عصر جديد من عدم اليقين النووي

BERLIN, GERMANY - NOVEMBER 18: An activist with a mask of U.S. President Donald Trump marches with a model of a nuclear rocket during a demonstration against nuclear weapons on November 18, 2017 in Berlin, Germany. About 700 demonstrators protested against the current escalation of threat of nuclear attack between the United States of America and North Korea. The event was organized by peace advocacy organizations including the International Campaign to Abolish Nuclear Weapons (ICAN), which won the Nobel Prize for Peace this year. (Photo by Adam Berry/Getty Images)

بانسحابها من الاتفاق النووي مع إيران (المعروف رسميا باسم "خطة العمل الشاملة المشتركة")؛ أظهرت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب مرة أخرى أنها عاقدة العزم على تدمير الكيانات والاتفاقات العالمية الرئيسية. وسيمثل هذا القرار ضربة قوية لاتفاق 2015، مما يعرض العالَم بأسره للخطر.

أُبرِم هذا الاتفاق -الذي جاء نتيجة لسنوات من المفاوضات الصعبة- بموافقة سبع دول في الاتحاد الأوروبي، وأقره بالإجماع مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. إلا أن ترامب قرر -من جانب واحد- فرض "أعلى مستوى من العقوبات الاقتصادية" على إيران، وعلى "أي دولة تساعد إيران في سعيها إلى الحصول على الأسلحة النووية".

والآن؛ أصبحت الشركات والبنوك -من الدول التي أوفت بالتزاماتها بموجب هذا الاتفاق النووي- عُرضة لقدر كبير من المعاناة، نتيجة لعلاقات العمل المشروعة مع إيران. وبعبارة أخرى؛ قررت الدولة التي نقضت وعودها معاقبة أولئك الذين أوفوا بعهودهم.

جاء انسحاب ترامب من الاتفاق النووي في لحظة بالغة الحساسية للعلاقات الدولية؛ فمن ناحية، يظل الانتشار النووي على رأس الأجندة في شبه الجزيرة الكورية. ورغم اتخاذ خطوات إيجابية في الآونة الأخيرة؛ فإن إدارة ترامب قد تهدر هذه الفرصة، بسبب نهجها السياسي غير المتماسك

حتى الآن؛ لا يزال إنقاذ الاتفاق في حكم الممكن؛ فقد أكدت كل الأطراف الأخرى في الاتفاق مجددا التزاماتها بموجبه، ولكن يتعين على الاتحاد الأوروبي خاصة أن يتقدم ويتحمل المسؤولية عن ضمان بقاء الاتفاق.

ورغم أن العلاقات عبر الأطلسي تمثل أولوية عالية؛ فإنه لا يقل عنها أهمية الدفاع عن التعددية وكل معالمها ضد الهجمات المتهورة وغير المبررة. ويصدق هذا -بشكل خاص- عندما لا يكون الهدف من هذه الهجمات وضع "أميركا أولاً" بل وضع ترامب أولاً.

جاء انسحاب ترامب من الاتفاق النووي في لحظة بالغة الحساسية للعلاقات الدولية؛ فمن ناحية، يظل الانتشار النووي على رأس الأجندة في شبه الجزيرة الكورية. ورغم اتخاذ خطوات إيجابية في الآونة الأخيرة؛ فإن إدارة ترامب قد تهدر هذه الفرصة، بسبب نهجها السياسي غير المتماسك.

مؤخرا؛ التقى رئيس كوريا الجنوبية مون جي إن زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون، لمناقشة اتفاق سلام رسمي لإنهاء الحرب الكورية. وكان اجتماع القائدين بمثابة مقدمة لقمة أخرى غير عادية بين كيم وترامب، من المقرر أن تعقد في 12 يونيو/حزيران القادم.

يعكس أول اجتماع على الإطلاق بين زعيم كوري شمالي ورئيس أميركي لا يزال في منصبه تقدما كبير تحقق في غضون بضعة أشهر. ولا ينبغي لنا أن ننسى أن عام 2018 بدأ بتبادل التهديدات للمرة الألف بين كيم وترامب، وكان ترامب مبالغا إلى حد التباهي بحجم "زره النووي".

ولكن منذ ذلك الحين؛ اعتمدت الولايات المتحدة على الدبلوماسية بدلا من الغطرسة الفارغة في التعامل مع التهديد النووي الكوري الشمالي، وهو النهج الذي عمل على تمكين التقدم في الآونة الأخيرة.

ورغم هذا، وبينما كان وزير الخارجية الأميركية المعين حديثا مايك بومبيو يستعد لزيارة كوريا الشمالية لمقابلة كيم للمرة الثانية؛ عاد ترامب إلى أسلوبه العدائي في التعامل مع إيران.

كان من المتوقع دوما أن يتسم التفاوض مع كيم بصعوبة شديدة، خاصة أن كوريا الشمالية -خلافا لإيران- تمتلك فعلا أسلحة نووية. ومع تقويض مصداقية الدبلوماسية الأميركية بسبب انتهاك ترامب للاتفاق النووي مع إيران، فستكون هذه المهمة أشد صعوبة.

يميل ترامب إلى التعبير عن نفسه من منظور المصالح الوطنية، والسيادة، والقدرات العسكرية، والتفوق الاقتصادي. ومع ذلك؛ فإن هوسه بإيران لا علاقة له بالسياسة الواقعية، بل يتماشى مع رفضه المنهجي لكل السياسات المرتبطة بسلفه الرئيس باراك أوباما.

وفضلا عن ذلك؛ كان المقصود من الانسحاب من الاتفاق هو إرضاء حليفي ترامب المفضلين في الشرق الأوسط: السعودية وإسرائيل، وهما أول دولتين قام بزيارتهما بعد توليه منصبه.

وفي الواقع؛ عندما قام ولي عهد السعودية محمد بن سلمان بزيارة البيت الأبيض في مارس/آذار؛ سرعان ما تملص ترامب من المسألة الشائكة المتعلقة بالحرب التي تقودها السعودية في اليمن، عبر شجب الدعم الإيراني للمتمردين الحوثيين.

أصبح المتشددون في إسرائيل أكثر جرأة، كما يتضح من المحاولة الشاذة من قِبَل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للتشكيك في الاتفاق النووي والانتقاص من قدرها. ويصدق الأمر نفسه على إيران؛ حيث يصب انسحاب ترامب من الاتفاق بشكل مباشر في مصلحة المتشددين

وبدلا من اتخاذ المبادرة الدبلوماسية لإنهاء القتال وإعادة الاستقرار إلى اليمن؛ استمرت إدارة ترامب في إذكاء نيران حرب الوكالة السعودية/الإيرانية التي تتسبب في إحداث قدر هائل من المعاناة وتعكر صفو المنطقة.

وعلى نحو مماثل؛ كان إعلان ترامب -في ديسمبر/كانون الأول- نقل السفارة الأميركية في إسرائيل من تل أبيب إلى القدس سبباً في توليد قدر عظيم من عدم الارتياح في العالَم الإسلامي، وإن كانت احتجاجات إيران أكثر عدوانية من الاحتجاجات في السعودية.

ولن يُفضي افتتاح السفارة في الذكرى السنوية السبعين لإعلان استقلال إسرائيل -على وجه التحديد- إلا إلى احتدام الجدال. ففي اليوم التالي، يحيي الفلسطينيون ذكرى النكبة التي تتزامن مع التشريد الجماعي للسكان الفلسطينيين، والذي نتج عن قيام دولة إسرائيل.

من المؤكد أن تحالف الولايات المتحدة مع السعودية وإسرائيل ليس جديدا؛ لكن ترامب تخلى عن النهج الأكثر اعتدالا الذي تبنته الإدارة السابقة، وهو يجازف بالتالي بفتح أبواب الجحيم في الشرق الأوسط.

والآن أصبح المتشددون في البلدين أكثر جرأة، كما يتضح من المحاولة الشاذة من قِبَل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للتشكيك في الاتفاق النووي والانتقاص من قدرها. ويصدق الأمر نفسه على إيران؛ حيث يصب انسحاب ترامب من الاتفاق بشكل مباشر في مصلحة المتشددين.

ولا تبشر الأحوال الراهنة بالخير فيما يتصل بسوريا؛ حيث تمس الأحداث الجارية هناك كل القوى في المنطقة. وقد حدثت اشتباكات بين القوات الإسرائيلية والإيرانية فعلا في جنوب سوريا، والآن تهدد حكومة نتنياهو باتخاذ المزيد من التدابير، في الاستجابة لتقارير عن احتمال قيام روسيا بتزويد الرئيس السوري بشار الأسد بصواريخ مضادة للطائرات من طراز س-300.

من المؤكد أن إبطال ترامب للاتفاق النووي سيغذي دوامة من المواجهات في الشرق الأوسط، في حين يعمل على تعقيد الأمور على شبه الجزيرة الكورية.

وعلى نطاق أوسع؛ ربما يخلف قرار ترامب عواقب جسيمة على الجهود العالمية لمنع انتشار الأسلحة النووية، والتي ربما تتراجع وتنتكس الآن. وستكون المخاطر في الأسابيع والأشهر المقبلة جسيمة إلى حد غير مسبوق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.