بين التيار الشعبي والحزب السياسي

الحشود ترفع أعلام فلسطيني ودول الربيع العربي بمهرجان " الأقصى في خطر" التاسع عشر الذي أقيم بأم الفحم بالداخل الفلسطيني بـ 12 من شهر سبتمبر‎-أيلول.

لقد أضحى العمل الجماهيري والنقابي ومؤسسات المجتمع المدني من متطلبات العصر الحديث؛ ذلك أن الدولة بتركيبتها وهيكليتها لا تستطيع أن تغطي جميع المجالات، فكان لا بد من وجود مؤسسات المجتمع المدني والنقابات لسد هذه الثغرة. ونظرا للتركيبة السياسية للدولة الحديثة؛ فلا بد أيضا من وجود عمل سياسي يحاول أن يقوِّم أو يعترض على ما يراه غير مناسب لمصلحة الجماهير.

ولكن السؤال المطروح هو: هل يكون هذا العمل على شكل حزب سياسي أم تيار شعبي وما الفرق بينهما؟ عند تسليط الضوء على المفهومين نلاحظ: أن هناك خلطا بينهما ليس بين الجمهور فحسب، بل وبين الممارسين أيضا.

إذ يبدو أحيانا أن أصحاب الحزب السياسي يتبنون إستراتيجية التيارات الشعبية، مما يؤثر سلبا على مقاصدهم السياسية ويجعل أهدافهم تتعارض مع وسائلهم. والعكس صحيح؛ إذ تتعارض وسائل أصحاب التيار الشعبي مع أهدافهم، وبالتالي إعاقة تحقيق المراد من سبب وجود التيار الشعبي أو الحزب السياسي.

فالحزب السياسي هو مجموعة من الناس تؤمن بفكر ما، أو تتبنى أهدافا سياسية أو أيديولوجية أو دينية أو اقتصادية، أو فكرا مركبا من تلك الأهداف السابقة، وينظمون أنفسهم في إطار تنظيمي بهدف الوصول إلى السلطة وتنفيذ برنامجهم السياسي.

يبدو أحيانا أن أصحاب الحزب السياسي يتبنون إستراتيجية التيارات الشعبية، مما يؤثر سلبا على مقاصدهم السياسية ويجعل أهدافهم تتعارض مع وسائلهم. والعكس صحيح؛ إذ تتعارض وسائل أصحاب التيار الشعبي مع أهدافهم، وبالتالي إعاقة تحقيق المراد من سبب وجود التيار الشعبي أو الحزب السياسي

بينما التيار الشعبي هو شكل من أشكال الالتقاء أو التجمع الجماهيري حول مصالح أو مطالب ثقافية أو اجتماعية أو وطنية أو سياسية، من أجل الضغط على من هم في السلطة لتحقيق مطالبهم، ولكنهم لا يسعون للوصول إلى السلطة.

ولذا يحاول التيار الشعبي إشراك أوسع قاعدة من الجمهور بهدف تحقيق مطالبه، وتنتهي مهمة التيار الشعبي بتحقيق مراده المنشود. وهذا يقتضي توحيد الجماهير لتلبية مطالبها في مواجهة السياسات غير العادلة أو غير المناسبة للسلطة.

ومن حيث المقصد؛ فإن الحزب يهدف لتشكيل قاعدة حزبية مؤمنة بالفكرة، ويعمل على نشر فكره بين المواطنين ليشكل قاعدة جماهيرية واسعة تؤهله لدخول المعترك السياسي للوصول إلى الحكم، ولذا فإن حياة الحزب مستمرة حتى بعد الوصول للحكم، وقد يشكل ائتلافا حاكما مع أحزاب أخرى أو يكون في المعارضة.

في حين أن هدف التيار الشعبي هو تشكيل قاعدة شعبية تؤمن بالمطالب التي ينادي بها، ونشر الوعي بين الجماهير؛ معتمدا على عدالة المطالب التي يتبناها للضغط على السلطة لتلبيتها، ولذا فإن التيار الشعبي يتوقف عند تحقيق المطالب أو انتهاء أسباب تكوينه أصلا، ويمكن أن يستمر طالما أن مطالبه لم تتحقق أو دوافع تأسيسه ما زالت قائمة.

ويتم تحديد أهداف التيار الشعبي المستقلة عبر جمهوره نفسه؛ ومنها على سبيل المثال: بناء قاعدة مجتمعية واسعة تؤمن بالتغيير الذي تطالب به وتسعى له، ونشر الوعي القانوني والحقوقي المتعلق بالقضية المنشودة، والعمل على تشكيل ثقافة خاصة بها قادرة على مواجهة الثقافة المناقضة لها، إضافة إلى نشر الوعي بمصالحها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية للعمل على تحسينها.

أما من حيث الهيكلية؛ فإن الحزب السياسي يعتمد غالبا على هيكلٍ هرميّ وله سلطة تنظيمية، ويُراعى فيه التراتب الهيكلي، والتفويض في الحزب السياسي محدود إلا من خلال الأطر الحزبية، ويكون هذا التفويض للحزبي الملتزم وليس لصاحب الكفاءة.

أما التيار الشعبي فيعتمد على هيكل بسيط غير معقد، قائم في الأغلب على التوافق مع بعض الضوابط والسياسات لتنظيم الأمور، والتيار الشعبي فيه تفويض أكثر بكثير من الحزب، ويعتمد على العمل بروح الفريق وتجميع الكفاءات.

وفي حين يكون الانتماء للحزب؛ فإن التيار الشعبي لا ينتمي لحزب محدد ولا ينفذ أجندة أي من الأحزاب، ولا يخضع لقرارات أي منها، وغير مقيد بعقلية حزبية، بل هو منفتح على جميع الأطياف من جميع قطاعات الشعب المختلفة التي تتشارك معه في المطالب.

ومن الصعب احتواء التيارات الشعبية المستقلة من خلال الأحزاب التي قد تحاول ذلك، حيث سترفض الأغلبية في التيار الشعبي الاحتواء وتصر على رفضه. ومن المحتمل أن يتناقض الحزب مع التيار الشعبي إذا كانت مطالب التيار الشعبي تعارض فكر أو سياسة الحزب.

كما قد يقوم حزب ما بتشكيل منظمه جماهيرية تشابه التيار الشعبي في الظاهر، لكسب واستقطاب الناس الذين لا يريدون الانتماء الحزبي. ولكن هذه المنظمة الشعبية تبقى محكومة بتوجهات الحزب ولا تملك الاستقلالية، ويفرض الحزب عليها أجندته؛ وسرعان ما تكتشف الجماهير تبعية هذه المنظمة الشعبية للحزب بعد مدة وجيزة.

نظرا لقلة التكلفة السياسية للتيار الشعبي، ونظرا للتركيبة السياسية في العديد من الدول كالممالك والإمارات؛ فإنه من المتوقع أن يكون المستقبل لتبني مفهوم التيارات الشعبية في السنوات القادمة. كما سيجد العديد من الجماعات والأحزاب في فكرة التيار الشعبي مخرجا لها من مأزقها الفكري

والتيار الشعبي ليس معزولا في حركته عن المكونات السياسية؛ إذ يستطيع أن ينشئ علاقة تنسيق وتفاهم مع أي حزب يتقاطع معه في المصلحة المشتركة، ولكن دون الخضوع لبرنامجه بالتعاون والتنسيق. وعلى التيار الشعبي حينها أن يحافظ على هويته، فلا يبدو وكأنه تابع للحزب الذي تقاطعت مصلحته معه.

ولكي تنجح التيارات الشعبية في تحقيق رسالتها لا بد من الانتباه لمجموعة من عوامل النجاح؛ لعل من أهمها: نشر الرؤية والرسالة بين الجماهير لفهمها وإيجاد قاعدة واسعة واعية لمهمتها، وعدم التفرد باتخاذ القرارات بل العمل بروح الفريق.

والمطلوب هو توسيع المشاركة في حل المشاكل التي تواجه التيار الشعبي بشكل عام، مما يتطلب نشر مفهوم التشارك مع الآخرين، وعدم البدء من الصفر بل التعاون مع المؤسسات القائمة التي تتقاطع مع التيار في فكرته. ومن المتطلبات المهمة المرونة في التعامل دون التنازل عن المبادئ، والمقصود هنا المرونة الإدارية إضافة إلى المساواة والعدل بين الجميع.

ويجب على قيادة التيار الشعبي توضيح المخرجات والنتائج المطلوبة، والإنجازات المراد تحقيقها للجميع والمحاسبة على ذلك والتشجيع على الإنجاز، مع إعطاء الفروع والتنسيقيات الفرعية التابعة للتيار الشعبي صلاحيات ضمن مقاييس متفق عليها، لتشجيع الإنجاز وتوفير الدافع للعمل.

وهذ يقتضي منح التفويض لزيادة الكفاءة من حيث تقليل الجهد والوقت والكلفة، وزيادة الشعور بالولاء والانتماء إلى فكرة التيار الشعبي. ونظرا إلى أن التيار الشعبي يتعامل مع مختلف التركيبات الاجتماعية والديمغرافية، فلا بد هنا من التوازن بين نظام الرعاية والوجاهة والامتيازات ونظام الجدارة والكفاءة والعطاء.

ونظرا لقلة التكلفة السياسية للتيار الشعبي، ونظرا للتركيبة السياسية في العديد من الدول كالممالك والإمارات؛ فإنه من المتوقع أن يكون المستقبل لتبني مفهوم التيارات الشعبية في السنوات القادمة. كما سيجد العديد من الجماعات والأحزاب في فكرة التيار الشعبي مخرجا لها من مأزقها الفكري، خصوصا عندما تكتشف أنها كانت في جوهرها تيارا شعبيا وتتبنى في واقعها وسائل التيارات الشعبية، وهي تظن أنها حزب سياسي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.