أولويات في طريق العودة إلى سوريا

حافلات تدخل مدينة حرستا في الغوطة لنقل المهجرين

سياسات بلا ثوابت
سباق الهيمنة
استطلاعات رأي 

حول المطلوب في سوريا يكثر الكلام عن المساءلة وتندر الأفعال، وتزداد أدوات القتل وفنونه بقدر ما تزداد الخطوط الحمر، فالتهديد قد يلهم الإبداع مما يجعل للقتل متعة كالقفز فوق الحواجز أو السير فوق الحبال، وهي محفوفة بالتشويق والمكافأة والسقوط الآمن.

لكن من مفارقات القدر في المعاناة السورية أن يأمن القاتل من العقاب فتبلغ جرائمه حداً تضيع معه أولوية الحساب، وهو تماماً ما تجسد جواباً على سؤالٍ طرحتْه -في لوزان مطلعَ أبريل/نيسان الماضي- رئيسةُ "الآلية الدولة المستقلة للتحقيق في سوريا" (IIIM) كاترين مارشي-أويل؛ متوجهةً بالسؤال للعاملين في التوثيق الحقوقي من السوريين: أيّ الجرائم لها الأولوية القصوى في المساءلة؟   

سياسات بلا ثوابت
أما في بروكسل فقد جرى -نهايةَ الشهر ذاته- الحديثُ عن إعادة إعمار سوريا. وفي سوريا تجري الأحداث نحو إعادة تقسيم وترسيم مساحات النفوذ بالبارود والنار، مخلفةً المزيد من الضحايا والنازحين والدمار. وللمتابع أن يسأل: ماذا يحاول المانحون أن يقولوا من بروكسل؟

السوريون لن يعودوا إلى سوريا على جناح سياسات إعادة الإعمار ما دامت لا تضع اعتباراً للضحايا إلا بوصفهم لاجئين غير مرحَّب بهم. ومع الإصرار على الفصل بين مقتضيات العدالة ومتغيرات المرحلة؛ يغلب على المانحين سلوك المقاولين بدلاً من سلوك دول ذات رؤية.

السوريون لن يعودوا إلى سوريا على جناح سياسات إعادة الإعمار ما دامت لا تضع اعتباراً للضحايا إلا بوصفهم لاجئين غير مرحَّب بهم. ومع الإصرار على الفصل بين مقتضيات العدالة ومتغيرات المرحلة؛ يغلب على المانحين سلوك المقاولين بدلاً من سلوك دول ذات رؤية

ومع انهيار الاتفاق النووي الإيراني بخروج الولايات المتحدة الأميركية منه؛ تنتهي مرحلة وتبدأ أخرى أكثر زئبقية وأقل ثوابت، يشمل التهديدُ فيها كل التوافقات الدولية السابقة، بدءاً من حدود مناطق النفوذ المتداخلة وتوازنات الحرب الباردة، وصولاً إلى أمن الكيان الإسرائيلي.

هذا فضلاً عن انفراط عقد جماعات ودولٍ وتحالفات وقيام أخرى، وولادة معادلة إقليمية جديدة لن يكون الرهان على تشكيل ملامحها سهلاً، وهو ما يضع المانحين في ورطة وترقب بانتظار ما ستنتهي إليه مرحلة صعبة ستفرض نفسها على الجميع، مسعرين للحرب كانوا أم مطفئين.

"عندما تنتهي الحرب وفي حال استمرار نظام الأسد (بشار الأسد) في السلطة؛ هل ستختار العودة إلى سوريا أم البقاء كلاجئ هنا؟". نتيجة استطلاع رأي الجالية السورية في ألمانيا أجابت على هذا السؤال مؤكدة أن 91% من السوريين سيفضلون عدم العودة، ولكلٍ أسبابه في رفضها.

وجميعهم (بواقع 98% من الرافضين للعودة) يشتركون في وجود مخاوف أمنية، متوقعين ممارسات انتقامية من سلطة دمشق القائمة، والتي أتقنت -حتى الآن- الهروبَ من السقوط والإفلاتَ من العقاب.

بالنسبة للجالس خلف مكتبه في وزارة الداخلية الألمانية مثلاً؛ ستكون هذه النتيجة صادمة، حيث كان الاعتقاد بأن دحر "داعش" (تنظيم الدولة الإسلامية) يمثل جزءاً معتبراً من الحل، بالنسبة لمشكلة الهجرة من سورية على أقل تقدير، ما لم نشأ الحديث عن مسرح الصراع الدولي.

الخطأ هنا كان في جعل هزيمة تنظيم الدولة هدفاً إستراتيجياً لا تكتيكاً طارئاً، بينما جعل آخرون من هزيمته وسيلة تفتح الخيار أمام عودته كل حين، بما يفسر غض الطرف عن جيوب له في حوض اليرموك وجنوب دمشق والقلمون.. وهنا وهناك.

وعلى الهامش نقول: الإرهاب الحقيقي الذي يهدد المجتمع السوري والعالم برمته هو إرهاب الدول لا إرهاب الجماعات، وفي الحالتين ليس هناك أفضل من الإرهاب -بتعريفه المائع- مدخلاً لصناعة الهيمنة وحشد الجماهير.

سباق الهيمنة
في الصراع السوري لطالما اقتصر الدور الأوروبي على المساعدات الإنسانية والجهود الدبلوماسية، في وقت اتسعت فيه الخريطة السورية لوجود عسكري متنامٍ من أطراف شتى، جمع بينها سابقا عدو مشترك تمثل في "داعش".

فقد منحها فرصة المواجهة عن بعد بحرب الوكالة، وساهم في ضبط إيقاع المواجهة بين معسكرين تقليديين شرقي وغربي، وسمح -إلى جانب النظام السوري- بتنامي عدد القواعد العسكرية فوق الأرض السورية، دون أن توصف بالاحتلال.

في مرحلة ما بعد "داعش"؛ يبدو المشهد في سوريا أكثر سخونة وتعقيداً على كل الصعد، فالفراغ الذي تركه غياب "داعش" عن مسرح الإحداث أعاد إلى المشهد المحلي صورة المواجهة القديمة الجديدة بين نظام ومعارضة مسلحة، تستند إلى ثورة شعبية تشاركها المصير في الحِل وفي التهجير.

فهو في المشهد الأوسع يحبس الأنفاس أمام حرب إقليمية وانقسام دولي مطرد، ويفتح الآفاق نحو فصلٍ جديد من الفوضى أبطاله من غير الناطقين بالسورية، ولا يدّعون تمثيل السوريين شعباً ولا نظاماً.

مؤشرات الثقة داخل المكون السوري بلغت حداً قياسياً من التردي، بحسب ما تؤكده الدراسات الميدانية للمركز السوري للإحصاء والبحوث، بحيث يغدو الدمار الحاصل في البنيان أهون الخسائر وفي آخر الاهتمامات على قائمة المشاكل

الجديد في وتيرة الأحداث المتسارعة منذ مطلع 2018 ليس نوع السلاح أو كميته، فهذا ليس طارئاً على المشهد رغم تحرك بوارج حربية للمرة الأولى بعتاد متطور من هذا الحجم، وإنما الجديد هو تحول المراقب الإسرائيلي إلى فاعل شرس، أعاد تدوير عجلة الصراع محاولاً تغيير التحالفات والاصطفافات، وفق أهداف جديدة عنوانها المعلن النووي الإيراني.

وأما الثابت -حتى الآن- فهو سعي الدبلوماسية الأوروبية لاحتواء موقف لا يزداد مع الوقت إلا استعاراً وانفجاراً، وقد يبدو لقاء بروكسل خطوة في ذات الاتجاه، ومن المتوقع أن تعود بذات النتائج المتمثلة في مفاقمة ملف المهاجرين السوريين، وهو أحد أهم محاور الاهتمام الأوروبي فيما يتعلق بالحرب الدائرة في سورية.

ذلك أن مؤشرات الثقة داخل المكون السوري بلغت حداً قياسياً من التردي، بحسب ما تؤكده الدراسات الميدانية للمركز السوري للإحصاء والبحوث، بحيث يغدو الدمار الحاصل في البنيان أهون الخسائر وفي آخر الاهتمامات على قائمة المشاكل.

ويتجلى ذلك مثلا في ظاهرة الباصات الخضراء المراوحة يومياً بين الشمال والجنوب لتهجير أقوامٍ وتوطين آخرين، فهي من مظاهر الدمار المتجاوز للبنيان، وبحسب القانون الدولي الإنساني فإنها جريمة حرب مكتملة الأركان وترقى لمستوى جريمة ضد الإنسانية.

يقودنا ذلك مجدداً للسؤال عن جدوى سياسات إعادة الإعمار الآن، على نحو يتنكر لأبجديات صناعة السلام المستدام، بل ويكرس نتائج الحسم العسكري والتهجير القسري والتغيير الديموغرافي، ويتجاوز عن قتل مئات آلاف المدنيين تعذيباً في الأقبية وخنقاً في الملاجئ وعبثاً بالبراميل.

ويبارك كل ما راكمته دولة الحرب من كراهية داخل المجتمع وعنف وتشظٍّ، ويمنح الأنظمة المتوحشة في العالم جرعة معتبرة من التجرؤ على القانون الدولي وتهديد الأمن العالمي، وامتهان القتل والإرهاب سبيلاً للبقاء في السلطة؛ فهل حقاً ثمة مقابل يجيز غض الطرف عن هذا كله؟

حسناً؛ من المعلوم أنه لا توجد حلول كاملة سهلة كسهولة الكلام في التنظير، دعونا ننطلق من لغة المصالح لفهم سياسات الإعمار، منطق المانحين في بروكسل يحاول الاقتراب مما هو ممكن بقدر ما يبتعد عن المثالية.

وهو بذلك يطمع في جني ثمار سياسية من موقعه في بروكسل البعيد عن مركز الفعل في عجلة الصراع السوري، ممسكاً بالجزرة دون العصا، ومستنداً إلى تفوقه المالي، فيما يبدو أنه "شراء المكاسب" بدلاً من صناعتها، متفوقاً حتى على براعة سياسات التدخل الخليجية.

ولأن سياسات إعادة الإعمار تجري هندستها كمدخل لإعادة اللاجئين باعتبار ذلك مصلحة أوروبية؛ فإنه يجري تقديم هذه السياسات كعروض مقايضة، يتحول السوري فيها إلى سلعة، والعدالة إلى مسخ، إلا أن يصير الإنسان -قبل البنيان- محورَ تلك السياسات، وتكون المساءلة -قبل جبر الضرر- عنوانَها، ورد الاعتبار للضحايا -قبل إعادة اللاجئين- أداتَها، وهو ما لا قِبل لدبلوماسية ناعمة بإنجازه.

والحق أن المصلحة البرغماتية المحضة تقتضي استنقاذ ما يمكن إنقاذه من حقوق الإنسان في سوريا، وهو ما قد يكون الأمل الوحيد لصناعة سلامٍ مستدام يأذن بعودة اللاجئين بملء اختيارهم، دون تحوّلهم إلى مصدر شغب وعنف غير قابل للتكهن.

استطلاعات رأي
وهنا نشير إلى ثلاثة استطلاعات رأي جرت داخل وخارج سوريا في شهر مارس/آذار من كل عام (بدءا من 2016 وانتهاءً بمارس/آذار الماضي)، وقدمت قراءة لتطور المرحلة من حيث مؤشرات الثقة والرضا والواقعية السياسية والمشاركة، فتباينت نتائجها في مسائل واتفقت في الجوهر: العدالة أولاً.

تشير نتائج الاستطلاع إلى انعدام مستويات الثقة نحو الجهات الفاعلة في الساحة، 88% من المصوتين لا يثقون في النظام على الإطلاق، وأكثر منهم بقليل لا يثقون في الدعوة للعودة إلى الوطن التي أطلقها الأسد نهاية 2015، وكذلك هو حظ قوات سوريا الديمقراطية (قسد) المدعومة أميركياً، وقريب من ذلك حظ قوات "درع الفرات" المدعومة تركياً.

ومن المفارقات أن الأوفر حظاً من كل أولئك هي قوات المعارضة (الجيش الحر) العاجزة عن تمثيل السوريين سياسياً، وتم التوافق بشكل عملي على إخراجها من المعادلة نهائياً، بخروجها من غوطة دمشق ومحيطها كسيرة الطرف مهيضة الجناح منزوعة السلاح.

ثمة مقاربة وحيدة تمتلك رصيداً من الثقة (بواقع تأييد 72%) بيد أنه لم يتم طرحها إلى الآن، تقوم على أساس "محاسبة المجرمين ثم تعويض المتضررين"، أي أن المساءلة -فيما لو تم تفعيلها- يمكن أن تكون نقطة ارتكاز صلبة لعودة الهدوء والاستقرار

أما على صعيد المبادرات المطروحة للحل؛ فإن الثقة معدومة في كل ما يجري استهلاكه في المسار التفاوضي السوري، بدءاً من المصالحات الوطنية المقدمة على طبق من الحصار، ومروراً بالهُدَن المصمَّمة في متاهات أستانا وسوتشي، وحتى مسار جنيف وجهود المبعوث الدولي ستيفان دي دي ميستورا.

ثمة مقاربة وحيدة تمتلك رصيداً من الثقة (بواقع تأييد 72%) بيد أنه لم يتم طرحها إلى الآن، تقوم على أساس "محاسبة المجرمين ثم تعويض المتضررين"، أي أن المساءلة -فيما لو تم تفعيلها- يمكن أن تكون نقطة ارتكاز صلبة لعودة الهدوء والاستقرار.

تضيق سطور هذا المقال عن الوقوف بالتفصيل مع نتائج الاستطلاعات الثلاثة المشار إليها آنفاً، لكن قراءة سريعة تكشف ملامح المجتمع السوري اليوم في الوطن وفي الشتات؛ خلاصتها:

1- فقدان الثقة: ويتجلى -بأكثر صوره بؤساً- في اختيار لظى الهجير والنزوح رغم الوعود بالأمان.

2- انقسام مجتمعي: وهذه ناتجة من سابقتها، وتتمثل في انعدام القدرة على التعايش، واتساع الشرخ الطائفي، مع استمرار سقف المطالب مرتفعاً من كل الأطراف.

3- فشل العملية السياسية: وهو ترجمة مباشرة لاستمرار القتل، ضمن قواعد اشتباك وتفاوض جرى تصميمها في مجلس الأمن لتعزيز الهيمنة.

4- خواء شعارات المصالحة: مع سيطرة المقاربات العسكرية، وانعدام الاستعداد لتقديم تنازلات، وغياب أي صيغة تفاهمية جادة.

5- وأخيراً، فعالية التدخل الروسي في الحسم العسكري وفي تكريس كل ما سبق. وبه تصبح العودة مستحيلة، وملف النازحين والمهجرين حقل ألغام، وأما إعادة الإعمار فإنه مكافأة للمنتصر.

إذن، لم يعد من الواقعي اليوم الحديث عن مجتمع سوري، بل الأكثر موضوعية هو الحديث عن مجتمعات محلية عدة لا يربطها عقد اجتماعي، وأفراد فقدوا ارتباطهم بالجغرافيا السورية إلى حد بعيد، وهم في طريقهم لفقدان شعور الانتماء إلى الوطن، تجمعهم آلام اللحظة وذكريات الخوف أكثر مما يجمعهم علَم الدولة وحلم العودة.

ومن هنا تتحدد أولوية الملفات الحقوقية التي لا يزال السؤال عنها من طرف كاترين مطروحاً: فرد الاعتبار للسواد الأعظم من الضحايا: أولوية. والكشف عن مصير مئات الآلاف من المعتقلين والمغيبين قسرياً: أولوية.

وتعطيل الإفلات من العقاب وتفعيل المساءلة لأركان وأعيان المؤسسة الأمنية في دمشق، والأخذ بعين الاعتبار لمخاوف ملايين النازحين والمهجرين: أولوية.

والتعاطي الجاد مع مسألة استثنائية بالمطلق في التاريخ الإنساني الحديث، وهي وجود -على الأقل- مليون ونصف مطلوب للمخابرات السورية، وحقهم أن يكرموا لو أنصفتهم الأيام: أولوية.

إن رد الاعتبار للضحايا هو الأولوية والبوصلة والمنطلق الثابت لكل تدخل يراد منه تمهيد طريق العودة إلى سوريا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.