عملية نبع السلام.. ما وراء أكمة السيادة في سوريا
قضية سيادة سوريا ابتدأت منذ نشأة الدولة السورية واستقلالها عن الدولة العثمانية عام 1918، لتأتي فرنسا وتحتلها حتى عام 1946 ضمن قرار الوصاية واتفاقية سايكس/بيكو التي بموجبها تم تقسيم المشرق بين الدول الاستعمارية.
خلال الفترة الفرنسية تم التفاوض الفرنسي/التركي الذي بموجبه اتفق على إقامة استفتاء في منطقة "لواء إسكندرون"، ونتج عنه ضم اللواء إلى تركيا. بقي ملف اللواء قضية شائكة في العلاقات السورية/التركية إلى أن تنازل عنها حافظ الأسد ضمن اتفاقية أضنة التي اعتبرت الخلافات الحدودية منتهية، وخلال فترة الأسد الابن عام 2009 تم تشكيل مجلس تعاون إستراتيجي مشترك أنهى القضية برمتها.
كانت سوريا عضواً مؤسساً في الأمم المتحدة، وبقيت ضمن الحدود التي استقلت بها عن فرنسا إلى أن حصل عدوان 1967، واحتلت اسرائيل هضبة الجولان في عهد الرئيس نور الدين الأتاسي، حينها كان الأسد الأب وزيراً للدفاع فاتهمه روايات موثقة بالتفريط في الجولان لقاء دعم حكمه لاحقاً.
ويقودنا هذا الحديث إلى أن فقدان السيادة تم على يد الأسد الأب ولاحقاً الابن؛ وبعدها قام الأسد الأب في مفاوضات مدريد وجنيف وواي بلانتيشين برفع السقف التفاوضي، حتى يسوق نفسه ونظامه كبطل صنديد لا يفرط في الثوابت الوطنية التي فرط فيها مسبقاً.
كانت قصة نظام الأسد مع السيادة موضوعا للتندر؛ فقد قصفت إسرائيل العديد من المناطق داخل سورية من بينها مفاعل الكبر النووي في دير الزور في سبتمبر/أيلول 2007، والمضحك المبكي أنه ظل متمسكاً بمقولته الشهيرة بأنه "يحتفظ بحق الرد"؛ لكن هذا الرد لم يحصل حتى الآن. أما الجامعة العربية -التي لم تنبس ببنت شفة حول كافة الانتهاكات الروسية والإيرانية والإسرائيلية- فقد استفاقت عند عملية "نبع السلام" التركية، التي وقفت في وجه مشروع انفصالي يعرفه القاصي والداني.
ما إن انطلقت الثورة السورية وشاهد السوريون ردود فعل النظام على مطالبهم المشروعة، من اعتقالات واستخدام للسلاح الحي ضد المتظاهرين، وتصفية الأطباء وطلاب الجامعات والأطفال؛ حتى عرف الجميع أن هذا النظام سيكرر ما حصل في الثمانينيات من مجازر، وخاصة استباحته لمدينة حماة عام 1982 وقتله قرابة أربعين ألف شخص فيها.
كانت قصة نظام الأسد مع السيادة موضوعا للتندر؛ فقد قصفت إسرائيل العديد من المناطق داخل سورية من بينها مفاعل الكبر النووي في دير الزور في سبتمبر/أيلول 2007، والمضحك المبكي أنه ظل متمسكاً بمقولته الشهيرة بأنه "يحتفظ بحق الرد"؛ لكن هذا الرد لم يحصل حتى الآن |
شاهد السوريون تدخل المجتمع الدولي لصالح الشعب الليبي، وسقوط نظام معمر القذافي ومقتله؛ لذا بدأت مظاهرات الثوار تدعو المجلس الوطني السوري المشكَّل حديثاً إلى المطالبة بتدخل المجتمع الدولي وحمايته، حتى إنّه سمى إحدى جُمَعِ التظاهر بتاريخ 10/9/2011 "جمعة طلب الحماية الدولية".
تردد المجلس الوطني السوري حينها في ذلك نظراً لحساسية الموضوع، ولأنه أراد ألا يسجل على نفسه موقفاً يمكن أن يدوّنه التاريخ عليه؛ خاصة أن المعلومات المتوفرة لدى المجلس الوطني وقادة "إعلان دمشق" -الذين اجتمعوا بدمشق مع السفير الأميركي روبرت فورد في بداية الثورة- تفيد بأنه لن يكون هناك تدخل دولي لصالح السوريين.
إلا أن المجلس الوطني السوري -برئاسة الدكتور برهان غليون آنذاك- طلب تدخل المجتمع الدولي لحماية الشعب السوري من إجرام النظام، وذلك في كلمة له بتاريخ 27/5/2012؛ لكن المجتمع الدولي صمّ أذنيه عن ذلك، فبدأ السوريون في التسلح للدفاع عن أنفسهم بعد أن تُركوا وحيدين في الميدان.
كان التدخل الخارجي واضحا منذ بداية الثورة؛ فقد استعان نظام الأسد بمليشيات حزب الله، وكان ذلك جلياً في معركة القصير خلال مايو/أيار 2013 على الحدود اللبنانية، والتي تدخل خلالها الحزب بشكل سافر بعيداً عن الأعراف الدولية، من حيث تدخل حزب في دولة ما لصالح دولة أخرى بعيداً عن موافقة سلطة دولته.
استطاع السوريون تكبيد النظام لاحقاً خسائر فادحة حتى خسر السيطرة على مساحات شاسعة من الأراضي السورية، رغم تزويده بالسلاح وانضمام المليشيات الإيرانية والعراقية على القتال في صفه.
كانت خطة النظام البديلة لقلب الطاولة على الثوار السوريين -الذين تعاطف معهم العالم بسبب عدالة قضيتهم وصورتهم المشرقة- أنه مارس الخطة الجزائرية بالترويج للتطرف ومساعدته على الانتشار، حتى يسوّق نفسه حاميا للأقليات ومحاربا للإرهاب والتطرف.
فقام بالإفراج عن شخصيات محسوبة على تنظيم القاعدة الذي قام لاحقا بإنشاء كياناته، التي انتزعت أجزاء من الأراضي التي حررها السوريون فظهرت جبهة النصرة ولاحقا تنظيم "داعش". هنا أنشأ المجتمع الدولي تحالفاً لمحاربة "داعش" في سبتمبر/أيلول 2014، وتعاون فقط مع "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) التي انفردت بذلك، وخالفت توافق قوى الثورة على أنهم جاهزون لمحاربة "داعش" ونظام الأسد معاً، لأن النظام هو خزان الإرهاب والممول الحقيقي له.
ثم وُجِدت بعد ذلك قواعد عسكرية في تلك المناطق من دول أساسية مثل أميركا وفرنسا وبريطانيا، بالإضافة إلى الأجهزة الاستخباراتية لدول أخرى. كانت النقطة الفاصلة في تاريخ الثورة السورية هي طلب نظام الأسد التدخل الروسي في سبتمبر/أيلول 2015 لقمع الشعب السوري وحماية حكمه منه.
وقد تمت تلك المطالبة بناء على طلب الإيرانيين –وخاصة مسؤول الحرس الثوري قاسم سليماني- الذين رأوا صعوبة الوقوف في وجه قوى الثورة، وليس لحماية الدولة من أي تهديد خارجي أو ممن كان يهددهم باحتفاظه بحق الرد ضدهم. أنشأت روسيا بعد ذلك أول قاعدة عسكرية متكاملة على البحر الأبيض المتوسط (قاعدة حميميم)، بالإضافة إلى حوض صيانة السفن الحربية في طرطوس الذي كان موجودا من قبلُ.
كان التدخل الخارجي واضحا منذ بداية الثورة؛ فقد استعان نظام الأسد بمليشيات حزب الله، وكان ذلك جلياً في معركة القصير خلال مايو/أيار 2013 على الحدود اللبنانية، والتي تدخل خلالها الحزب بشكل سافر بعيداً عن الأعراف الدولية، من حيث تدخل حزب في دولة ما لصالح دولة أخرى بعيداً عن موافقة سلطة دولته |
ما إن تكلمت تركيا عن قرارها بالتدخل في شرق الفرات ضمن عملية "نبع السلام" بعد استنفادها لكافة الوسائل لتنفيذ المنطقة الآمنة التي بدأ الحديث عنها منذ عام 2014، وعدم تنفيذ أميركا لاتفاقها معها المتعلق بمنبج في يونيو/حزيران 2018 حتى أُحضِر مصطلح السيادة من الدول والمنظمات وبعض المفكرين والمعارضين.
إذا ما أردنا معرفة الدوافع الحقيقية لمعارضة عملية "نبع السلام"، والتي كانت تحت شعار مصطلح "السيادة" الذي رفض به البعض تلك العملية؛ فإنه علينا أن نتذكر أن "قسد" أصبحت مهدداً حقيقياً لسوريا الموحدة التي عرفناها خلال العقود الماضية، فقد كاد أحيانا مشروعها الانفصالي أن يصل إلى البحر الأبيض المتوسط مروراً بحلب.
وقد مارست "قسد" خلال تمددها أساليب مماثلة لممارسات نظام الأسد، من حيث إلغاء التعليم باللغة العربية، والتجنيد الإجباري، والإخفاء القسري، وإغلاق دور العبادة، وإطلاق مصطلحات لم تكن موجودة سابقا مثل "روجا آفا" (= كردستان الغربية).
حاولت بعض الدول والساسة الأوربيين والأميركان خداع الرأي العام العالمي بأن عملية "تبع السلام" هدفها استهداف الأكراد والأقليات، وهذا الكلام يتعارض مع الجغرافيا والتاريخ، لأن شرق الفرات يوجد فيه العرب والسريان والآشور والتركمان.
فالكرد السوريون في تلك المنطقة لا يشكلون وحدة متصلة جغرافياً تسمح لهم بالتفكير في الانفصال أو المطالبة بالحكم الذاتي كمثال مشابه لواقع العراق، بل إنهم انتقلوا إلى مراكز المدن الكبرى مثل دمشق وحلب -حيث الجامعات وفرص العمل- بدون أية نزاعات تذكر.
أما إذا انتقلنا إلى تحليل تلك الدوافع ومعرفة كنهها؛ فإنّ أولى تلك النقاط تكمن في الدوافع الدولية، فهناك خشية واضحة لدى الدول الكبرى من تمدد النفوذ التركي في المنطقة، ومن كسرها حاجز الحصار الإستراتيجي غير المعلن عليها. وبذلك تنهي تركيا مفاعيل اتفاقية سايكس/بيكو ومعاهدة لوزان، وتكون أكثر قرباً من منابع النفط التي تعاني من عدم توفره داخل أراضيها مما يهدد نموها الاقتصادي.
النقطة الثانية هي المعارضة الإقليمية؛ وتكمن في خشية بعض الدول الإسلامية من أن تعود تركيا إلى ممارسة دور الدولة الأم للعالم الإسلامي وخاصة عند العرب السنة، بعد أن بدأت في إعطاء أهمية إضافية لملف فلسطين بالتزامن مع قضية "صفقة القرن" وكذلك لمسلمي الروهينغا في ميانمار.
أما النقطة الثالثة فتتمثل في إبداء بعض الشخصيات المعارضة معارضتها اللافتة لتلك العملية، والأرجح أنها ذات دوافع أيديولوجية لا تخفى على ذي بصيرة بالسياسة؛ فهي تتخوف من أن يزداد نفوذ تركيا التي يقودها حاليا حزب العدالة ذو التوجه الإسلامي المحافظ، مما يجعل سوريا القادمة -كما يفترضونها عند إيجاد أي حل سياسي- ذات توجه قريب منه.
كانت مواقف بعض المفكرين والسياسيين -وخاصة المحسوبين على التيار اليساري والقومي والعلماني- تميل للتشدد في رفضها لعملية "نبع السلام"، علماً بأنهم بذلك يناقضون مواقفهم السابقة؛ فقد طالب السوريون بالحماية الدولية والتدخل الخارجي، وبإنشاء المنطقة الآمنة وأيضاً بمحاربة "داعش" و"القاعدة".
وموقف هؤلاء المعارضين يجعلهم أكثر قرباً من الموقف الأوروبي المعارض أيضاً لـ"نبع السلام"، وكذلك الأمر بالنسبة للأحزاب الكردية وعلى رأسها المجلس الوطني الكردي الذي تعامل مع العملية بطريقة شعبوية، كما فعل سابقا في موقفه من عملية "غصن الزيتون" التركية أيضا. وهم بذلك يستحضرون التاريخ وإشكاليات دول الجوار إلى الملعب السوري، وهذه مقاربة خاطئة ستكون لها ظلال سلبية مستقبلاً.
بينما كان موقف رابطة الكرد المستقلين والتيار القريب من الشهيد مشعل تمو أكثر توازناً في هذا الجانب، فقد رحبوا بالتخلص من حزب العمال الكردستاني المتهم الرئيسي بممارسة الإرهاب على الأكراد وفرض آرائه عليهم، حتى إنهم يعتبرون أنه هو ونظام الأسد وجهان لعملة واحدة. وهذا ما أثبتته محاولات حزب العمال اللاحقة على بدء عملية "نبع السلام"، عندما كانوا جاهزين للموافقة على كافة شروط النظام.
قضية التدخل الخارجي قضية مبدأ لا يستطيع أحد المزايدة فيه؛ فلا يمكن السكوت عنه في حال كانت الدولة دولة مؤسسات ولكافة المواطنين، وليست مجرد كيان تتسلط عليه مافيا حاكمة تستبيح البشر والشجر والحجر لصالح مجموعة صغرى. عندها تحتاج مقاربة التدخل لنقاش مصلحة الوطن والمواطن حتى لا تكون شبيهة بقميص عثمان، وشعاراً يستفيد منه الحاكم في قمع الشعب |
إنّ الاتفاق الأميركي/التركي الأخير -وأيضاً لقاء سوتشي بشأن عملية "نبع السلام" التي تشمل منطقة شرق الفرات دون أية وجود تفاوضي للنظام- يؤكد أن المجتمع الدولي مستمر في عدم إعطاء نظام الأسد أية شرعية.
إلا أن المراقب الخارجي للمشهد السياسي السوري يلاحظ أنه في الآونة الأخيرة غابت اللقاءات التشاورية فيما بين مؤسسات المعارضة السورية والجانب التركي الرسمي، وإذا ما أردنا الحديث بدقة فإن هذه اللقاءات انحصرت بين مؤسستيْ الجيش والاستخبارات التركيتين والفصائل العسكرية أو "الجيش الوطني" (الكيان الذي شكل حديثاً).
إن "الجيش الوطني" (التابع للثورة) مؤسسة يجب أن تتبع للحكومة السورية المؤقتة وائتلاف قوى الثورة، أي أنه مؤسسة ليست صاحبة قرار منفرد في الثورة السورية. وغياب التشاور والتواصل -الذي كان ملاحظاً في بداية الثورة- بين المؤسسات السياسية المعارضة والجهات الرسمية التركية لعب دوراً سلبياً في مواقف البعض.
إنّ قضية التدخل الخارجي قضية مبدأ لا يستطيع أحد المزايدة فيه؛ فلا يمكن السكوت عنه في حال كانت الدولة دولة مؤسسات ولكافة المواطنين، وليست مجرد كيان تتسلط عليه مافيا حاكمة تستبيح البشر والشجر والحجر لصالح مجموعة صغرى.
عندها تحتاج مقاربة التدخل لنقاش مصلحة الوطن والمواطن حتى لا تكون شبيهة بقميص عثمان، وشعاراً يستفيد منه الحاكم في قمع الشعب وتبديد موارده ليتحول إلى دولة هزيلة مستباحة دولياً. عندها تكون السيادة منتهية وبلا طعم ولا لون ولا رائحة، كواقع سيادة سوريا المحزن منذ انقلاب 1963.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.