خلافة عباس.. الداخل في مواجهة الخارج

Palestinian President Mahmoud Abbas arrives to attend the meeting of the Palestinian Central Council in the West Bank city of Ramallah January 14, 2018. REUTERS/Mohamad Torokman

أسباب سياسية بامتياز
عوامل إقليمية ودولية
تقييم حظوظ المرشحين 

من دون شك أو مبالغة؛ فإن ملف خلافة الرئيس الفلسطيني محمود عباس يشكل قضية بالغة الأهمية وملحّة فلسطينيا وإقليميا ودوليا، في ظل المعادلة السياسية والميدانية المعقدة التي تلفّ الوضع الفلسطيني والمنطقة العربية حاليا.

أسباب سياسية بامتياز
لا يبدو أن الوضع الصحي المضطرب للرئيس عباس هو السبب الأهم وراء تصاعد وتيرة الأحاديث الدائرة بشأن خلافته في الرئاسات الثلاث لحركة فتح ومنظمة التحرير والسلطة الفلسطينية، إذ إن الأسباب الصحية جاءت تابعة ومكملة للأسباب السياسية، وعنصر تحفيز للجهود والمداولات السياسية التي تدور وراء الكواليس، في أروقة صنع القرار الإقليمي والدولي لترتيب فصول مشهد ما بعد عباس.

منذ عدة سنوات؛ فقد عباس ثقة بعض العواصم العربية وخصوصا دول ما يُعرف بالرباعية العربية (مصر والسعودية والإمارات والأردن)، ولم يعد حليفها الأصيل الذي تتقولب مواقفه وسياساته مع مواقفها وسياساتها، رغم الكثير من المشتركات السياسية التي يلتقون تحت ظلالها.

كان عباس على وعي تام بأن الرباعية العربية المدعومة إسرائيليا وأميركيا، تُحضّر لاستبداله وإزاحته عن سدة الحكم ومشهد صنع القرار، فاستمات في مقاومة كل الضغوط العربية التي رأى فيها هلاكه السياسي وضياع مستقبله ومستقبل عائلته الشخصي والاقتصادي

وقد شكلت قضية القيادي المفصول من "فتح" محمد دحلان نقطة الخلاف المتفجرة التي زجّت بعلاقة عباس وهذه الدول في دوائر التوتر، فقد تصدى عباس لقرار الرباعية العربية الذي حاول إعادة دحلان إلى المشهد السياسي الفلسطيني، عبر إبرام مصالحة شخصية وتنظيمية بينه وبين عباس، وأدخل علاقته مع هذه العواصم في نفق من الحذر والريبة والتشكك الدائم.

كان عباس على وعي تام بأن الرباعية العربية المدعومة إسرائيليا وأميركيا، تُحضّر لاستبداله وإزاحته عن سدة الحكم ومشهد صنع القرار، فاستمات في مقاومة كل الضغوط العربية التي رأى فيها هلاكه السياسي وضياع مستقبله ومستقبل عائلته الشخصي والاقتصادي.

ورغم موجات التوتر التي شوشت مجرى العلاقات بين عباس والرباعية العربية؛ فإن حدود التواصل السياسي بين عباس وهذه العواصم حافظت على استمراريتها وإنْ في إطارات محدودة، ولم تَعُدْ القهقرى بوضوح إلا بعد سلسلة الضغوط التي تولتها أساسا السعودية وبدرجة أقل مصر، لحمل عباس على قبول "صفقة القرن" والتساوق مع مقتضياتها فلسطينيا.

زاد رفضُ عباس لـ"صفقة القرن" الطينَ بلّة في إطار علاقته بمحور الاعتدال العربي المتساوق مع المخطط الأميركي لإعادة ترتيب المشهد الجيوسياسي بالمنطقة، وزاد مع ذلك إصرار هذا المحور على التسريع ببحث ملف خلافة عباس والترتيب لما بعده.

ويأتي إصراره ذا في ظل الغضب الأميركي المتصاعد على عباس جراء لغته المتحدية للإدارة الأميركية، وتشدده الظاهر في مواقفه السياسية التي خرج بعضها عن حد اللباقة والكياسة الدبلوماسية في مواجهة الأميركيين.

عوامل إقليمية ودولية
ثمة معادلة معقدة تحكم معايير وأسس اختيار من يخلف عباس؛ فاختيارات الخلافة لا تتأسس على رغبة فلسطينية محضة، بل تتداخل فيها ضغوط وعوامل إقليمية ودولية واسعة.

ولا يحتاج الأمر إلى كثير تبيان لتأكيد مدى خطورة ملف خلافة عباس ضمن الأجندة الإسرائيلية والأميركية والعربية والدولية، فهذا الملف بات يحتل أولوية بارزة هذه الأيام، لأن هؤلاء يدركون تماما أن "صفقة القرن" لن تمر إلا بعد رحيل عباس.

كما يدركون أن مستقبل التجاوب مع الطروحات الأميركية بشأن قضايا الصراعالفلسطيني/الإسرائيلي يرتبط بتنصيب رئيس جديد، يفتح باب الحوار والتفاوض مع الإسرائيليين والأميركيين بعيدا عن لغة الرفض والتحدي، ويملك القدرة على تهيئة المناخات الوطنية الفلسطينية لمناقشة المبادرات الأميركية وحشد التأييد لها.

بسبب حرص عباس و"فتح" على الاستئثار بقرار الخلافة الذي تتنازعه أصابع التدخلات الإسرائيلية والأميركية والعربية، التي تعمل بقوة على تهيئة الأجواء لشخصيات براغماتية أكثر انسجاما مع المصالح والسياسات الإسرائيلية والأميركية بشأن القضية الفلسطينية؛ فإن ملف خلافة عباس -وخصوصا في رئاسة السلطة- يبدو شائكا وبالغ التعقيد

من المؤكد أن "فتح" تحاول رسم مشهد خلافة عباس على مقاسها الخاص، وأن عباس يسعى جاهدا لترشيح وتنصيب خلفاء ينسجمون تماما مع رؤيته وتوجهه الحزبي والسياسي والوطني، ويأمن دوام ولائهم وبراءة ساحتهم من أي ملاحقة، أو حتى تشويش على ممتلكات الرئيس والمركز والبنيان الاقتصادي الرفيع الذي يحتله أبناؤه وعائلته مستقبلا.

وفي ظل حرص عباس و"فتح" على الاستئثار بقرار الخلافة الذي تتنازعه أصابع التدخلات الإسرائيلية والأميركية والعربية، التي تعمل بقوة على تهيئة الأجواء لشخصيات براغماتية أكثر انسجاما مع المصالح والسياسات الإسرائيلية والأميركية بشأن القضية الفلسطينية؛ فإن ملف خلافة عباس -وخصوصا في رئاسة السلطة- يبدو شائكا وبالغ التعقيد.

من السذاجة بمكان تصوّر إمكانية قدرة القرار الفلسطيني الذاتي على ترتيب وحسم مسألة خلافة عباس، فلا ينكر أحد أن اختيار عباس منذ البداية كان قرارا إقليميا ودوليا قبل أن يكون قرارا فلسطينيا داخليا، وأن إسرائيل والولايات المتحدة ودول الإقليم ليست مستعدة للتهاون في مسألة الخلافة، في ظل الأزمات التي تظلل واقع علاقة عباس بإسرائيل والإدارة الأميركية وبعض دول الإقليم.

واقع الحال أن الرهان الإقليمي والدولي على تساوق عباس مع المخرجات النهائية لتصفية القضية الفلسطينية أصيب بانتكاسة خلال الأسابيع الأخيرة، رغم انتماء عباس إلى المدرسة السياسية البراغماتية التي لا تؤمن إلا بطريق المفاوضات، وإصرار الرجل على عدم إزعاج وإغضاب إسرائيل بمواصلته التعاون الأمني وملاحقة المقاومين في الضفة.

لكنّ سلوك عباس غير المسبوق تجاه الإدارة الأميركية، واستعصاءه على الدوران في فلك إرادة الرباعية العربية؛ أضحى عبئا يثقل كاهل المخططات الإسرائيلية والأميركية المدعومة عربيا، والتي تستهدف تغيير وجه المنطقة وإنهاء الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي، مما نقل مسألة خلافة عباس -كحل لمشكلات المنطقة وفقا للرؤية الإسرائيلية والأميركية والعربية- من سياقات بحثها الطبيعية إلى صدارة الأولويات السياسية الملحّة إقليميا.

وهكذا، فإن الأسابيع والأشهر القادمة ستكون حبلى بالكثير من الجهود والتطورات الداخلية والخارجية، والتي تصب في مجرى تفعيل ملف خلافة عباس لدى كل الأطراف ذات الصلة والاهتمام، والبدء في اختيار المرشحين الأكثر مناسبة ومواءمة لأجنداتها وحساباتها السياسية والحزبية.

ومن هنا؛ فإن أرجح التوقعات تشي بصيف ساخن في إطار الصراع المتوقع على خلافة عباس، والذي يستمد سخونته من درجة السخونة المتصاعدة للأحداث والتطورات الميدانية والمواقف السياسية على الساحة الفلسطينية.

تقييم حظوظ المرشحين
يمسك عباس بمقاليد الرئاسات الثلاث، وفي سياق بحث خلافته يقتضي الأمر توزيع هذه الرئاسات على ثلاث شخصيات مختلفة أو شخصيتين على أقل تقدير، بحكم انعدام إمكانية جمع هذه الرئاسات في شخصية واحدة لأسباب شخصية وحزبية وسياسية.

أولا: على مستوى رئاسة "فتح":
يتنافس عدة قادة على زمام رئاسة الحركة التي تشكل العمود الفقري والظهير الأساسي والداعم الأكبر للسلطة والمنظمة. ويتصدر هؤلاء عضو اللجنة المركزية محمود العالول الذي انتزع عباسُ من أعضاء المجلس الثوري للحركة -إبان دورة انعقاده الأخيرة الشهر الماضي- موافقتهم على تعيينه نائبا له داخل الحركة.

يبرز إلى الواجهة أيضا عضو اللجنة المركزية ورئيس جهاز الأمن الوقائي الأسبق جبريل الرجوب، وعضو اللجنة المركزية ووزير الخارجية الأسبق ناصر القدوة.

لكن تعيين العالول نائبا لعباس في رئاسة "فتح" يمنح الرجل فرصة كبرى وحظا أوفر في مرحلة ما بعد عباس، إضافة إلى شخصيته الهادئة وسلوكه المتوازن، فيما تتضاءل حظوظ المرشحين الآخرين.

ثانيا: على مستوى رئاسة السلطة:
يبدو هذا الملف أكثر تعقيدا مقارنة برئاسة "فتح" ورئاسة المنظمة، لكونه يرتبط بمسارات الحكم والسياسة والعلاقات الإقليمية والدولية، وتُداخله ضغوط ومقاربات إقليمية ودولية تستهدف رسم ملامحه وحسم مخرجاته.

المؤشرات والدلائل الراهنة على فشل مسيرة المصالحة الفلسطينية الداخلية، والمحاولات المصرية لإقناع "حماس" بالتعاون مع دحلان والتأسيس لمرجعية وطنية جديدة لإدارة قطاع غزة بعيدا عن السلطة الفلسطينية؛ من شأنها أن تمنح زخما قويا لملف خلافة عباس الذي يتم إنضاج أوراقه بهدوء في دهاليز عواصم صنع القرار الإقليمي والدولي

وهنا يمكن الإشارة إلى عدد من الشخصيات التي تتنافس بقوة لبلوغ كرسي رئاسة السلطة من داخل "فتح" وخارجها، وأبرزها سلام فياض ومحمود العالول وجبريل الرجوب واللواء ماجد فرج (رئيس المخابرات العامة الفلسطينية) ومحمد دحلان ومروان البرغوثي ومصطفى البرغوثي.

ومن دون شك؛ فإن مجرد ترشيح مروان البرغوثي كافٍ لحسم المعركة الانتخابية بشكل فوري، إلا أن استمرار بقائه وراء قضبان سجون الاحتلال كفيل بحجبه عن معركة خلافة عباس في رئاسة السلطة.

ويكاد البرغوثي يحوز الإجماع على المستوى الوطني نظرا لتاريخه النضالي ومواقفه الوطنية، وإذا أطلِق سراحه -في إطار أي صفقة محتملة لتبادل الأسرى بين إسرائيل وحركة حماس- فإن حظوظه في رئاسة السلطة تبدو بالقطع عالية ومضمونة النتائج.

أما حظوظ محمود العالول وجبريل الرجوب فتبدو محدودة، لعدم حصولهما على الدعم الإقليمي والدولي الذي يلعب دورا مهما في صياغة المشهد السياسي الفلسطيني، وإن كان بالإمكان تصعيد حظوظ العالول إذا ما رشحته "فتح" لرئاسة السلطة، وأصرت على إنفاذ خيارها وواجهت كافة الضغوط.

ومع أن ماجد فرج يحظى بدعم إسرائيلي وأميركي إلا أنه لا يحظى بدعم دول الرباعية العربية التي تفضل دحلان عوضا عنه، ناهيك عن الشكوك الوجيهة في إمكانية قيام "فتح" بترشيحه ممثلا عنها في أي انتخابات رئاسية قادمة.

ولئن كان محمد دحلان يحظى بقبول ودعم إسرائيلي وإقليمي ودولي لتبوؤ منصب رئاسة السلطة، إلا أن رفض "فتح" وبعض القوى والفصائل الفلسطينية لترشحه لرئاسة السلطة يجعل حظوظه محدودة وضعيفة.

أما سلام فياض فإنه يمتلك حظوظا قوية إذا ما تم ترشيحه لرئاسة السلطة، لكونه مقبولا لدى العديد من القوى والفصائل الفلسطينية والشرائح الشعبية والمنظمات المجتمعية، فضلا عن قبوله على المستوى الإقليمي والدولي.

ويبقى القول إن حظوظ مصطفى البرغوثي لا تبدو عالية، فهو لا يمكن أن يحظى سوى بدعم عدة فصائل فلسطينية معارضة، دون أي دعم أو غطاء إقليمي أو دولي.

ثالثا: على مستوى رئاسة المنظمة:
يبدو موقع رئاسة المنظمة واقعيا أقل قيمة من موقعيْ الرئاسة الآخريْن، فهو وإن كان نظريا صاحب السيادة والسلطة العليا بحكم هيمنة المنظمة على السلطة، إلا أن تهميش دور المنظمة عمليا واستدعاءها فقط وقت الأزمات، يجعل منصب رئاستها وجاهيا معنويا أكثر منه عمليا واقعيا.

ولا يبدو في الأفق من مرشحين لخلافة عباس في رئاسة المنظمة سوى أمين سر اللجنة التنفيذية للمنظمة صائب عريقات، وعضو اللجنة التنفيذية للمنظمة حنان عشراوي. إلا أن حظوظ عريقات تبدو الأقوى على الإطلاق بحكم الدعم المطلق الذي يحظى به من عباس وقيادة "فتح"، وقبوله أيضا على المستوى الوطني والفصائلي.

وختاما..؛ فإن المؤشرات والدلائل الراهنة على فشل مسيرة المصالحة الفلسطينية الداخلية، والمحاولات المصرية لإقناع "حماس" بالتعاون مع دحلان والتأسيس لمرجعية وطنية جديدة لإدارة قطاع غزة بعيدا عن السلطة الفلسطينية؛ من شأنها أن تمنح زخما قويا لملف خلافة عباس الذي يتم إنضاج أوراقه بهدوء في دهاليز عواصم صنع القرار الإقليمي والدولي، في ظل الأولويات والتعقيدات الراهنة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.