السودان بين العصيان الطوعي والانتخابات القسرية!!

صور لمفاوضات الأمس بين المجلس العسكري وقوى التغيير في السودان

"من يضرب هذه المرة لن يعود مجددا إلى عمله"؛ عبارة جاءت على لسان الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) نائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي بالسودان. لربما جاءت العبارة في سياق تحميس قوات الدعم السريع التي كانت تشكل مسرح الحضور في تلك المخاطبة، ولربما أراد الرجل -الذي دخل الملعب السياسي السوداني مؤخرا وبصورة مفاجئة- إرسال بالونة اختبار لمن يهمهم الأمر.

جاء الرد سريعا عبر موجة غضب سرت في أوصال الفضاء الإلكتروني وشبكات التواصل الاجتماعي على وجه الخصوص، بل تم سريعا إعداد لافتات تحدٍّ من داخل ميدان الاعتصام تحمل عبارة: "حميدتي.. أنا مُضرب.. افصلني"!

كما أن تجمع المهنيين -الذي يمثل قلب الحراك النابض- أعلن إطلاق حملة تصعيدية تنتهي بإضراب شامل حدد له يوميْ 28 و29 مايو/أيار الجاري، إن لم يقدم العسكر تنازلات بشأن مدنية الحكم، وهي تنازلات لم تعد واردة بعد جولة رئيس المجلس العسكري ونائبه بين قاهرة المعز وجدة.

يبدو أن الإضراب الشامل أو العصيان المدني يمثل الرصاصة الأخيرة في جعبة تجمع المهنيين في السودان، ويستهدف شلّ الدولة بالكامل لإجبار العسكر على الانسحاب. إن استخدام سلاح الردع تكتنفه مخاطر ليست يسيرة، ولن يجد -في أغلب الظن- إجماعا داخل تحالف الحرية والتغيير، حيث افترع الإمام الصادق المهدي -في تصريح متلفز- اتجاها يدعو لشراكة بين العسكر والمدنيين.

من بين الخطط التي سيضعها العسكر في الحسبان توفير مخزون إستراتيجي من السلع المهمة، وذلك عبر الاعتماد على الدول الإقليمية التي توفر مركز إسناد للحكم العسكري الجديد. فقد أعلن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان أنه -هو وصديقه ولي العهد الإماراتي محمد بن زايد- سيكونان في عون الأصدقاء الجدد في الخرطوم

كما عبر الإمام -في وقت مبكّر بعد انتصار الثورة- عن ثقته في أن الجيش سيوفي بوعده في تسليم السلطة للمدنيين. وذات المضامين جاءت على لسان مني مناوي قائد إحدى أقوى حركات دارفور المسلحة، حيث غازل قوات الدعم السريع التي تعتبر المكون العسكري الثاني بعد الجيش في السودان حيث لم يعتبرها عدواً.

وقد مضى ياسر عرمان نائب رئيس الحركة الشعبية في إحسان الظن بالجنرالات، فقال -في تصريح لصحيفة الاتحاد الإمارتية- إن "البرهان وحميدتي لا صلة لهما بالإسلامويين". وبالتالي؛ فإن علينا التأكد أن خطوة الإضراب تجد التوافق التام بين مكونات الثورة.

من المهم التذكير بأن تحالف الحرية والتغيير سيعقد اجتماعا قبيل يوم واحد من بدء الإضراب، وذلك لحسم ملف اختيار قيادة جديدة للتحالف الذي أدير في الماضي عبر أجسام تسكن باطن الأرض قبل انهيار النظام.

لكن ماذا عن إستراتيجيات العسكر لمواجهة هذا السيناريو المحتمل الحدوث؟ الخط الأول سيكون عبر إعادة استخدام جزء من ماكينة الدولة المدحورة، حيث تم رفع الحظر عن النقابات المجمد نشاطها بعد الثورة مع منحها مساحة حركة أوسع، والنقابات الموالية للحكومة السابقة تجيد شق صفوف العامل.

أولى نصائح هذه النقابات التوصية بدفع المرتبات خلال فترة الإضراب، مما يجبر المواطنين على العودة على مواقع العمل قبل الدخول في إجازة عيد الفطر المبارك. كما سيتم تنشيط الكيانات السياسية الجديدة؛ مثل تيار نصرة الشريعة أو الحراك السياسي لرفع صوت معارضة الإضراب، باعتباره عملا مؤذيا لجموع السودانيين خلال شهر رمضان.

من بين الخطط التي سيضعها العسكر في الحسبان توفير مخزون إستراتيجي من السلع المهمة، وذلك عبر الاعتماد على الدول الإقليمية التي توفر مركز إسناد للحكم العسكري الجديد. فقد أعلن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان أنه -هو وصديقه ولي العهد الإماراتي محمد بن زايد- سيكونان في عون الأصدقاء الجدد في الخرطوم.

كما سيتم الاعتماد على القطاع الخاص في توزيع هذه السلع عبر عرض تعويضات مالية مسيلة للعاب، وفي ذات الوقت يتم إشهار سيف العقاب اللاحق على الشركات التي تختار الاصطفاف مع الجماهير.

إلا أن أحد الأسلحة الفعالة في الحد من تأثير العصيان المدني هو تحميل العسكر كل الكلفة الاجتماعية والاقتصادية للطرف الذي دعا إلى العصيان بمنطق "قتله من أرسله إلى المعركة"! وهذا السلاح سيكون أكثر تأثيرا إذا تطاول أمد العصيان، وزادت معاناة الناس في صفوف البحث عن الخبز أو التداوي في المشافي. وخطورته أنه سيخصم من شعبية المعارضة المدنية، والتي تجد التفافا حولها من كثير من قطاعات الشعب.

الراجح عندي أن خيار العصيان أو الإضراب الذي أعلِن سيكون سانحة لقياس الثقل السياسي للطرفين؛ فإن لم ينجح في شلّ الحياة فسيتعنّت العسكر، وربما ينكصون حتى عن الاتفاق المعلن بشأن قسمة السلطة بينهم وبين تحالف قوى الحرية والتغيير. أما إن نجح فسيكون العسكر أكثر مرونة وسيقدمون تنازلات لا تنقص من إمساكهم بالرئاسة وشؤون الحرب.

البطاقة الأخرى التي سيشهرها عسكر السودان تتمثل في انتخابات مبكرة، وسيستفيد فيها عبد الفتاح البرهان من تجربة عبد الفتاح السيسي في كيفية تبييض بشرة الانقلابات العسكرية. إنها تجربة خاض غمارها السيسي وآتت أكُلها، حتى إن الرجل -رغم أنه ما زال يحبس رئيسا منتخبا- تسنّم سدة رئاسة الاتحاد الأفريقي، وبات بمقدوره أن يفتي بشرعية الانقلابات في القارة السمراء.

لم يكلف ذلك السيسي سوى انتخابات لا تعكس إرادة الأمة المصرية العريقة؛ رغم أن خيار الانتخابات المبكرة يمثل بطاقة ضغط وإحراج للقوى المدنية، حيث توهم الناس أن العسكر متعجلون لمغادرة المشهد. لكن ذات بالونة الاختبار ربما تتحول إلى كابوس إن استخدم عسكر السودان الوصفة المصرية في طبخة عنوانها: كيف تسرق ثورة شعبية؟

الراجح عندي أن خيار العصيان أو الإضراب الذي أعلِن سيكون سانحة لقياس الثقل السياسي للطرفين؛ فإن لم ينجح في شلّ الحياة فسيتعنّت العسكر، وربما ينكصون حتى عن الاتفاق المعلن بشأن قسمة السلطة بينهم وبين تحالف قوى الحرية والتغيير.

أما إن نجح فسيكون العسكر أكثر مرونة وسيقدمون تنازلات لا تنقص من إمساكهم بالرئاسة وشؤون الحرب. أما بطاقة الانتخابات فستظل معلقة في الهواء إلى أن تصفو السماء السودانية، وهو حلم ليس سهل المنال في ظل التقاطعات المحلية والإقليمية في الشأن السوداني.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.