الولايات المتحدة.. أمُّ العالم أم شُرطيُّه؟
يحلو للمصريين أن يصفوا بلادهم بأنها "أم الدنيا"، ويرجع هذا فيما يبدو إلى وصف الثقافة التراثية الإسلامية والأوروبية لبعض المدن والأمصار بأنها "أم العالم"، فقد وُصفت به بغداد وروما ومصر وغيرها؛ إشارة إلى احتوائها على كل فنون وصور الحضارة المعروفة في زمانها، مما تفرق في غيرها أو حُرمت منه البلدان الأخرى.
ويبدو أننا في حاجة إلى توظيف هذا المصطلح بمفهومٍ سياسي لفهم السلوك الأميركي الحالي تجاه قضايا العالم ودوله؛ إذ يبدو هذا السلوك متفاوتا من حالة إلى أخرى بصورة ظاهرة، ويكشف عن ذلك بوضوح الموقف الأميركي من كوريا الشمالية في مقابل مواقفها من قضايا المنطقة العربية والإسلامية؛ فما السر في هذا؟!
وقبل محاولة الإجابة عن هذا السؤال لا بد من تأكيد الفرق الكبير بين أن تكون الدولة الأقوى في العالم أمًّا له وبين أن تكون شرطيا عليه، فالأول سلوك إنساني يراعي حقوق الآخر، ويستجيب لغرائز القوة في تحقيق الطرف الأقوى لذاته؛ في حين أن شرطي العالم يعدّ توظيفا للقوة في ترتيب الأوضاع والسياسات في الدول والأقاليم الأخرى، حسب رغبات ومصالح الطرف الأقوى دون مراعاة أي شيء آخر.
صفقة كوريا الشمالية
نال اللقاء التاريخي بين الرئيسين الأميركي دونالد ترامب والكوري الشمالي كيم جونغ أونفي 12 يونيو/حزيران الجاري اهتماما واسعا من وسائل الإعلام والدوائر الدبلوماسية على السواء، وهو لقاء تاريخي بامتياز، وإن كان لا يمكننا أن نتوقع أن تكون نتائجه تاريخية بالدرجة نفسها.
لا بد من تأكيد الفرق الكبير بين أن تكون الدولة الأقوى في العالم أمًّا له وبين أن تكون شرطيا عليه، فالأول سلوك إنساني يراعي حقوق الآخر، ويستجيب لغرائز القوة في تحقيق الطرف الأقوى لذاته؛ في حين أن شرطي العالم يعدّ توظيفا للقوة في ترتيب الأوضاع والسياسات في الدول والأقاليم الأخرى، حسب رغبات ومصالح الطرف الأقوى |
وتثير وقائع اللقاء كثيرا من الشكوك في الجانب الخفي منه؛ نظرا للسرعة النسبية التي تم بها بعد فصول من التهاجي الشديد بين طرفيْ القمة، ونظرا للثقة السريعة التي نشأت بين الرئيسين بعد الذي كان، وكذلك شمول الاتفاق الذي وقّعاه للقضايا الأساسية بينهما بدون اختلاف عليها تقريبا.
وهو ما يقوي احتمال أن يكون الاتفاق الكوري الأميركي جزءا من صفقة أكبر بين الصين والولايات المتحدة لمنع الحرب التجارية بينهما، تتولى فيه بيكين كبح جماح حليفها الصغير مقابل أن تتوقف واشنطن عن شن حربها التجارية ضد الصين.
وبهذا نفهم أن ثقة واشنطن في التزام بيونغ يانغ ببنود الاتفاق -خاصة ما يتعلق منها بإخلاء شبه الجزيرة الكورية من الأسلحة النووية- نابع من وجود طرف قوي، ضامن لهذا الالتزام وتهمّه مصالحه؛ وهو طرف لا يخفى على أحد أنه العملاق الاقتصادي والسياسي الكبير: الصين.
ويشجع على هذا التفسير أن الصين تنتهج -في انفتاحها الاقتصادي- أسلوب تسخير السياسة في خدمة الاقتصاد والحؤول دون تعويقها لنموّه، فتعمد إلى تقليل التوتر مع الآخر إلى أقل حد ممكن، ولا تهتم بتبادل الهجاء والتهديد مع أحد إلا نادرا، وتتجنب التدخل في مناطق التوتر والحروب إلى أقصى حد تستطيعه، ما دام هذا يخدم استقرار الاقتصاد الصيني ونموّه.
ومع هذا الضلوع الصيني في الحدث الكبير يجب أن نلتفت إلى اعتبارات مهمة في اللقاء الذي جمع ترامب وكيم، وحدد السلوك الأميركي تجاه الطرف الذي يتعامل معه.
وفي مقدمة هذا: النظر إلى كوريا الشمالية -رغم الفارق الضخم بين البلدين في كل أنواع القوة ومع العداوة التاريخية الطويلة بينهما- باعتبارها ندًّا وطرفا مستقلا، ينبغي احترامه في سبيل الحد من طموحاته؛ وذلك بتقديم بعض الامتيازات السياسية والاقتصادية الضخمة له مقابل حماية الحلفاء في شرق آسيا من شروره ونزقه، ومعهم المصالح والأمن الأميركيان كذلك.
ومع أن التأثير الصيني في الحدث واضح بكل تفاصيله، حتى في إرضاء غرور الرئيس الكوري الشمالي بالتغطية الإعلامية الأسطورية للحدث الذي تضمن في الحقيقة خضوعا كوريًّا تاما للموقف الأميركي؛ إلا أن هذا لا يقلل من حقيقة أن رئيسا أميركيا بطبيعة ترامب المعروفة قد جلس مع رئيس كوري شاب وعامله معاملة الند، وخاطبه بوصفه طرفا مستقلا ينبغي التعاطي معه في سبيل مصالح الشعبين الأميركي والكوري، وهذا سلوك يتناسب مع وصف "أم العالم" بمفهومه السابق.
مكاييل أميركية متعددة
النظر في السلوك الأميركي في ملفات أخرى كثيرة تتعلق بالمنطقة العربية والإسلامية يؤكد أن لدى الأميركيين مكاييل عدة يتعاطون بها مع مختلف الأطراف الدولية، وأشد هذه المكاييل تطفيفا تلك المتعلقة بقضايا العرب والمسلمين؛ حيث تظهر أنياب الشرطي الأميركي الدولي واضحة في فلسطين والعراق وأفغانستان، ومؤازرة الاستبداد الداخلي في معظم دول المنطقة.
ولعلنا شعرنا بشيء من إعطاء الاعتبار لدولة مسلمة في قضية كبيرة خلال الاتفاق النووي بين واشنطن وطهران في عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما عام 2015، إلا أن ظروف الإقليم حينئذ وتطور أحداثه فيما بعد تنبئ عن وجود رائحة غير طيبة في هذه الاتفاقية.
إذا كان البريطانيون والفرنسيون هم أكبر قادة المرحلة الاستعمارية، فإن الشرطي الأميركي -الشرس والراعي الدائم لإسرائيل- هو الضالع الأكبر في إجهاض ثوراتنا الأولى ضد الاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية، وثوراتنا الأخيرة ضد الاستبداد خلال العشرية الحالية؛ وما زال يرتع في مساحات الخيبة الواسعة التي صنعناها لأنفسنا |
فقد كانت المواجهة مع الثورة اليمنية والسورية حينئذ على أشدها، وتلت هذا التاريخ انتكاسات ضخمة للثورتين، وتمدد إيراني واسع في البلدين العربيين المنكوبين، بما يعكس وجود اتفاقات سرية ربطت التعاون في جانب بالتنازل في جانب آخر.
وعراق صدام حسين وما آل إليه -منذ غزو الكويت عام 1990 وغزو العراق 2003 وما تعلق به من تشكيل التحالفات في المنطقة وتفكيكها- يقدم نموذجا صارخا للتوجه الأميركي بشأن قضايا المنطقة، وأصل هذا هو تفكيك كل القوى المؤثّرة لصالح انفراد إسرائيل بالقوة الحاسمة في المنطقة.
فقد أجهضت حربُ 5 يونيو/حزيران 1967 ثم معاهدةُ السلام المصرية الإسرائيلية عام 1979 قوةَ مصر باعتبارها دولة مواجهة مع مشروع دولة إسرائيل، وفي العراق بدا أن صدام حسين جعل من الحرب مع إيران (1980-1988) -برغم ثمنها الفادح- غطاءً لتحديث الدولة وتقويتها عسكريا، وهو ما مثّل تهديدا خطيرا لإسرائيل فأوجب تصفية مشروع العراق القوي بأي ثمن.
وقُل مثل ذلك وأكثر عن القضية الفلسطينية؛ خاصة ما يسعون إليه من تصفيتها في هذه المرحلة عبر ما يُسمَّى "صفقة القرن".
ويعكس هذا -في جملته- نظرة دونية من الأميركيين إلى المنطقة وكياناتها السياسية، فهم لا ينظرون إلينا باعتبارنا كيانات سياسية مستقلة على الحقيقة، ومن حقها أن تدير شؤونها وفقا لما يحقق مصالح شعوبها، وأن تختار من يسوسها والنظام الذي تدير عليه دولاب الدولة وسياستها الخارجية؛ بل باعتبار أن للحرية في بلادنا سقفا لا ينبغي تجاوزه، سواء في السياسة الداخلية أم الخارجية.
وجذر هذا الوضع العربي المُزري يتمثل في الاستقلال السياسي والاقتصادي والتشريعي المنقوص الذي حصلنا عليه عقب المرحلة الاستعمارية، وسرقة ثوراتنا الأولى ضد الاستعمار من بين أيدينا، وسماح الشعوب وقياداتها بأن تُرتَّب المنطقة وفقا لخطط المستعمر ومنطقه، وليس وفقا لمنطقها هي الحضاري والثقافي.
وإذا كان البريطانيون والفرنسيون هم أكبر قادة المرحلة الاستعمارية، فإن الشرطي الأميركي -الشرس والراعي الدائم لإسرائيل- هو الضالع الأكبر في إجهاض ثوراتنا الأولى ضد الاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية، وثوراتنا الأخيرة ضد الاستبداد خلال العشرية الحالية.
وما زال هذا الشرطي يرتع في مساحات الخيبة الواسعة التي صنعناها لأنفسنا، ويتمدد في الفراغ الكبير الذي لم نشغله ولم نحصنه في حياتنا الثقافية والعلمية والسياسية والاقتصادية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.