كوريا الشمالية بين سياسة الردع والنموذج الليبي

U.S. President Donald Trump and North Korea's leader Kim Jong Un react during their summit at the Capella Hotel on Sentosa island in Singapore

مفاوضات لأجل المفاوضات
مصيدة الانقسام الأميركي 

لعل أكثر ما يميز سلوك كوريا الشمالية الدبلوماسي هو النديّة في تعاملها مع القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية؛ وهو أمر يثير كثيراً من الحنق المغلف بالسخرية لدى هذه القوى.

وقد تجلى ذلك في اللقب الذي أطلقه الرئيس الأميركي دونالد ترامب على الرئيس الكوري الشمالي كيم، حين نعته -احتقاراً له وتقليلاً من شأنه- بأنه "رجل الصاروخ الصغير"، مما قاد إلى ردود مقابلة شكّلت مشهداً نادراً وطريفاً في دبلوماسية "التويتر"، التي باتت سمة للقرن الواحد والعشرين.

أكثر ما يلفت الانتباه في المفاوضات الأميركية الكورية الشمالية هو هذه الهوّة الواسعة بين موقف الطرفين، فأميركا -التي تمارس دور شرطي العالم- تعلن أنّها لن تقبل إلاّ بإزالة السلاح النووي الكوري الشمالي "إزالة كاملة قابلة للتحقق وغير قابلة للاستعادة".

بينما يفترض الطرف الكوري الشمالي أنّه سيدخل مفاوضات -بدون شروط مسبقة- تقود إلى اتفاق عادل بين الطرفين، يفضي إلى نزع التوتر في المنطقة وتطبيع العلاقات بين البلدين.

مفاوضات لأجل المفاوضات
يعلن الأميركيون أنّهم لن يسمحوا لكوريا الشمالية بأن تتهرب تحت غطاء إطالة أمد المفاوضات ولا بالحصول على أي مكاسب، ما لم تستجب لكافة الشروط الأميركية؛ فترامب ومساعدوه من صقور اليمين، يصوّرون الأمر كما لو أنّهم استطاعوا أن يُخضعوا "الوحش" الكوري الشمالي، ونجحوا في تطويعه باستخدام إستراتيجية "الضغط الأقصى".

إعلان

وتتضمن هذه الإستراتيجية التلويح بمزيد من التهديد بالعمل العسكري والعقوبات الدوليّة الصارمة، والاميركيون يرون أنهم أحضروا الطرف الكوري الشمالي إلى طاولة المفاوضات، وغير مقبول منه إلا أن يتجاوب مع الشروط الأميركية تجاوباً كاملاً، وإلاّ فإنّه سيواجه العواقب المدمّرة.

يعلن الأميركيون أنّهم لن يسمحوا لكوريا الشمالية بأن تتهرب تحت غطاء إطالة أمد المفاوضات ولا بالحصول على أي مكاسب، ما لم تستجب لكافة الشروط الأميركية؛ فترامب ومساعدوه من صقور اليمين، يصوّرون الأمر كما لو أنّهم استطاعوا أن يُخضعوا "الوحش" الكوري الشمالي، ونجحوا في تطويعه باستخدام إستراتيجية "الضغط الأقصى"

لكن الشواهد تفيد بأنّ هذا التصور غير واقعي إطلاقا؛ فإستراتيجية "الضغط الأقصى" أبعد ما تكون عن التحقق، إذ إن المصارف الصينية ما زالت تتعامل مع كوريا الشمالية دون عوائق، وفرض عقوبات أميركية عليها معناه زيادة إشعال الحرب التجارية مع الصين.

وذلك أمر ليس من مصلحة الولايات المتحدة إطلاقا الآن، بسبب خلافها مع شركائها الغربيين من أوروبيين وكنديين. كما أن روسيا والصين -وهما تمثلان شريان الحياة لكوريا الشمالية وغطاءها الدولي- لم تنفضّا من حولها.

فما الذي جلب كوريا الشمالية إلى طاولة المفاوضات إذن؟ من الواضح أن كوريا الشمالية وصلت إلى غاية ما تصبو إليه من قوة، وهي اليوم تشعر بالكثير من المنعة، وقد آن الأوان لأن تنزل عن الشجرة وتتبنى سياسة أكثر واقعية تعيدها إلى المجتمع الدولي من موقف القوي.

وهي إن فعلت ذلك سيتم الاعتراف بها كقوة نووية إقليمية لها دائرة نفوذ إقليمية كالعديد من الدول الأوروبية والهند وباكستان، ولعل الكوريين الشماليين يخططون لمجموعة من الأهداف المباشرة المترتبة على البدء بالمفاوضات؛ منها على سبيل المثال:

المساعدات الاقتصادية: يمكن أن تحصل كوريا الشمالية على محفزات اقتصادية -لتشجيعها على الانخراط في المفاوضات السلمية- من كوريا الجنوبية واليابان والصين؛ وهي دول من مصلحتها نزع فتيل التوتر في المنطقة، مما سيكون له تأثير مفيد جيداً على الاقتصاد الكوري الشمالي والوضع الاجتماعي.

منع العدوان الأميركي: فالكوريون الشماليون يدركون أنّه طالما أن المفاوضات مستمرة، فإنّه من غير المنطقي أن تقوم أميركا بعدوان مفاجئ على بلادهم، فالحرب تبدأ عندما تتوقف الدبلوماسية كما يُقال.

إعلان

ولذا فإنّ إبقاء المفاوضات مستمرة أطول فترة ممكنة هو هدف أمني بحد ذاته؛ فهي غالبا لن تلتزم بأي تنازلات قبل الوصول إلى اتفاق نهائي، وبذلك سيكون لها مطلق الحريّة في تطوير قدراتها العسكرية والأمنيّة في هذه الأثناء.

تحسين سمعة كوريا الشمالية: لأن إغراء كوريا الشمالية بالمشاركة في المفاوضات واستمرارها فيها يتطلب إيقاف الحملات الدعائية ضدها أو تخفيضها، وهو الأمر الذي سيعني أن صورتها في وسائل الإعلام الغربي ستكون أقل سوءاً من المعتاد.

كما أنّ قبول الولايات المتحدة بالجلوس معها -وهي خصمها الأشد- سيشجع دولاً ليس لديها ذات المستوى من الخصومة على الاتصال بالكوريين الشماليين، تحت شعار "لن نكون ملكيين أكثر من ملك".

دق إسفين بين أميركا وحلفائها: من أهم ما يمكن أن يحققه الكوريون الشماليون أثناء المفاوضات -كما يرى البعض- هو دق إسفين في العلاقات الأميركية الكورية الجنوبية والأميركية اليابانية.

هناك من يتحدث عن أن كوريا الشمالية تدرك حاجة كوريا الجنوبية واليابان إلى السلام واستبعاد شبح الحرب المدمرة عن المنطقة، وأنّ رئيس كوريا الجنوبية مون جي إن قد التزم أمام شعبه بذلك؛ ولذلك فإنها تجاوبت مع رغبته في عقد المفاوضات.

وإن فشلت هذه المفاوضات فستحمّل كوريا الشمالية الإدارةَ الأميركية مسؤولية فشلها، وتُظهرها أما الشعب الكوري الجنوبي كحليف متهور يسعى للحرب متجاهلاً مصلحة كوريا الجنوبية. وأمّا إن نجحت المفاوضات فإنّها ستتركز -في المقام الأول- على إقناع كوريا الشمالية بالتخلي عن منظومة الصواريخ العابرة للقارات، والتي يمكن أن تضرب البر الأميركي.

وسيتم تأجيل أو تجاهل مناقشة أنواع الصواريخ والتسليح الأخرى التي تهدد الأمن الإقليمي بشكل مباشر، مما سيظهر الولايات المتحدة لكوريا الجنوبية واليابان كحليف أناني تهمّه مصلحته فقط. وهذا الوضع على أي وجهيْه انتهى؛ سيدفع كوريا الجنوبية والإقليم بعيداً عن أميركا في اتجاه الصين، وسيجعل قدرة واشنطن على شن حرب على بيونغ يانغ صعبة جداً بدون موافقة الإقليم ومساعدته.

إعلان

مصيدة الانقسام الأميركي
في محاولة لحرمان ترامب من أي نصر معنوي أو تفاوضي يمكن أن يحققه مع كوريا الشمالية؛ قامت مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ من الديمقراطيين بنشر رسالة موجهة إلى الرئيس تطالبه بتبني شروط متشدّدة للمفاوضات، ترقى إلى درجة الاستحالة ولكنها تتماهى مع خطاب صقور الجمهوريين.

وهدفهم من ذلك هو المزايدة على الجمهوريين ومنعهم من التراجع عن الخطاب المتشدد، وإبداء شيء من المرونة في المفاوضات. وإن حصل ذلك وتم تبني هذه المطالب، فإنّها ستكون وصفة جاهزة لفشلها دون شك، وهو ما يذكّر بالموقف الذي اتخذه الجمهوريون عشية انطلاق مفاوضات الرئيس السابق باراك أوبامامع الإيرانيين. وأهم هذه الشروط هي:

إنّ فكرة قبول كوريا الشمالية التصور الأميركي المتمثل في إزالة سلاحها النووي "إزالة كاملة قابلة للتحقق وغير قابلة للاستعادة"؛ هي أمر من الخيال الجامح الذي لا يمكن أن يحدث إلى بمعجزة، ولا بد من فهم أنّ كل تنازل من الطرف الكوري الشمالي -مهما كان صغيراً أو رمزياً- يجب أن يكون له مقابل تدفعه أميركا وحلفاؤها

– انهاء انتاج وتخصيب اليورانيوم والبلاتنيوم لأغراض عسكرية.
– التفكيك الكامل للبنية التحتية للأسلحة النووية.
– تدمير كل القدرات البحثية والتطويرية لتخصيب اليورانيوم.
– إنهاء تجارب الصواريخ البالستية.
– الالتزام ببرامج فعّالة للتفتيش عن الأسلحة.
– وجوب أن تكون برامج التفتيش عن الأسلحة شاملة ودون أية عوائق.
– أن يكون هناك اتفاق منفصل خاص بالأسلحة البيولوجية والكيميائية.
– وجود نصوص توضح كيفية معاقبة كوريا الشمالية إذا أخلّت بأي من الشروط الموقّع عليها.
– تأبيد هذا الاتفاق وعدم توقيته بزمن.

والمستطلع لهذه الشروط يجدها اتفاقية استسلام مُذلّة وليست بنود مفاوضات، الأمر الذي سترفضه كوريا الشمالية دون أدنى شك، مما دفع بالرئيس ترامب إلى الرد بقسوة على الديمقراطيين، قائلاً إنّهم فشلوا في التفاوض مع إيران وليسوا في وضع يؤهلهم لأن يقدموا النصائح.

إنّ المتتبع لموقف ترامب التقليدي تجاه كوريا الشمالية يجده رافضاً للمفاوضات معها ويميل إلى تبني سياسة الضغط عليها، وهو موقف جون بولتون الذي تم تعينه حديثاً مستشارا للرئيس لشؤون الأمن القومي، وهو من الصقور البارزين الذين صرحوا علانية بأن المفاوضات مع كوريا الشمالية هي مضيعة للوقت.

إعلان

ويرى بولتون أن كل ما يمكن فعله مع بيونغ يانغ هو تنفيذ ضربة وقائية ضدها تمنعها من التفكير في استخدام قوتها العسكرية ضد الآخرين، ثم طرَح ما يسمى "النموذج الليبي" أي التفكيك الكامل لكل أنظمة التسلح المؤثرة دون مقابل.

ولعل الكوريين الشماليين يذكرون جيداً ما حل بعدها بمعمر القذافي الذي قبِل هذا النموذج؛ بينما يبذل وزير الخارجية مايك بومبيو -الذي جاء من خلفية استخبارية- جهداً كبيراً مع شركائه الآسيويين لإنجاح هذه المفاوضات، ويريد أن يسوّقها كأحد أهم نجاحات إدارة ترامب في السياسة الخارجية، وهو الأمر الذي فشل أوباما في تحقيقه.

ومن الواضح أنّ التنافس مع أوباما بات يشكّل عقدة لترامب الذي بات ينقض كل ما أبرمه سلفه من اتفاقيات ومعاهدات متهماً إياه بعدم الكفاءة، بل صار يسعى هو الآخر للحصول على جائزة نوبل أسوة بأوباما.

ورغم أن محادثات من هذا النوع ستكون طويلة ومضنية، وذات سقوف منخفضة؛ فإن الخطاب الشعبوي لترامب ودفع خصومه الديمقراطيين يمكن أن يتسبب في فشلها في مهدها، وهو ما أشرت سابقاً إلى خطورته على علاقات أميركا مع كوريا الجنوبية واليابان وصبّه في مصلحة الصين، ويعزّز فرص حدوث هذا الفشل استعجال ترامب وإدارته بالحصول على مكاسب قصيرة المدى ووجود أناس مثل بولتون.

إنّ فكرة قبول كوريا الشمالية التصور الأميركي المتمثل في إزالة سلاحها النووي "إزالة كاملة قابلة للتحقق وغير قابلة للاستعادة"؛ هي أمر من الخيال الجامح الذي لا يمكن أن يحدث إلى بمعجزة، ولا بد من فهم أنّ كل تنازل من الطرف الكوري الشمالي -مهما كان صغيراً أو رمزياً- يجب أن يكون له مقابل تدفعه أميركا وحلفاؤها، وقد ينتهي -في حال نجاح المفاوضات- إلى الاعتراف بكوريا الشمالية كقوة نووية معترف بها، ولها مصالح إقليمية ودولية مشروعة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

إعلان

إعلان