادمين مباشرة من موطنهم الأصلي) يجدون هذه الصعوبة بسبب التراجع الاقتصادي والفكري المستمر الذي عرفته دول عربية كثيرة، جرّاء تعاقب أنظمة قمعية أجهزت على الحياة الفكرية، وجعلت المتعلمين أغرابًا في أوطانهم، التي تغيب فيها فرص العمل الكافية للمؤهلين في الخارج، وتتراجع الأجور لدى الكفاءات المهنية مقارنة بالدول الغربية أو حتى بسوق العمل المحلي.
وبالتالي يجدون في السفر من أجل الدراسة فرصة حقيقية لرسم هوية جديدة لهم، يكون أساسها الانتماء المهني والأسري قبل الانتماء الوطني (سواء في دولة الإقامة أو بلد الأصل) الذي قد يقصيهم من الحياة المهنية والاجتماعية في بعض الأحيان.
وبالنسبة للطلبة العرب -من الذين وُلدوا وتربوا في الخارج- فإن همّهم الأول هو النجاح والتقدم في موطنهم للمنافسة على الوظائف، والوصول للنجاح في مجتمعهم أسوة بأبناء دولة الميلاد والنشأة.
صورة (3)
وهم لا يرون بالضرورة الالتزام بمساعدة دول منشأ أهاليهم، حيث تربطهم بها علاقة أساسها حنين آبائهم لعالم مجهول بالنسبة لهم، كان هو السبب في اختلافهم عن محيطهم وفي تقليص فرص اندماجهم المهني أحيانا، ولذلك لا يرون أنفسهم جزءا من مجتمعات أهاليهم الأصلية. وتسهم أيضًا الصورة السلبية للعرب في الإعلام الغربي في رغبة هؤلاء في الانفصال نفسيًّا وثقافيًّا ومهنيًّا عن ثقافة أجدادهم.
السؤال الحقيقي ليس: هل يحتاج العالم العربي لمغتربيه؟ بل هو: هل يحتاج لأفكارهم التي يحملونها من تعددية ثقافية وانفتاح، وقبل كل شيء الرغبة في التغيير والتطور؟ ومع أن العالم العربي ومغتربيه يتفقون في الأهداف التي يصْبون إليها من إنشاء مجتمعات متعلمة وتحقيق رخاء اقتصادي؛ فإنهم يختلفون في اتخاذ الطرق المؤدية لها |
وتجتمع الفئات الثلاث في شعورهم بغياب سبب حقيقي للعودة بعيدا عن هذه الرغبة العاطفية، حيث تنفرد المجتمعات العربية بانتظارها عملية الإصلاح من مهاجريها قبل أهل البيت، ولهذا أسباب تاريخية واجتماعية عديدة؛ منها ارتباط عمليات الإصلاح عبر التاريخ بالمهاجرين والقادمين من خارج حدود الوطن.
ولذلك اعتمدت الأنظمة القمعية -عبر العصور- على مبدأ تخوين المغتربين، في نموذج ينفرد به أيضًا العالم العربي؛ فقد نشرت هذه الأنظمة فكرة أن المغتربين يجهلون أو لا يكترثون بواقع مواطنهم الأصلية، وأن خبراتهم في الغرب لا تُطبّق في عالمنا، محوّلين بذلك المشهد العشوائي الذي نعيشه إلى عِلم هم أهله وفقهاؤه.
وفي تارات أخرى؛ تفتخر هذه الأنظمة بنجاح مغتربيها في الخارج ما دام هذا النجاح ظلّ مادة للفخر فقط، وغير موظَّف في محاربة الجهل، والظلم الذي هو أساس ثقافة الخوف التي ترسِّخ أبدية بقائهم.
والسؤال الحقيقي ليس: هل يحتاج العالم العربي لمغتربيه؟ بل هو: هل يحتاج لأفكارهم التي يحملونها من تعددية ثقافية وانفتاح، وقبل كل شيء الرغبة في التغيير والتطور؟
ومع أن العالم العربي ومغتربيه يتفقون في الأهداف التي يصْبون إليها من إنشاء مجتمعات متعلمة وتحقيق رخاء اقتصادي؛ فإنهم يختلفون في اتخاذ الطرق المؤدية لها.
ففي حين يرى "القادمون" أن العالم العربي يحتاج إلى طفرة فكرية واجتماعية جذرية للنهوض بالحياة المهنية فيه؛ ترى مواطنهم الأصلية -في أحسن الظروف- أن الحل يكمن في أن تكون الحياة المهنية على الطريقة الغربية، بينما تبقى الحياة الاجتماعية على شكلها التقليدي.
والحقيقة أنه لا يمكن تطوير الحياة المهنية نحو الابتكار والإبداع في عقول تغيب فيها الحريات، وتتبنى الطاعة المطلقة؛ إذ لا تجتمع أبدًا المعرفة والخوف في عقل واحد، ولذلك يرتبط الرقي العلمي بالرقي الأخلاقي، ولا معنى للحديث عن واحد دون الآخر.
__________________
– الصورة (1) اتحاد الطلبة العرب ببرلين بألمانيا.
– الصورة (2) اتحاد الطلبة العرب بجامعة هارفارد بالولايات المتحدة.
– الصورة (3) اتحاد الطلبة المصريين بجامعة تورنتو في كندا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.