رسائل إيطالية شائكة عبر صناديق الاقتراع

epa06579539 A Cloistered nun casts her ballot in the polling station in Potenza, Italy, 04 March 2018. General elections are held in Italy on 04 March 2018 with the country's economic situation and migrant influx in the past years believed to dominate the voters' decisions. The three main political contenders in Italy, the right-wing coalition, the ruling Democratic Party and the anti-establishment 5-Star-Movement have all predicted major results for themselves. The final results of the elections are expected to be announced on early 05 March. EPA-EFE/ANTONIO VECE

الوجوه الصاعدة
هل انتصرت الفاشية؟
مأزق اليسار 

رسم الناخبون الإيطاليون ملامح مرحلة سياسية جديدة في بلادهم لن تنهض معها حكومة قوية أو ائتلاف متماسك، وسيتعيّن التحلي بصبر مديد حتى تشكيل حكومة جديدة في بلد لا تشترط أنظمته مهلة محددة لذلك.

بدأ زمن الانتظار والمزايدات في إيطاليا، بعد أن أعادت انتخابات 4 مارس/آذار 2018 توزيع الحصص البرلمانية، بما لا يسمح لأي فريق بتشكيل الحكومة منفرداً. وتبدو الطريق إلى ائتلاف حاكم طويلة ووعرة، وقد لا تبلغ مقصدها أساسا إلا بتسوية سياسية توافقية تُفضي إلى حكومة متشرذمة، أو إلى انتخابات مبكرة قد تعود بنتائج شبيهة أو أكثر سوءاً.

ومع الاختراق الفائق الذي أحرزه التطرف اليميني والنزعة الشعبوية؛ فإنّ الخاسر الأول في هذه الانتخابات قد لا يكون فقط يسار الوسط وحده الذي يتجرع هزيمة مريرة، بل إيطاليا ذاتها أيضا التي دخلت مرحلة متأرجحة سياسيا، ومعها الاتحاد الأوروبي الذي سيواجه -في السنوات المقبلة- صداعا قادما من الجنوب.

الوجوه الصاعدة
حصل ائتلاف اليمين واليمين المتطرف على الحصة الأوفر بنحو 37% من الأصوات، دون أن يمنحه هذا الإنجاز أغلبية في البرلمان؛ وجاءت حركة "خمس نجوم" في المرتبة الثانية مباشرة بنسبة 33%.

ويحق لهذه الحالة الشعبوية غير الملونة سياسيا أن تعلن انتصارها بحصيلة قياسية صعدت بها إلى مرتبة الحزب الأول عملياً، وإن جاءت في الدرجة الثانية بعد تحالف اليمين واليمين المتطرف. أما يسار الوسط فيجرّ خسارته الجسيمة بعد سنوات حكمه، بحصوله على أقل من ربع الأصوات (22 %).

أعادت الجولة الانتخابية صورة إيطاليا المنقسمة معنويا على ذاتها بين شمال ذي حظوة وجنوب يستشعر الغبن. فبينما تحمل حركة "خمس نجوم" روح الجنوب الرافضة للمؤسسات؛ فإنّ الائتلاف اليميني المتصدر يستند إلى معاقله التقليدية بالشمال الإيطالي المحظي اقتصاديا، والذي واجه في السنوات الماضية هواجس أزمة اقتصادية تم احتواء نذرها

وسيكون على رئيس الوزراء السابق مارتيو رينتسي -وهو زعيم "الحزب الديمقراطي" الذي يتصدر يسار الوسط بنيله 18%- أن يعدّها هزيمة شخصية ثانية له؛ بعد هزيمته الأولى عندما رفض الإيطاليون إصلاحاته الدستورية المقترحة والتي تخلى بموجبه عن رئاسة الحكومة نهاية 2016.

وإن كان الوجهان الصاعدان في هذه الجولة -بلا منازع تقريبا- هما الشعبوي لويجي دي مايو زعيم "خمس نجوم"، وماتيو سالفيني زعيم "الرابطة" الذي حصل على قرابة 18%؛ فإنّ العجوز المتصابي سيلفيو برلسكوني يحق له الآن أن يبدو شيخ المعتدلين وسط الجوقة الفائزة، رغم تراجع أصوات حزبه.

لقد أظهر الناخبون الإيطاليون مجددا تسامحا عزّ نظيره في أوروبا مع سياسي مخضرم (برلسكوني)، تخللت قضايا فساده وفضائحه الأخلاقية مسيرته الطويلة، وصولاً إلى حرمانه بقرار قضائي من شغل منصب رئيس الوزراء في أي حكومة مقبلة، بعد إدانته بتقديم رشوة لعضو في مجلس الشيوخ.

أعادت الجولة الانتخابية صورة إيطاليا المنقسمة معنويا على ذاتها بين شمال ذي حظوة وجنوب يستشعر الغبن. فبينما تحمل حركة "خمس نجوم" روح الجنوب الرافضة للمؤسسات؛ فإنّ الائتلاف اليميني المتصدر يستند إلى معاقله التقليدية بالشمال الإيطالي المحظي اقتصاديا، والذي واجه في السنوات الماضية هواجس أزمة اقتصادية تم احتواء نذرها.

أما الائتلاف اليميني المتصدر فقد منح فرصة تأهيل لأقصى اليمين الذي جسدته تقليدياً "رابطة الشمال"، التي اشتهرت بدعوتها إلى انفصال المناطق الشمالية المسماة "بادانيا" عن إيطاليا. لكنّ الرابطة أعادت إنتاج هويتها لتبدو إيطالية أكثر موارية بذلك خطابها الانفصالي.

وقد كان نصيب "الرابطة" من الأصوات مذهلا بالنظر إلى تاريخها، فقد حصدت نحو 18% في حصيلة لم تحلم بها طوال تاريخها، وهو ما يجعلها رافعة الائتلاف اليميني؛ الذي يضم أيضا حزب برلسكوني "إيطاليا قُدُماً" الذي أحرز قرابة 14%، وحزب "أخوة إيطاليا" الفاشي الجديد، وحزب "نحن مع إيطاليا" الليبرالي المحافظ.

ومهما جاءت الأسماء والمسميات؛ فإنّ نتائج الاقتراع لا تمنح فرصة لتشكيلة حكومية منسجمة، وهو ما قد يطيل أمد الحكومة الحالية التي عليها تصريف الأعمال حتى إشعار آخر. وإن نهض ائتلاف حكومي جديد فسيبدو هشا بما يكفي لتصدّعه عند أول اختبار، وهذه خبرة إيطالية بامتياز لا تمنح الحكومات أمدا كافيا لالتقاط أنفاسها وتنفيذ خططها.

ويعني هذا أنّ السنوات المقبلة لن تشهد إصلاحات جادة على الأرجح، لكنّ ذلك لا يحول دون إظهار الممسكين بالزمام صرامةً لفظيةً تجاه الاتحاد الأوروبي، وتشددا عمليا في بعض السياسات والإجراءات المتعلقة بالهجرة والمسلمين، في رضوخ متوقع لإغراء المزايدات الشعبوية وحمّى التسخين.

ومن شأن حالة الانسداد هذه أن تنعكس على وجهة السياسة الخارجية الإيطالية التي يشوبها التأرجح عموماً، حسب ألوان الحكومات ومواقفها من اتجاهات السياسة الأوروبية والأميركية.

وإن جاءت نتائج الانتخابات الإيطالية مقلقة بحق لأوروبا، التي تستدعي الآن نقمة الفائزين بها على السياسات الأوروبية ودعوات بعضهم للانعتاق من الوحدة النقدية "اليورو"؛ فإنّ موسكو تبدو سعيدة بما تمخضت عنه صناديق الاقتراع من صعود أصدقائها والرافضين لفرض عقوبات عليها؛ كما عليه الحال في الكتلة اليمينية المتصدرة والحركة الشعبوية التالية لها.

هل انتصرت الفاشية؟
لم تكن الفاشية الجديدة لتحلم بنتائج أفضل مما تحقق لأقصى اليمين في هذه الانتخابات الإيطالية؛ فالائتلاف اليميني المتصدِّر خاض حملة انتخابية مارقة من القيم، وألهبت ظهور القادمين من وراء البحر، حتى إنّ حزب "أخوة إيطاليا" -الذي يعبِّر عن الفاشية الجديدة- نادى بتركهم يغرقون في مياه المتوسط دون إنقاذهم، بذريعة الحفاظ على هوية البلاد ومصالحها.

ولم يكن خطاب حزب "الرابطة" (شريكه في الائتلاف اليميني) أقل تشددا، بل جاء مفعماً بالعداء للمهاجرين ومناهضة المسلمين، كما دأب عليه طوال تاريخه السياسي المتشنج.

لكنّ الفاشية التقليدية توارت عن المشهد الإيطالي مُخْلِيَةً الساحةَ لنزعات يمينية متطرفة لتفعل فعلها، بالتلازم مع حالات شعبوية متأججة تجد فرصتها في إذكاء النقمة على المهاجرين وتصعيد خطاب الإسلاموفوبيا؛ علاوة على إعلان التذمّر من الاتحاد الأوروبي وسياساته.

لا ترغب النخبة السياسية الإيطالية بمصارحة مواطنيها بأنّ بلادهم ليست معزولة عن عالم حافل بالتناقضات، وأنّ موقع شبه الجزيرة يرشحها باستمرار لاستقبال تدفقات بشرية على هذا النحو. أما أي محاولة أكثر صرامة لتحصين إيطاليا من وصول البشر إلى شواطئها؛ فستكون بمثابة دعوة لإغراقهم في عرض المتوسط دون تأنيب ضمير

والخطاب اليميني المتطرف -كما يجسده حزبا "الرابطة" و"أخوة إيطاليا" العضوان في الائتلاف الذي تصدّر نتائج الانتخابات- يقوم في الأساس على مقاربات انتقائية واقتراحات سطحية.

فهو يرى في المهاجرين تهديدا ماحقا، ويتعامى عن نهوضهم الدؤوب بقطاعات إنتاجية حيوية في البلاد، ومنها العمل الشاق في حقول الجنوب الإيطالي بأجور شحيحة ضمن مواصفات تشغيل أشبه بالاستعباد، وهو ما يتيح للفلاحة الإيطالية فرصاً مشجعة للمنافسة في الأسواق الأوروبية.

لكنّ أقصى اليمين يستثمر بقوة في مسألة الهجرة التي تضغط على وعي الجمهور، وتصيبه بالذعر الذي عبّر عن ذاته في السلوك التصويتي، وهذا في إيطاليا تحديدا التي باتت المعْبر الأوسع لتدفقات بشرية من جنوب المتوسط صوب الشمال الأوروبي، بعد أن سدّت القارة الموحدة سبل تدفق اللاجئين والمهاجرين إليها عبر مسارب البلقان.

ولا ترغب النخبة السياسية الإيطالية بمصارحة مواطنيها بأنّ بلادهم ليست معزولة عن عالم حافل بالتناقضات، وأنّ موقع شبه الجزيرة يرشحها باستمرار لاستقبال تدفقات بشرية على هذا النحو. أما أي محاولة أكثر صرامة لتحصين إيطاليا من وصول البشر إلى شواطئها؛ فستكون بمثابة دعوة لإغراقهم في عرض المتوسط دون تأنيب ضمير.

ومن بواعث النقمة على الاتحاد الأوروبي أنّ اتفاقية دبلن تفرض على طالبي اللجوء تسجيل أنفسهم في أول دولة يدخلونها من أعضاء الاتحاد، وهو ما يقضي بإرجاعهم إليها إن عبروا منها إلى دولة أوروبية أخرى. وتطالب قوى اليمين بتغيير هذه الاشتراطات، وبوقف استقبال المهاجرين وإن شارفوا على الغرق، مع إعادة كل من يمكن إرجاعهم إلى حيث أتوا.

جانب آخر من المسكوت عنه في الطبقة السياسية؛ وهو أنّ إيطاليا ذاتها تبقى بحاجة ماسة إلى ردم الانكماش الديموغرافي المطرد الذي تشهده، فإن لم يقع إمدادها بملايين المهاجرين -خلال عقد من الزمان- فستأتي الفجوة السكانية بعواقب جسيمة على قطاعات إنتاجية، وستُلحق أضراراً متزايدة بدولة الرعاية الاجتماعية.

وحتى في جزيرة صقلية التي اشتهرت بأنها مجتمع الدفء الأسري والترحيب بالطفولة؛ فإنّ عدد الوفيات بات يفوق إجمالي المواليد الجدد، حتى اختفى المشهد التقليدي للأم الصقلية التي تمسك بثلاثة أطفال أو أربعة خلال تجوالها، لأنّ معدل الخصوبة لديها لا يتجاوز 1.3 طفل.

ويزيد ضغط المسألة السكانية أنّ مؤشرات هجرة الشباب الإيطالي إلى الخارج تسجِّل معدلات متزايدة بحثا عن فرص أوفر، لكنّ خطاب أقصى اليمين يملك إجابات سطحية لذلك كله: "إنهم المهاجرون الذين يزاحموننا ويدفعوننا بعيدا".

ومن المثير للتندر أن تصعد هذه المقولات الساذجة في بلد كان عبر القرون الأخيرة منبعاً نشطاً للمهاجرين إلى العالم الجديد وإلى الشمال الأوروبي أيضاً، حيث استقرّت جاليات إيطالية بحثاً عن الفرص.

مأزق اليسار
تلقى اليسار الإيطالي ضربة موجعة في هذه الجولة الانتخابية، ومعضلة يسار الوسط تحديداً (ممثلاً بـ"الحزب الديمقراطي") أنه حاول -تحت قيادة ماتيو رينتسي- التعبير عن مواءمات توفيقية مع الاتجاهات الليبرالية؛ على طريقة البريطاني طوني بلير والألماني غيرهارد شرودر، فخسر الحزب هويته المتوقعة منه دون أن ينجح في مقارعة المنحى الشعبوي وحمّى أقصى اليمين.

وقد أظهرت النتائج أنّ يسار الوسط لم يعد معبِّراً عن الطبقة الوسطى، ومن المرجح أيضاً أنه وحلفاءه الواقفين على يساره قد خسروا ولاء الطبقة العاملة التي تُمسك بخطامها الشعبويةُ والتطرفُ اليميني.

الرسالة الإيطالية الشائكة التي يتعيّن على الديمقراطيات الأوروبية أن تفحصها بعناية خاصة في زمن دونالد ترمب؛ تشير إلى تفاقم السيولة السياسية والعداء للمؤسسات والأنظمة، وتأجج روح المروق والتذمر؛ وهي روح قد تسحق الالتزامات القيمية وحقوق البشر الذين لا صوت لهم

أما حركة "خمس نجوم" -التي يرمز اسمها إلى أولويات خمس، هي: المياه العامة والنقل المستدام والتطوير والاتصالات وحماية البيئة؛ فهي حالة مرنة تحاكي واقع العالم الشبكي، وتعتد باستقلاليتها وترفض التصنيفات التقليدية بين اليسار واليمين، وإن كان بعض أطروحاتها يميني الطابع مع منحى اقتصادي ليبرالي.

وتتعارض بعض منطلقات حركة "خمس النجوم" مع الائتلاف اليميني المتصدر، خاصة مع إلحاحها على الطهورية السياسية ومناهضة الفساد؛ وهو ما لا يتماشى مع النهج الذي طبع مسيرة برلسكوني.

وهذه الحركة -التي ترفض وصف نفسها بأنها حزب- تعبِّر عن حالة سيولة سياسية تنبذ الأحزاب التقليدية وتتمرّد على الهياكل، بما يجعلها نسخة إيطاليا من قوى جديدة ناقدة ومناهضة للمؤسسات، على نحو ما شهدته دول أوروبية أخرى (ائتلاف "سيريزا" باليونان، و"ديموس" بإسبانيا، و"البديل لألمانيا").

وإذ تراهن هذه القوى الشعبوية واليمينية المتطرفة على حصد الأصوات في الجولات الانتخابية؛ فإنّ مأزقها قد يظهر جلياً إن دفعت بها الأصوات من مربع الأقوال إلى حلبة الأفعال، فعندها ستواجه مقولاتُها المختزلة اختبارَ التطبيق، في واقع معقد يتطلب حلولاً لمعضلات مفترضة أسرفت هذه القوى في الشكوى منها.

أما الرسالة الإيطالية الشائكة التي يتعيّن على الديمقراطيات الأوروبية أن تفحصها بعناية، خاصة في زمن دونالد ترمب؛ فتشير إلى تفاقم السيولة السياسية والعداء للمؤسسات والأنظمة، وصعود الشعارات الجوفاء على حساب البرامج الواقعية، ونشوء صدوع معنوية بين الأجيال والمناطق، وتأجج روح المروق والتذمر؛ وهي روح قد تسحق الالتزامات القيمية وحقوق البشر الذين لا صوت لهم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.