وقفات مع "الغداء الأخير".. اغتيال الحمدي والتآمر السعودي على اليمن

مركزية القضية وتهمة التوظيف
الفيلم ونماذج النجاح والإخفاق
عقدة السعودية التاريخية باليمن

منذ إعلان الجزيرة موعد بث فيلم وثائقي استقصائي يتناول قصة اغتيال الرئيس اليمني إبراهيم الحمدي (1974- 1977)؛ تحوّل النبأ لقضية مفتوحة استحوذت على اهتمام قطاع كبير من اليمنيين، وفتحت سجالات ممتدة بشأن القضية حتى قبل مشاهدتهم للفيلم، ليستمر الجدل متواصلا ويبلغ ذروته بعد أن بثت القناة الفيلم، في مشهد يعكس حيوية القضية ابتداءً وحساسيتها بالنسبة للشارع اليمني.

وقد تمكن الفيلم من إثارة جدلٍ متصاعد بشأن القضية لكونه يعد العمل النوعي الأول الذي يوثق قصة مقتل الرئيس الحمدي بهذه الطريقة الاحترافية، وكذلك نظرًا للأبعاد التي تنطوي عليها القصة ذاتها، إضافة لكون اليمن يعيش في لحظة تاريخية حرجة هي نتاج اضطراب سياسي ممتد منذ سنوات، وتدخل خارجي مفتوح يعيد تشكيل الحياة السياسية اليمنية، ويعبث بمصير اليمنيين منذ زمن.

وفي هذه الوقفات؛ سنحاول الحديث عن الفيلم وردود الفعل التي أثارها، ونقاط القوة وأبرز الملاحظات الجماهيرية عليهن والمضامين التي احتواها الفيلم وإسقاطاتها اللحظية على الواقع السياسي اليمني الراهن وعلاقة الداخل بالخارج؛ لنخرج بقراءة عامة للوضع توضح تقاطع الفترة السابقة الممثلة بفترة حكم الحمدي مع ما بعدها، وطابع السياسة السعودية تجاه اليمن في المرحلتين الماضية والحاضرة.

مركزية القضية وتهمة التوظيف
تعد قضية اغتيال الرئيس الحمدي إحدى الحوادث المفصلية في التاريخ السياسي اليمني الحديث، ورغم ذلك فإنها ظلت مركومة منذ ما يقارب 42 عامًا، لأسباب كثيرة تتعلق بمآلات الأمور بعد مقتله، وعلاقة الأطراف نفسها -داخليًا وخارجيًا- التي دبرت عملية اغتياله بالمشهد السياسي اليمني، وتعمدهم دفن القضية وتفاصيلها الحساسة وإخفاء خيوطها كاملة.

جاء فيلم الجزيرة الأخير وفتح ملف القضية بوضوح وبطريقة لم يسبق للشارع اليمني أن عهدها، ورغم أن الحقائق الكبرى في القصة كانت معروفة فإنها ظلت متناثرة ولم تنتظم في صورة عمل فني مشابه لما جاء في فيلم "الغداء الأخير".

وكالعادة؛ لم يخل الحديث من استفهامات كثيرة عن طبيعة الفيلم وتوقيت بثه ودوافعه، والجهة المنتجة له والدلالات النهائية التي حملها في طريقة تناوله للقضية، وضاعف ذلك صدى الفيلم بشكل ربما أكبر مما كان متوقعا.

كان من التساؤلات المتكررة التي أثارها الفيلم تلك المتعلقة بتوقيت بث الفيلم: لماذا في هذه اللحظة بالذات فتحت الجزيرة هذه القضية؟ ومباشرة تذهب الإجابات نحو استدعاء سياق الأزمة الخليجية، بوصفه منظارًا تفسيريًا يشرح دوافع الجزيرة في إنتاج فيلم كهذا وفي توقيت كهذا.

تمكن الفيلم من إثارة جدلٍ متصاعد بشأن القضية لكونه يعد العمل النوعي الأول الذي يوثق قصة مقتل الرئيس الحمدي بهذه الطريقة الاحترافية، وكذلك نظرًا للأبعاد التي تنطوي عليها القصة ذاتها، إضافة لكون اليمن يعيش في لحظة تاريخية حرجة هي نتاج اضطراب سياسي ممتد منذ سنوات، وتدخل خارجي مفتوح يعيد تشكيل الحياة السياسية اليمنية، ويعبث بمصير اليمنيين منذ زمن

وبالطبع؛ لا يمكن تجاهل الأزمة الخليجية التي وإن كانت دافعًا لإثارة قضية كهذه فإنه دافع لم يؤثر على طبيعة القضية المتناولة، حيث حرص الفيلم على تقديم سردية تاريخية موثقة ومن مصادر دولية ومحلية مرتبطة بالقضية. وهو ما يجعل فكرة التوظيف السياسي القطري للقضية -الذي يحتج به البعض ضمن ملاحظاتهم على الفيلم- لا تمثل موضوعًا للإدانة، لأن طبيعة التناول لم تتأثر بفكرة الأزمة الخليجية.

ولو أن الفيلم جاء قبل اندلاعها لما اختلف وضعه كثيرًا عن الوضع الذي بث به وهي قائمة. أي أن الحقيقة المجردة هنا هي التي تدين خصوم قطر، وليس طريقة عرضها وتوقيته.

ولتوضيح القصة أكثر؛ من المفيد التذكير بأن الخلاصة التي خرج بها الفيلم عن تورط السعودية في حادثة اغتيال الحمدي هي الخلاصة ذاتها التي تبدو كمسَلمة جماعية لدى الشعب اليمني ككل، حيث يكاد يكون هناك ما يشبه الإجماع التاريخي على أن السعودية هي المتورطة الأولى في تدبير حادثة الاغتيال، وما فعلته الجزيرة هو توثيق القضية وكشف خيوطها وملابساتها فحسب.

الفيلم ونماذج النجاح والإخفاق
قبل بث الفيلم كان اليمنيون يعرفون الكثير عن قصة مقتل رئيسهم؛ لكن معرفتهم تلك كانت معرفة عمومية مشتتة وتفتقر إلى التوثيق المهني والمادة التاريخية المغربَلة، ذلك أن كثيرا من تفاصيل القصة كانت ملتبسة ومتداخلة ومشوشة في مواضع كثيرة.

ونقطة نجاح الفيلم هنا هي أنه أعاد رواية القصة بسردية شبه كاملة، والأهم من ذلك أنه أثّث القضية بالأسانيد المتناثرة في مصادر كثيرة، وفكّ شفرة بعض الملابسات الغامضة، إلى جانب تحقيق سبق صحفي في الوصول لوثائق تاريخية لم يحدث أن كشفها أحد، وهو أمر مهم لتمتين الرواية التاريخية وتدعيمها بالحجة القاطعة.

فمثلا؛ من أهم النقاط التي ظلت غامضة في قضية اغتيال الحمدي وتمكن الفيلم من حلحلتها قضيةُ الفتاتين اللتين قُتلتا جوار الحمدي وأخيه، حيث أورد الفيلم شهادات لكتاب فرنسيين في القضية، وكشف دورًا كان مجهولًا لموظف السفارة اليمنية بفرنسا محمد الشامي الرجل المسؤول عن استجلاب الفتاتين من باريس، وتسفيرهما لليمن ليتم استخدامهما غطاءً لمقتل الرئيس الحمدي وأخيه.

ومع أن الفيلم ازاح ستار الغموض عن جزء كبير من هذه الجزئية؛ فإنه أبقاها معلقة ولم يكشف الجهة التي كانت تقف خلف استجلابهما من باريس، إذ إنه من الطبيعي أن تكون هناك جهة داخلية أو خارجية هي من أوكلت للدبلوماسي اليمني محمد الشامي القيام بتلك المهمة.

من نقاط الفيلم التي تمثل سبقًا استقصائيًا؛ وثيقة من السفارة اليمنية بفرنسا يرجع تاريخها لعام 1979 (وهو تاريخ كان فيه الرئيس السابق علي عبد الله صالح تولى السلطة قبله بسنة)، وتتضمن رسالة شكوى بعثتها السفارة بخصوص عدم وصول المبلغ المالي الذي صرفته لجهات تعاونت معها في التكتم على قضية الفتاتين، مما يثبت مسؤولية الرئيس اليمني السابق عن محو آثار الجريمة والتعتيم عليها عقودا.

ومن أبرز ملاحظات الجمهور اليمني العام على الفيلم محوريةُ الدور الذي قام به الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر في قضية اغتيال الحمدي، وذلك لكون الرجل كان على خصومة معه في أواخر سنين حكمه، بسبب سياسات الحمدي المتمثلة في إعادة ترتيب وضع الجيش اليمني والحد من النفوذ القبلي فيه، إلى جانب العلاقات القوية التي كانت تربط الشيخ الأحمر بالسعودية.

ومعروف أن هذه الأخيرة لعبت الدور المركزي كما أسلفنا في الاغتيال، ولهذا يربط البعض بين دور السعودية المباشر في اغتيال الرجل والدور المفترض للشيخ الأحمر في الجريمة ذاتها. وانطلاقًا من هذه الفرضية الشعبية الشائعة؛ كانت قصة مشاركة الشيخ الأحمر في الاغتيال مثار جدل، وظل الجمهور يعتبرها الاختبار الفاصل في مسألة مهنية الفيلم الذي ستبثه الجزيرة من عدمه.

إن أي رواية سينمائية للتاريخ لا يمكن أن تخلو من انحيازات طبيعية في خلاصتها، وهي انحيازات لا تُخلّ بالرواية التاريخية لكونها غالبًا تتعلق بانحياز الحقيقة ذاتها التي توصلت إليها الرواية ودعمتها الأسانيد، وفي أحايين أخرى يكون الانحياز عابرا ويتعلق بتعذر ثبوت أو نفي واقعة معينة في القصة، وهو تعذر لا يضر بموضوعية الصورة العامة للرواية

ورغم أن الفيلم ذكر بوضوح قضية خلافات الشيخ الأحمر مع الحمدي، وصدام أبرز رموز القبائل اليمنية مع الرجل، والدور السلبي الذي لعبوه في خلخلة فترة حكم الحمدي، ومساهمتهم في تقويضه؛ فإن هذا لم يكن كافيًا بالنسبة للجمهور الذي كان يرغب في إدانة صريحة تثبت تورط الشيخ الأحمر تحديدًا في اغتيال الحمدي.

ولأن الفيلم -فيما يبدو- لم يتمكن من العثور على وثيقة تثبت تورط الرجل المباشر، فقد ظل هناك ما يشبه المأخذ الشعبي الذي بدا كما لو أنه يرغب في ممارسة دور الوصاية التاريخية، في محاولته فرضة إدانة قسرية على الشيخ الأحمر.

إلا أن الأحمر بدا -في الخلاصة النهائية التي سرد بها الفيلم القضية- أن علاقته بمقتل الحمدي كانت غير مباشرة، وأن الأطراف الذين باشروا الجريمة ضباط آخرون (الغشمي وصالح)، وبحضور الملحق العسكري السعودية صالح الهديان الذي يعد المشرف الرئيسي على الجريمة؛ كما أكدته الوثائق والشهادات الحية التي أوردها الفيلم.

إن أي رواية سينمائية للتاريخ لا يمكن أن تخلو من انحيازات طبيعية في خلاصتها، وهي انحيازات لا تُخلّ بالرواية التاريخية لكونها غالبًا تتعلق بانحياز الحقيقة ذاتها التي توصلت إليها الرواية ودعمتها الأسانيد، وفي أحايين أخرى يكون الانحياز عابرا ويتعلق بتعذر ثبوت أو نفي واقعة معينة في القصة، وهو تعذر لا يضر بموضوعية الصورة العامة للرواية.

وذلك تمامًا كالحالة الطبيعية التي تعذر فيها إثبات التورط المباشر للشيخ الأحمر في اغتيال الحمدي دون تعمد لإخفاء دوره، إذ لم يرد في أي من الوثائق التي فتش فيها الفيلم أيُّ ذكر لضلوعه المباشر في تنفيذ الجريمة.

لم يكن اغتيال الحمدي نتاج صراع داخلي فحسب بل كان نتاج رغبة خارجية في المقام الأول؛ إذ يمكننا القول بأن كل الصراعات السياسية الداخلية في اليمن -طيلة التاريخ الحديث- لا تخلو من أثر الأصابع الخارجية، وبالتحديد الدور المركزي للدولة السعودية التي ظلت حاضرة وبقوة في كل مراحل صراع اليمنيين بحثًا عن مشروع الدولة.

وهو حضور ذو طابع سلبي في مجمله؛ حيث كانت السعودية دائمًا تبذل كل طاقتها لتقويض أي خطوة حاسمة ترى أنها ستُفضي لقيام دولة يمنية مستقلة. وفي السياق ذاته تأتي دوافعها في التخلص من الرئيس الحمدي، وتدبير عملية الاغتيال بتلك الصورة التي أعاد فيلم "الغداء الأخير" نبشها وتحقيقها، وتأكيد الدور السعودي فيها بالأدلة القاطعة.

كان اغتيال الحمدي -كما أثبتته الوثائق التي نشرها الفيلم- بمثابة إزالة للعقبة الكبرى أمام التدخلات السعودية في الشأن اليمني، فالرجل كان يقود مشروع استقلال وطني كامل، وبدأ أنه ذاهب باتجاه تأسيس مقومات دولة متحررة من الوصاية السعودية ومعتمدة على ذاتها.

وكانت البداية محاولته العملية قصّ الأذرع القبلية النافذة في الدولة، والتي تدين بالولاء للسعودية على حساب استقلالية البلد، إلى جانب اشتغاله على موضوع تأمين البحر الأحمر، وتحقيق الوحدة اليمنية، ورفض ترسيم الحدود مع السعودية. وهذه محاور رئيسية أسس عليها فيلم "الغداء الأخير" تفسيراته لأسباب قدوم السعودية على التخلص من الحمدي، وسنتحدث عن هذه المواضيع فيما يلي.

عقدة السعودية التاريخية باليمن
السعودية لديها فلسفة سياسية ثابتة تجاه اليمن تنتج عنها كل مقارباتها السياسية تجاه هذا البلد. هذه الفلسفة تتمثل في إبقاء الدولة اليمنية تحت وصايتها بشكل دائم، وأي استقلال كامل للقرار الوطني اليمني يشكل تهديدًا لها. ومن هذا المنطلق كان قرارها بالتخلص من الرئيس الحمدي لكونه كان يقود مشروع استقلال كامل، ويرغب في إقامة علاقة صحية مع السعودية قائمة على الندية، وليس التبعية التي ترغب فيها السعودية في تعاملها مع اليمن.

كان مقتل الحمدي مجرد حلقة في مسلسل التآمر السعودي الطويل على اليمن. وهو تآمر موغل في القدم؛ فمنذ البدايات الأولى لتأسيس الدولة السعودية، ظلت عيونها مفتوحة على الجغرافيا الجنوبية لها، وكانت البداية من حرب 1934 -أي بعد سنتين من قيام الدولة السعودية- التي مثلت حربها التوسعية، ونجحت خلالها في استقطاع ثلاث محافظات يمنية تقع في الحد الجنوبي لها، وهي محافظات: جيزان ونجران وعسير.

نجحت السعودية في السطو على هذه المحافظات وحاولت ترسيم ملكيتها لها بإبرام اتفاقيات رسمية مع السلطات اليمنية عبر مراحل متعددة، وفي طريقها لذلك كانت تتعمد إزاحة أي صوت يمني يرفض ترسيم الحدود معها والاعتراف لها بهذه الملكية، وكان هذا أحد الأسباب الرئيسية في تفسير تآمرها لاغتيال الحمدي.

وبالعودة للخلف قليلًا؛ يتضح لنا نهج العداء السعودي تجاه اليمن، ومن ضمن المحطات الكاشفة لهذا العداء وقوف المملكة ضد ثورة 26 سبتمبر/أيلول 1962، ومعاداتها للنظام الجمهوري عبر دعم الملكيين الذين قامت الثورة ضدهم.

وفي هذا السياق؛ يأتي اغتيال الحمدي إذ يعدّ الحدث الأبرز لإجهاض مشروع الدولة اليمنية وتفريغ الجمهورية من محتواها؛ ليستمر النهج ذاته وصولًا للوقوف ضد الوحدة اليمنية عام 1990 ودعم حركة الانفصال 1994، وليس انتهاء بالوقوف ضد ثورة الشباب وإنقاذ نظام المخلوع صالح عبر "المبادرة الخليجية"، التي كانت الرياض الراعي الرسمي لها، ثم عادت لإجهاض نتائجها في آخر مسلسلها العبثي في اليمن.

إلى جانب قضايا الحدود والوحدة والثورة والجمهورية؛ فإن من الأسباب المركزية -التي سلط الفيلم الضوء عليها كأحد أهم دوافع السعودية في حسم قرارها باغتيال الحمدي- خوفها من مشروع الحمدي فيما يتعلق بتعزيز سيادة اليمن على مياهه الإقليمية في البحر الأحمر، وبالتحديد الممرات البحرية المتحكمة في طرق التجارة العالمية

جاء اغتيال الحمدي قبل يوم واحد من زيارته المترقبة لجنوب البلاد، تلك الزيارة التي كانت ستكون بمثابة الخطوة الحاسمة لتوحيد اليمن، وقبلها تمت لقاءات متعددة وخطوات تمهيدية لتوحيد الهوية اليمنية. ولعل من اللافت هنا تركيز الرئيس الحمدي على منطلق ذي رمزية مهمة لتوحيد البلاد، تمثل في تشكيل لجنة مشتركة من شطريْ اليمن لتوحيد الكتاب المدرسي، وركز على كتاب التاريخ، كما أظهره تسجيل حصري بثه الفيلم.

هذا المشروع التاريخي الذي كان يحمله الرجل بخصوص توحيد اليمن، وبتلك الرؤية التأسيسية العميقة للوحدة؛ كان بمثابة هاجس مخيف للدولة السعودية التي ترى أن خطوة كهذه ستعضّد قوة الدولة اليمنية بما يجعلها مصدر تهديد لها، حالما ترافق ذلك مع مشروع وطني ينهض بالبلد بعيدًا عن هيمنتها. لهذا عملت السعودية على إجهاض هذا المشروع، باغتيال مهندسه الأول بتلك الطريقة المأساوية لتضع حدًا لحلم اليمنيين الأول سنين طويلة.

وإلى جانب قضايا الحدود والوحدة والثورة والجمهورية؛ فإن من الأسباب المركزية -التي سلط الفيلم الضوء عليها كأحد أهم دوافع السعودية في حسم قرارها باغتيال الحمدي- خوفها من مشروع الحمدي فيما يتعلق بتعزيز سيادة اليمن على مياهه الإقليمية في البحر الأحمر، وبالتحديد الممرات البحرية المتحكمة في طرق التجارة العالمية.

وهذا السبب بالذات ما زال يشكل هاجسا مستمرا في العقلية السعودية، ويصوغ جزءا كبيرا من سياستها تجاه اليمن؛ حيث تنظر السعودية للبحر الأحمر كحق حصري لها، وتعمل على تجريد الحكومة اليمنية من حقها السيادي في السيطرة على المنافذ البحرية. ومؤخرًا صارت الإمارات منافسًا أقوى يتمدد على حساب السعودية فيما يخص صراع النفوذ على البحر الأحمر.

وأخيرًا؛ من يتأمل الصورة الكلية التي بثها الفيلم -بكل ما أورده من وثائق وشهادات- يتأكد أن النظام السعودي ما زال مستمرا في نهجه المضاد لليمن، بل يمكن القول إن الوصاية السعودية بلغت ذروتها في هذه الفترة.

وإذا كانت السعودية فشلت في فرض وصايتها على اليمن في عهد الحمدي، وهو ما دفعها للتخلص منه؛ فإن المؤسف اليوم أن الحكومة اليمنية تبدو مستلَبة كليًا للسعودية، وإذا كانت الرياض في حكم الحمدي حاولت ممارسة وصايتها حتى في مسألة تغيير رئيس الحكومة -كما ورد في الفيلم- فإنها اليوم تتحكم في تفاصيل أدق، لدرجة تدخلها في تعيين قائد معسكر صغير ومحافظ محافظة.

هذه هي العقلية السعودية في تعاملها مع المسألة اليمنية: رغبة ثابتة في إبقاء البلد تحت الهيمنة الشاملة، وفُتات مساعدات تضمن عبرها استدامة حالة العجز والحاجة الدائمة لها، وعمل ممنهج لإبقاء اليمن دولة دائرة في فلكها، لكونها تدرك أن اليمن بلد حيوي وثري بمقومات النهوض، وأن أي استقرار حقيقي فيه سيجعله يشب عن الطوق ويتجاوز حالة الإعاقة الدائمة التي تفرضها عليه منذ زمن.

لو لم يكن من فائدة حالية لفيلم "الغداء الأخير" سوى أنه وضع اليمنيين أمام الصورة الحقيقية لمأساتهم الداخلية والخارجية؛ لكان هذا كافيًا ليكون بمثابة إنجاز تاريخي كبير، وحدثًا عمل على تحشيد الوعي الشعبي وهزّ وجدان اليمنيين وفتح عيونهم أكثر؛ ليتدبروا خلاصهم ثم يضعوا حدًا لهذه الطامة التي أرهقتهم زمنًا طويلًا، وما زالت جاثمة على صدورهم حتى اللحظة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.