غزة في معادلة الخراب الفلسطيني

FILE PHOTO: Palestinian President Mahmoud Abbas (R) talks with Prime Minister Ismail Haniyeh during the first cabinet meeting of the Palestinian unity government in Gaza March 18, 2007. REUTERS/Suhaib Salem/File Photo

قمع مظاهرات التضامن
غزة درع فلسطين

إنها معادلة خراب فعلا؛ لأنه لم يحصل أن وقف قطاع من شعب مع إجراءات قاسية ضد قطاع آخر من ذات الشعب، ولكن ذلك حصل في الضفة الغربية؛ فقد خرجت جموع تضامنا مع قطاع غزة ومطالبة برفع العقوبات الفلسطينية، فخرجت مظاهرات مضادة تأييدا لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس الذي يفرض العقوبات على غزة.

أي أن جموعا فلسطينية تؤيد الإجراءات الفلسطينية المتخذة ضد قطاع غزة الذي يعاني أهله من حصار عربي صهيوني غربي صعب. هذا هو عين الخراب، وهي معادلة قائمة تشمل النسيجين الاجتماعي والأخلاقي، والثقافة الوطنية والمروءة العربية، والمصير المشترك والوحدة الوطنية، وتُقدم الدعم للاحتلال الصهيوني.

قمع مظاهرات التضامن
وليس أدل على هذا الخراب من قمع السلطة الفلسطينية للمظاهرة التضامنية مع غزة في رام الله؛ إذ تصرفت الأجهزة الأمنية الفلسطينية بوحشية وهمجية ضد أبناء فلسطين، ولم تميز بين كبير وصغير ورجل وامرأة.

لقد ضربوا النساء.. وفي هذا عار كبير بالنسبة لنا نحن الذين نتغنى دائما باحترام نسائنا وبناتنا، وحرصنا المهذب والقوي عليهن. وعمدت السلطة إلى مصادرة أجهزة التصوير ومنعت التصوير الفردي ما أمكن، كدليل على خزيها وخجلها من نفسها وأعمالها الشائنة. وقد شكل قمع المظاهرة انتهاكا للقانون الفلسطيني الذي اعتادت السلطة الفلسطينية -وفي مقدمتها رئيسها عباس- على انتهاكه وتمريغ أنفه.

قالت السلطة إنها تحترم القوانين لكن ظرف الأعياد قد أملى عليها قمع الناس. وقالت إن المظاهرة تنغص على الناس وتعرقل حركتهم في أيام العيد، وحرصا منها بالتالي على الناس قمعت الناس.

فإذا كانت السلطة معنية بعدم التنغيص على الناس في الضفة الغربية، فكيف تسمح لنفسها بزيادة التنغيص على قطاع غزة فتحجب عنهم الرواتب جزئيا؟ أم إن الناس في الضفة الغربية ناس وفي غزة ليسوا ناسا؟

نقلت وسائل الإعلام الإقليمية والعالمية مشاهد من قمع أمن السلطة للمتظاهرين، وأثارت تساؤلات حول قدرة الشعب الفلسطيني على إقامة دولة حقيقية. هؤلاء الذين لم يصلوا إلى درجة دولة حتى الآن يمارسون كل هذا القمع ضد شعبهم، فكيف سيفعلون إن هم أصبحوا دولة؟ وأشد ما أثار ردود فعل لدى المشاهدين هو الاعتداء على الفتيات والنساء

ومن أراد فعلا التسهيل على الناس كان بإمكانه أن ينصح وينسق مع المتظاهرين من أجل مظاهرة سلسة وغير مزعجة، علما بأن المتظاهرين لم يتجاوزوا آداب التظاهر، لكن السلطة على ما يبدو تعمدت إرهاب الناس وليس التسهيل عليهم في العيد.

كانت السلطة الفلسطينية في غاية الحماقة عندما تصدت للمتظاهرين بتلك الوحشية؛ لقد خلت ممارساتها من أدنى معاني الذكاء لأنها أساءت إلى نفسها بصورة كبيرة جدا، وحرضت ضدها جماهير واسعة. لقد وضعت نفسها موضع انتقادات حادة، ووضعت الشعب الفلسطينية في حالة سخرية على المستوى العالمي.

نقلت وسائل الإعلام الإقليمية والعالمية مشاهد من قمع المتظاهرين، وأثارت تساؤلات حول قدرة الشعب الفلسطيني على إقامة دولة حقيقية. هؤلاء الذين لم يصلوا إلى درجة دولة حتى الآن يمارسون كل هذا القمع ضد شعبهم، فكيف سيفعلون إن هم أصبحوا دولة؟ وأشد ما أثار ردود فعل لدى المشاهدين هو الاعتداء على الفتيات والنساء.

يولي الشعب الفلسطيني احتراما خاصا للنساء، ويقدر دورهن في الحياة الفلسطينية ومختلف النشاطات، لكن السلطة الفلسطينية فقدت كل احترام وتقدير، ولم تتردد في ضرب النساء، ناهيك عن سحل الناس في الشارع أمام وسائل الإعلام. لقد حصلت همجية مرعبة ستبقى صورها راسخة في جدليات أعداء الشعب الفلسطيني.

ومن التبجح بالوقاحة أن يقف أحد عناصر الأمن الفلسطينية أمام الشاشة ليهدد الناس ويتوعدهم بالمزيد من القمع، ويبقى مسؤولا في مكانه لم يعاقبه أحد، ولم تُتخذ ضده إجراءات.

شعر أهل غزة بالانتعاش نتيجة حصول المظاهرات في رام الله تضامنا معهم، وارتفعت معنوياتهم على أمل أن يؤدي الضغط الشعبي إلى رفع العقوبات عنهم. وبالطبع تأخرت هذه المظاهرات رغم معرفة الناس في الضفة بالأوضاع القاسية التي يعيشها أهل غزة، والتي لم تحصل حتى أثناء الحروب المتتالية على غزة.

لقد شن الكيان الصهيوني ثلاث حروب متتالية على غزة، ودمر وقتل وخرب دون أن تتحرك الضفة الغربية تضامنا مع غزة. تضامن أهل إنكلترا وأسكتلندا وأهل دول أخرى مع غزة، لكن الضفة الغربية بقيت هادئة. وطبعا سبب ذلك هو أن قوى الأمن الصهيونية والفلسطينية أثارت الرعب في قلوب الناس إلى درجة أنهم فقدوا القدرة على الدفاع عن أنفسهم.

تلك الحمية العربية الأصيلة والشجاعة التي كان يتحلى بها شباب فلسطين تدهورت تحت ثقل الديون المالية، واضمحلال الثقافة الوطنية، ورفع منسوب الهموم الشخصية.

إنها مسؤولية كل أبناء الشعب الفلسطيني في كافة أماكن وجودهم أن يهبوا لنجدة غزة. والمفروض ألا يكتفي الناس بالتظاهر، وإنما عليهم تبني برامج تخفف وطأة الحصار الصهيو/فلسطيني، والذي يشارك فيه بعض العرب وأهل الغرب. غزة بحاجة إلى ما هو أكثر من تضامن الشارع، إنها بحاجة إلى البذل والسخاء والتضحية.

غزة درع فلسطين
يعمل رجل الدولة دائما على رص صفوف شعبه، وحشد مختلف الطاقات والإمكانات والقدرات من أجل مواجهة التحديات وتحقيق التطلعات، خاصة عندما تمرّ الدولة بأزمات. رجل الدولة لا يتصرف وفق رغبات الانتقام أو الثأر، وإنما وفق مصلحة الدولة والشعب، وإلا يكون مصيره الفشل.

فكان من المفروض أن تستنفر السلطة الفلسطينية عندما قام الصهاينة بمحاصرة غزة، وأن تحشد كل طاقاتها وقدراتها وكل فئات الشعب، من أجل التصدي للحصار ومساعدة أهل غزة على الصمود والتصدي، ومواجهة التحدي بتحدٍّ أكبر وأشد.

كان على محمود عباس أن يشمر عن ساعديه لنصرة جزء كبير من شعبه يعاني من وطأة إجراءات الاحتلال. كان من المفروض أن يسارع إلى ترتيب الطاقات الشعبية والرسمية لخدمة أهل غزة، وأن يقدم المساعدات الفورية للتخفيف من وطأة الحصار.

كان على محمود عباس أن يشمر عن ساعديه لنصرة جزء كبير من شعبه يعاني من وطأة إجراءات الاحتلال. كان من المفروض أن يسارع إلى ترتيب الطاقات الشعبية والرسمية لخدمة أهل غزة، وأن يقدم المساعدات الفورية للتخفيف من وطأة الحصار. وكان عليه أن يطوف العالم بحثا عن كل أنواع الدعم لأهل غزة لتعزيز صمودهم

وكان عليه أن يطوف العالم بحثا عن كل أنواع الدعم لأهل غزة لتعزيز صمودهم. كان من المفروض التعامل مع غزة على أنها منطقة كوارث فلسطينية، تستحق اهتمامات خاصة حتى ولو غضب الصهاينة.

كل هذا لم يحصل، ووجدنا أن بعض رجالات السلطة يحرضون على غزة ويحاولون وصف القطاع بأنه منطقة فلسطينية متمردة، وودُّوا لو كانوا قادرين على شن حرب على غزة. بعضهم حرض الصهاينة -بطريقة غير مباشرة- على غزة، وغضبوا على رب العالمين لأنه لم ينصر الصهاينة على غزة.

وهكذا بدل التخفيف عن غزة؛ انضمت السلطة الفلسطينية إلى الصهاينة ومصر في تشديد الحصار. مصر قضت إلى حد كبير على الأنفاق ودمرت أغلبها، والسلطة ضيقت ماليا بصورة كبيرة على القطاع، واتخذت إجراءات عقابية خاصة في مجالات الصحة والطاقة.

محمود عباس ليس رجل دولة، ولم يكن كذلك في أي وقت من أوقات سيطرته؛ لقد أحاط نفسه بمجموعة مشكوك في انتمائها الوطني، وصبّوا تحريضهم على حركة حماس وقطاع غزة من أجل القضاء على المقاومة.

ورغم شدة الحصار وضيق الحياة في غزة وضنك العيش؛ فإن غزة حافظت على مكانة القضية الفلسطينية، وعطلت الحلول الساعية لتصفيتها، وأعاقت اتفاق أوسلو وأهله. لقد صمدت غزة في ثلاث حروب متتالية، وبقيت صامدة رغم التضحيات الضخمة التي قدمتها وما زالت تقدمها.

لقد ضرب أهل غزة المثل الأعظم في الصمود والتضحية والفداء والشجاعة والإباء. لقد صمدت المقاومة، وصمد الشعب، وصمدت حماس، وهؤلاء جميعا سطروا أروع البطولات الفلسطينية.

ويكفي أهل غزة فخارا أنهم أعادوا حق العودة إلى صدارة الاهتمام العالمي وإلى الذاكرة الفلسطينية والعربية. ولهذا نقول لأهل غزة ألا يقنطوا وألا ييأسوا، فهذا الجلد والصبر لن يذهب سدى، والأحرار فقط هم الذين يحرِّرون.

لقد حوصرت غزة بشدة ظنًّا من الأعداء أن الناس سيثورون ضد المقاومة الفلسطينية، ويغيّرون الوضع السياسي إلى ما يتناسب مع اتفاق أوسلو، لكن المظاهرات خرجت في الضفة الغربية ضد الذين قصدوا العكس. ومن حفر حفرة لئيمة وقع فيها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.