الطيب صالح يسأل: من أين جاء هؤلاء الكيزان؟

Sudan's President Omar Ahmed al-Bashir looks on during Sudan's Saudi Air Force show during the final training exercise between the Saudi Air Force and Sudanese Air Forces at Merowe Airport in Merowe, Northern State, Sudan April 9, 2017. REUTERS/Mohamed Nureldin Abdallah

لا يجد كثير ممن عارضوا نظام جبهة الإنقاذ عسراً في نسبة ثورتهم الناشبة إلى ثورتين سبقتاها، هما: ثورة 1964 ضد نظام الفريق إبراهيم عبود (1958-1964)، وثورة 1985 ضد المشير جعفر نميري (1969-1985). فالناظم لهذه الثورات نسب ثوري لاستعادة الحكم المدني الديمقراطي.

وللغرابة ظل هؤلاء المعارضون يجدون عسراً في نسبة نظام الإنقاذ (1989-2018) إلى ما سبقه من نُظُم ثاروا عليها؛ فالإنقاذ –أي نظام الكيزان (الإسلاميين) كما هو متعارف- في رأيهم منبت لا أصل في ثقافة أهل السودان بالمرة. وساقتهم "أبلستهم" لنظام الكيزان إلى ما يشبه العفو بالتقادم عن الأنظمة الطغيانية التي سبقته باعتبار أنها -رغم شططها- مما يمكن نسبته لأهل السودان بشيء من المشقة والحرج بالطبع.

والأصل في قطع دابر نظام الإنقاذ -علاوة على استهوال فظاظته الباكرة التي لم تزايله إلى مصرعه- شجْبُ الطيب صالح -كبير أرباب حرم الثقافة السودانية- لهم. فلما رأى من النظام باكراً ما استقبحه -ككاتب سادن لوجدان الأمة- سأل في مقال مشهور: من أين جاء هؤلاء؟ وظل السؤال يلاحق النظام كاللعنة من جيل لجيل خلال عقوده الثلاثة الشقية؛ فاستعجب الطيب لموبقاته التي لا مكان لها في إعراب ثقافة السودانيين، في قوله، وراعه أنه لم يجد لهم نسباً في أي من مفردات الثقافة السودانية التي هو حارس بوابتها؛ فقال:        

من أين جاء هؤلاء؟ أما أرضعتهم الأمهات والعمات والخالات؟ أما أصغوا إلى الريح تهب من الشمال والجنوب؟ أما رأوا بروق الصعيد (الجنوب) تشيل وتحط؟ أما شافوا القمح ينمو في الحقول وسبائط التمر مثقلة فوق هامات النخيل؟ أما سمعوا مدائح حاج الماحي (مادح للرسول من القرن التاسع عشر) وود سعد (من مادحي دولة المهدية الإسلامية في آخر القرن التاسع عشر)، وأغاني سرور وخليل فرح (جيل الوطنية والفن في العشرينيات)، وحسن عطية والكابلي والمصطفى (مغنو الفترة اللاحقة)؟ أما قرؤوا شعر العباسي (مدرسة الإحياء الشعري في العشرينيات) والمجذوب (1919-1982)؟ أما سمعوا الأصوات القديمة والأشواق القديمة؟ ألا يحبون الوطن كما نحبه؟

لما رأى الطيب صالح من نظام الإنقاذ باكراً ما استقبحه -ككاتب سادن لوجدان الأمة- سأل في مقال مشهور: من أين جاء هؤلاء؟ وظل السؤال يلاحق النظام كاللعنة من جيل لجيل خلال عقوده الثلاثة الشقية؛ فاستعجب الطيب لموبقاته التي لا مكان لها في إعراب ثقافة السودانيين، في قوله، وراعه أنه لم يجد لهم نسباً في أي من مفردات الثقافة السودانية التي هو حارس بوابتها

ومن أطرف ما سمعته من استهوال السودانيين لنظام الكيزان وقطع دابرهم عن ثقافته ما حكاه أحدهم عن عمته: جلست تستمع إلى أسماء آخر مجلس وزراء للنظام قبيل مغربه، وظلت -متى سمعت اسماً منهم- تسأل ابن أخيها:

-دا كوز واللا ود بلد؟

إذا تركنا جانباً مضاضة المعارضين من حكم الإنقاذ التي قضوا بها أنه منبتّ عن السودان، فلا يصح مثل هذا الانقطاع في حكم التاريخ. وسأبحث في وحدة نسب النُّظم السودانية الدكتاتورية التي ثار عليها السودانيون من جهة المنطق والتاريخ: فلا يستقيم منطقاً أن تجد لثوراتك نسباً في حين ينقطع نسب نظام الإنقاذ عن النظامين الآخَرين اللذين ثرت عليهما؛ فكيف اتصلت سبحة ثوراتك وانفرطت سبحة النُّظم التي ثرت عليها؟

وصح من جهة التاريخ وصل النُّظم التي ثار عليها السودانيون بوجهين؛ أما الوجه الأول فهو المماثلة الواضحة في التنظيم السياسي الذي ثار على تلك النُّظم، فالكيانات التي كانت من وراء الثورات الثلاث من التطابق بمكان حتى لتكاد تستنسخ بعضها البعض. أما الوجه الثاني فهو تماثل الطبيعة السياسية والاجتماعية للنُّظم المستبدة حتى ليكاد الواحد منها يتسلم المهمة من النظام المندحر السابق له، ويواصل القيام بها كأننا في سباق مبادلة.   

"تجمُّع المهنيين" الذي يقود الحراك اليوم هو طبعة أخرى من جبهة الهيئات المهنية الي قادت ثورة أكتوبر/تشرين الأول 1964 والتجمع النقابي الذي قاد ثورة أبريل/نيسان 1985؛ فقامت ثلاثتها على قاعدة "النقابة" بين القوى الحديثة في المدينة. وهي تنظيم طرأ على حياتنا بالاستعمار كوسيلة للمدينة وقواها المأجورة في الدواوين والمصانع، للتعبير عن مصالحها في شروط الخدمة وأعراف المهنة وما اتصل بها.

وكثيراً ما ساقها هذا التنظيم في طريق الثورة للتغيير من قوى "النظام القديم" الذي لم يتصالح بعدُ مع المدنية كحقيقة ديمغرافية واقتصادية واجتماعية وسياسية وجمالية. وإذا أردنا عرقاً أقدم لهذا الكيان الحداثي لقلنا "مؤتمر الخريجين العام" الذي نشأ في 1938 كنقابة لخدمة مصالح "الأفندية" السودانيين، في ملابسات الاتفاقية الإنجليزية المصرية عام 1936 التي توافق فيها الإنجليز والمصريون لترقية تلك الصفوة السودانية في منازل خدمة الدولة.

ومعلوم أن ذلك المؤتمر سرعان ما كَبُر على ماعونه النقابي الصِّرف، فطلب من الاستعمار منح السودان الحكم الذاتي في مذكرته الشهيرة عام 1942. وهكذا نرى هذه الهيئات تشترك جميعاً في أنها منابر لفئات حضرية استجدت على بلادنا بوجود الاستعمار، وحصلت على جاهها السياسي والاجتماعي بالكسب الحضري لا الإرث، كما في طبقة الزعامة الطائفية والعشائرية الريفية بأحزابها الغالبة التي عرفت بـ"الأحزاب التقليدية".

وليس بغير معنى أن هاشتاغ الحراك الحالي هو "مدن السودان تنتفض". وما قَدِمت هذه الطبقة إلى الوجود حتى عشمت في نزع قيادة السودانيين من طبقة الإرث التقليدية بصور مختلفة، منها الثورات موضوع مقالنا.

ومن جهة موضوعية: إذا كان حراك السودانيين في 1964 و1985 و2018 ثورات؛ فمن باب أولى أن نصف النُّظم التي نهضت ضدها بقوى "الثورة المضادة"، فليس من ثورة بغير ثورة مضادة. وتشهد على ذلك دراما الخصومة السودانية الطويلة بين القوى النازعة للتغيير والقوى المحافظة التي لا ترغب فيه.

ولا يقطع استبشاع المعارضة السودانية لنظام الإنقاذ حبله بنُظم الثورة المضادة التي سبقته، بل يدمغه بأنه أعلى مراحل هذه الثورة. فجاء للحكم وقد رأى عضة الثعبان في سابقتها فأعد للأمر عدته وبالغ وأساء. وتربط بين هذه النُّظم من حيث تضاد الثورة قسمات لم يخلُ منها أي من هذه النُّظم:

من جهة موضوعية: إذا كان حراك السودانيين في 1964 و1985 و2018 ثورات؛ فمن باب أولى أن نصف النُّظم التي نهضت ضدها بقوى "الثورة المضادة"، فليس من ثورة بغير ثورة مضادة. وتشهد على ذلك دراما الخصومة السودانية الطويلة بين القوى النازعة للتغيير والقوى المحافظة التي لا ترغب فيه

1- فهي على عداء مستقيم للديمقراطية بحجب حرية التعبير والتنظيم؛ فتبدأ بحل الأحزاب بذريعة فجورها في الخصومة على حساب الوطن، ولا تكتفي بهذا فتسرع إلى تجريد المواطنين -الذين هبت باسمهم- من نقاباتهم بيت القصيد، وهي المتفق على حسن إدارتها لشأنها. ثم تعطل الصحف لتصدر "صحافة البرش"، وهو اسم كان يطلقه الناس على صحيفة "الثورة" في نظام الفريق إبراهيم عبّود، لصدورها في غير حجم التابلويد السائد وقتها.

2- صورتها للدولة هي الثيوقراطية؛ وصدف أن كانت أول محاولة صريحة لذلك في النظام المدني الذي انتكس بثورة أكتوبر/تشرين الأول 1964، فتواثقت تلك القوى المدنية على مشروع الدستور الإسلامي في 1968 وكاد البرلمان يجيزه لولا انقلاب جعفر نميري عليه في 1969، واصفاً ذلك الدستور بأنه لا يسوى الحبر الذي كُتُب به.

وفي ملابسات لن تشغلنا هنا؛ احتاج نميري -في مغرب عهده- للدين لتسويغ حكمه، فشّرع قوانين سبتمبر/أيلول 1983 وصار السودان بذلك دولة إسلامية بليل، وعليه خليفة العهد له بالبيعة لا بالانتخاب، ثم جاءت الإنقاذ بمشروعها الحضاري الإسلامي كما رأينا. ومع أن الفريق عبود حكم بنظام "علماني" موروث من الإنجليز؛ إلا أنه فرض -لما بدأ جنوب البلاد التفلت منه في أول الستينيات- دولة شبه دينية عليه قوامها الأسلمة والتعريب.

3- وهي دولة ذكورية لم تقبل بعد بمواطنة المرأة، حتى بعد كسبها استحقاقاً حق الترشيح والتصويت بفضل ثورة أكتوبر/تشرين الأول 1964. وحضور النساء الطاغي في الحراك الأخير بيان كافٍ على عمق الإهانة التي تغلغلت في أفئدة النساء، بتحول الدولة إلى "مطوعين" تفتش حركاتهن وسكناتهن بريبة متأصلة. وتركزت هذه الإهانة في قانون النظام العام 1996. وهو القانون الذي عزم الرئيس البشير على مراجعته في أصيل أيامه لاسترضاء النساء، وسبق السيف العزل.

4- وهي دولة لا مكان للآخر في إعرابها ومواطنتها؛ فقامت الدولة المستقلة للسودان على أنها "للعرب ودينها حير دين يحب". وكان ذلك حداء الحركة الوطنية في تخيلها للدولة متى تحررت، وتمسكت بهذه المركزية الإثنية والثقافية في وجه مطلب الآخرين المشروع للمواطنة.

وكانت الحركة القومية الجنوبية قد بدأت هذا المطلب منذ 1955 بـ"تمرد" دموي محدود، ساق بالزمن إلى خروج الجنوب عن السودان جملة واحدة في 2011، بعد حرب أهلية شقية تهدأ لتندلع منذ استقلال البلاد. ولا يكشف عن ضيق هذه الدولة بالآخر واستماتتها في مركزيتها مثل "سعادة" الرئيس البشير بعد انفصال الجنوب. فقال مزهواً: لقد خرج الجنوب عن السودان، و"باخت" قضية التنوع الثقافي التي ظل يرفعها الليبراليون للدعوة لدستور مدني. فالدولة -في قوله- صارت خالصة لمسلمين، فلا "دغمسة" بعد اليوم فقد تبين الرشد من الغي.

5- وهي دولة الدفع الرأسمالي التي ظلت تخرب ملكية الدولة لقمم الاقتصاد والرفاه الموروثة من الاستعمار، وفق روشتة صندوق النقد الدولي للتكييف الهيكلي. وهي روشتة هدفت إلى إخلاء المسرح الاقتصادي للمبادرة الرأسمالية الخاصة، مما كتب عنه الاقتصادي الدكتور علي عبد القادر بتوسع.

احتاج نميري -في مغرب عهده- للدين لتسويغ حكمه، فشّرع قوانين سبتمبر/أيلول 1983 وصار السودان بذلك دولة إسلامية بليل، وعليه خليفة العهد له بالبيعة لا بالانتخاب، ثم جاءت الإنقاذ بمشروعها الحضاري الإسلامي كما رأينا. ومع أن الفريق عبود حكم بنظام "علماني" موروث من الإنجليز؛ إلا أنه فرض -لما بدأ جنوب البلاد التفلت منه في أول الستينيات- دولة شبه دينية عليه قوامها الأسلمة والتعريب

وقطعت الإنقاذ شوطاً مرموقاً في هذا الطريق بإخراس صوت النقابات التي قاومت هذه الخصخصة طويلاً، ولم تتورع الإنقاذ من الخضوع لإملاءات الصندوق حتى إن رفع الدعم الأخير -الذي أثار ثائرة السودانيين عليها في ديسمبر/كانون الأول 2018- كان بتوجيه من وفد لصندوق النقد الدولي، بارح الخرطوم بأيام قليلة قبل اندلاع الثورة.

وبان هذا الدفع الرأسمالي في بروز طبقة رأسمالية فاحشة بين بيروقراطيي دولة الإسلاميين قريبة من الأوليغاركية الروسية من حول الرئيس فلاديمير بوتين. ومن أحسن من نفذ إلى حقائق هذه الطبقة -بما قصر عنه ماركسيو السودان- الإسلامي الدكتور التجاني عبد القادر.  

لا أعتقد أن الطيب صالح أراد لسؤاله: "من أين جاء هؤلاء؟" أن يكون نهاية الأرب في العلم عن دولة الإنقاذ. ولكنه صار عندنا كذلك كما في المفارقة التي بدأت بها مقالي؛ فتواثق السودانيون على صحة نسب ثورتهم الحالية إلى ثوراتهم في 1964 و1985.

ولكنهم -من فرط فظاظة الإنقاذ عليهم- جعلوا دولتها وثقافتها تغريداً خارج الوطنية السودانية وثقافتها، وهو قطع للوصل لا سند له في التاريخ. وأراد مقالي أن يكشف عن البنيات السياسية والاقتصادية والثقافية في مجتمعنا التي خرج منها هؤلاء وأولئك، كأعلى مراحل الثورة المضادة حتى رحلوا عنا بإذن الله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.