بريكست وأمن بريطانيا.. قضية سكريبال نموذجاً

Pro-EU demonstrators activists hand out EU flags to concert goers outside the Royal Albert Hall in London on September 9, 2017 ahead of the Last Night of the Proms concert.Activists distributed EU flags in an anti-Brexit demonstration to concert goers outside the venue of the annual Last Night of the Proms for the traditional flag flying inside in the Royal Albert Hall. / AFP PHOTO / NIKLAS HALLE'N (Photo credit should read NIKLAS HALLE'N/AFP/Getty Images)

تعجّ لحظات من التاريخ بعجيب المفارقات؛ وإذا أردنا أنا نلقي نظرة سريعة على مثال معاصر، فما علينا إلا أن ننظر إلى المملكة المتحدة. فمع وصول مفاوضات الخروج البريطاني مع الاتحاد الأوروبي إلى نقطة تحول؛ تطلب الحكومة البريطانية المساعدة من شركائها الأوروبيين -الذين تزدريهم- في نزاعها مع روسيا بشأن محاولة اغتيال العميل المزدوج الروسي السابق سيرغي سكريبال وابنته في ساليزبيري بإنجلترا.

ولكن حتى قبل الهجوم الصفيق على سكريبال، الذي استُهدِف بغاز الأعصاب "نوفيتشوك" الذي صممه الروس أيام الاتحاد السوفياتي؛ أصبحت رئيسة الوزراء تيريزا ماي أكثر صراحة ومباشرة في تسليط الضوء على القيم والمصالح المشتركة بين بلادها والاتحاد الأوروبي، بما في ذلك القيم المتعلقة بالأمن والدفاع.

بل إنها اقترحت -في مؤتمر ميونيخ الأمني الذي انعقد فبراير/شباط الماضي- إقامةَ "شراكة عميقة وخاصة" حول مثل هذه الأمور. في السيناريو الذي تفضله تيريزا ماي؛ ستواصل بريطانيا المشاركة الكاملة في هيئات الاتحاد الأوروبي -مثل يوروبول (منظمة الشرطة للاتحاد الأوروبي)- مع دعم أوامر الاعتقال الأوروبية.

من المؤكد أن الهجوم على آل سكريبال عزز اهتمام تيريزا ماي بضمان التعاون الأمني القوي بعد الخروج البريطاني. إذ إن أفضل طريقة للتعامل مع هذا النوع من التهديد الخارجي -المتمثل في ذلك الهجوم- هي التعاون مع الحلفاء؛ ولكن هل يأخذ حلفاء بريطانيا تيريزا ماي على محمل الجد؟

وعلاوة على ذلك؛ ستحافظ على مشاركتها في مهام السياسة الأمنية والدفاعية المشتركة الحالية والمستقبلية للاتحاد الأوروبي، وستواصل التنسيق مع الاتحاد الأوروبي بشأن أنظمة العقوبات بموجب السياسة الخارجية والأمنية المشتركة.

من المؤكد أن الهجوم على آل سكريبال عزز اهتمام تيريزا ماي بضمان التعاون الأمني القوي بعد خروج بريطانيا. إذ إن أفضل طريقة للتعامل مع هذا النوع من التهديد الخارجي -المتمثل في ذلك الهجوم- هي التعاون مع الحلفاء؛ ولكن هل يأخذ حلفاء بريطانيا تيريزا ماي على محمل الجد؟

في ميونيخ؛ قالت تيريزا ماي: "إن أولئك الذين يهددون أمننا لا يريدون شيئا أكثر من رؤيتنا ممزَّقين… ورؤيتنا ونحن ندير المناقشات حول الآليات والوسائل، قبل أن نفعل الشيء الأكثر عملية وفعالية في الحفاظ على سلامة شعبنا".

ثم بعد تأكيدها أن بلادها اتخذت قرارا مشروعا وديمقراطياً بترك الاتحاد الأوروبي؛ خلصت إلى أن الكرة الآن باتت في ملعب الاتحاد الأوروبي. وعلى حد تعبيرها؛ فإن عدم قبول عرضها السخي المتعلق بالتعاون الأمني الوثيق يرقى إلى "إعطاء الأولوية للعقيدة السياسية والأيديولوجية".

لم تفت هذه المفارقة -التي انطوى عليها موقف تيريزا ماي- على الدول الأعضاء السبع والعشرين في الاتحاد الأوروبي، والتي قررت بريطانيا أن تتركهم خلفها. فعبر إثارة الشكوك في وحدة أوروبا -بل والغرب بأسره في واقع الأمر- يُلحق الخروج البريطاني ذاته ضررا جسيما بالأمن الأوروبي، وكل هذا في سبيل العقيدة السياسية والأيديولوجية.

لا شك أن المتشددين من أنصار الخروج البريطاني -مثل وزير الدولة لشؤون التجارة ليام فوكس- يزعمون أن العلاقة الخارجية الوحيدة التي تحتاج إليها بريطانيا لدعم أمنها هي مع منظمة حلف شمال الأطلسي (حلف الناتو)، بقيادة الولايات المتحدة.

ومع ذلك، وفي حين يظل حلف شمال الأطلسي بوضوح المصدر الأساسي للأمن الأوروبي؛ فلا ينبغي لأحد أن يكون على استعداد لإسناد أمنه إلى الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الذي يبدو أنه يُكنّ قدرا من الاحتقار للحلفاء أكبر من ذلك الذي يكنّه لخصوم مثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

وكما حذر رؤساء الاستخبارات في بريطانيا وفرنسا وألمانيا، في بيان مشترك لم يلفت الانتباه كثيرا في إطار مؤتمر ميونيخ؛ فإن أي انهيار في التعاون الأمني بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي سيخلف عواقب وخيمة.

ولكن لا يجوز لتيريزا ماي أن تتوقع الحفاظ على مستوى التعاون الأمني الحالي بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، وخاصة في سياق الخروج البريطاني "الصعب" الذي تسعى إليه. فعندما تغادر المملكة المتحدة الاتحاد الأوروبي؛ فإنها بذلك تخسر حق صياغة الأطر المؤسسية التي طالما دعمت أمنها.

وهذا يترك تيريزا ماي أمام خيارين: فإما أن تترك هذه الأطر من خلفها -وهي خطوة بالغة الخطورة- أو تقبل شروط الاتحاد الأوروبي، أو أغلبها على الأقل.

ليس من المؤكد ما إن كانت بريطانيا تدرك أهمية أنماط التعاون التي تشكل ضرورة أساسية لضمان الأمن في كل من بريطانيا والاتحاد الأوربي. ورغم أن تيريزا ماي تبدو الآن وكأنها تحمل رؤية أكثر واقعية للمخاطر الأمنية التي يفرضها خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي؛ فلا يزال آخرون في حزبها مصرّين على تعنتهم

فمثلا؛ لا بد من أن يغطي الإطار القانوني للبيانات المرتبطة بالأمن البياناتِ التجارية أيضا. فإذا كان بوسع بريطانيا أن تتسامح مع منح الاختصاص في هذا المجال لمحكمة أوروبية عليا، كما أوحى خطاب تيريزا ماي في ميونيخ؛ فما الذي يمنعها من التسامح في مجالات أخرى؟

الواقع أن محكمة العدل الأوروبية تتمتع بسمعة لا تشوبها شائبة كهيئة قضائية مستقلة، وقد دافعت بشكل عادل عن مصالح بريطانيا عِدة مرات. وإن مثل هذا النهج من شأنه أن يولد قدرا كبيرا من حسن النوايا في المفاوضات.

وهذا من شأنه -إلى جانب الأصول والخبرات الأمنية التي تتمتع بها بريطانيا- أن يخلق الحيز اللازم لها للحصول على تنازلات فريدة من جانب الاتحاد الأوروبي، مثل وضع المراقب الدائم في لجنة الاتحاد الأوروبي السياسية والأمنية المؤثرة.

ولكن ليس من المؤكد ما إن كانت بريطانيا تدرك أهمية مثل هذه الأشكال من التعاون، التي تشكل ضرورة أساسية لضمان الأمن في كل من بريطانيا والاتحاد الأوربي. ورغم أن تيريزا ماي تبدو الآن وكأنها تحمل رؤية أكثر واقعية للمخاطر الأمنية التي يفرضها خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي؛ فلا يزال آخرون في حزبها مصرّين على تعنتهم.

فمثلا؛ اقترح مؤخرا أوين باترسون -وهو وزير سابق في حكومة المحافظين- إلغاء اتفاق الجمعة العظيمة، الذي حقق عقدين من السلام لإيرلندا الشمالية، وهو بيان شديد التهور نظرا للحساسيات السياسية التي أثارها في إيرلندا التصويت لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي.

كما أن آخرين من أنصار الخروج البريطاني -مثل وزير البيئة مايكل جوف- من المتشككين في اتفاق الجمعة العظيمة. ويشير هذا إلى أن الأمن -من منظور الأيديولوجيين المناصرين للخروج البريطاني- لا بد من أن يكون تاليا في الأهمية لأحلامهم القومية.

ربما يكون الهجوم الأخير على العميل الروسي السابق في بلدة إنجليزية هادئة كافيا لإزالة الغمامة الأيديولوجية عن أعين المزيد من أنصار الخروج البريطاني، فيظهر لهم أن "بريطانيا وحدها" تصبح "بريطانيا معرضة للمخاطر".

ولكن من المحتمل أيضا أن الأوان سيكون قد فات حين يتمكن مواطنو وقادة بريطانيا من رؤية الخروج البريطاني من منظور حلفائهم، أي بوصفه تصرفا أنانيا ومدمِّرا وينطوي على خيانة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.