الوضع الساخر في سوريا

Kurdish fighters from the People's Protection Units (YPG) chat with members of U.S. forces in the town of Darbasiya next to the Turkish border, Syria April 29, 2017. Picture taken April 29, 2017. REUTERS/Rodi Said

في كتابه الصادر بعنوان: "الإستراتيجية الكبرى للإمبراطورية البيزنطية"؛ يشير العالم السياسي إدوارد لوتواك إلى أن طول عمر الإمبراطورية البيزنطية راجع لنوعية دبلوماسيتها. ويقول لوتواك إن الإمبراطورية الرومانية الشرقية استطاعت -بالاعتماد على الإقناع والتحالفات والاحتواء بدل القوة- الصمود ثمانية قرون، أي أطول مرتين مما عُمِّرته الإمبراطورية الرومانية التي نشأت منها.

وبينما تحاول دول مثل تركيا والولايات المتحدة اجتياز الوضع المعقد أو "البيزنطي" في سوريا، سيكون من الجيد أن يأخذوا التطور الدبلوماسي لبيزنطة بعين الاعتبار.

إن الهجوم الذي يشنه الجيش التركي على الأراضي في شمال سوريا الواقعة تحت سيطرة الأكراد -وهم أقرب الشركاء لأميركا في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية– يسلط الضوء على التعقيد الحقيقي للأزمة السورية.

تكمن أولويات تركيا في منع تشكيل منطقة مستقلة مخصصة للأكراد السوريين على حدودها، وهي نتيجة يمكن أن تُلهم حزب العمال الكردستاني التركي -الذي كان وراء العديد من الهجمات الإرهابية على الأراضي التركية- للمطالبة بنفس الشيء

وتواجه تركيا والولايات المتحدة الآن -وهما عضوان مؤسسان في حلف شمال الأطلسي (الناتو)- خطرا حقيقيا، يتمثل في تصعيد سيؤدي بدوره إلى مواجهة مباشرة بين قواتهما المسلحة، وهي مواجهة ستراقبها روسيا بارتياح.

تستسلم تركيا للحساب التفاضلي في الشرق الأوسط: الأراضي تساوي السلطة؛ وبالنسبة لأنقرة -وهي الفخورة بتاريخها الإمبراطوري والقلقة بشأن فقدان مجدها السابق- فإن سكانها الأكراد ليس من حقهم -تحت أي ظرف من الظروف- الاستيلاء على أراضيها.

وفي العقود الأخيرة، أصيبت جهود تركيا الرامية لتحقيق حلمها العثماني الجديد والمؤثر بشكل كبير في منطقتها، بخيبة أمل. وبينما كان العديد من الإصلاحيين العرب يأملون أن تصبح تركيا بعد بداية الربيع العربي عام 2010 نموذجا للديمقراطية الحديثة، فإن الأمور سارت بشكل مختلف عما كان مخططا له.

أما بالنسبة لتركيا؛ فإن توجهت -منذ ذلك الحين- نحو السلطوية، ويرجع ذلك جزئيا إلى رئيسها رجب طيب أردوغان وتوظيفه الفعّال للقومية. فقد لقيت ملحمة "كوت العمارة" -وهو مسلسل تلفزيوني تركي يحكي قصة انتصار العثمانيين خلال الحرب العالمية الأولى على القوات البريطانية الغازية- نجاحا كبيرا بين المشاهدين الأتراك.

وتزداد شعبية أردوغان عادة عند تصاعد التوتر العسكري، حيث اقترح بعض المعلقين السياسيين في تركيا إمكانية إجراء انتخابات مبكرة لتعزيز النظام، مثل ما حدث بعد الانقلاب الفاشل الذي حدث عام 2016. وقد ساعد ذلك في إبعاد تركيا عن الاتحاد الأوروبي. والواقع أن نظام أردوغان تخلى عن التظاهر بإقامة علاقات أوثق مع تلك الكتلة، بدلا من مضاعفة التزامه بتعزيز موقفه في الشرق الأوسط.

وتكمن أولويات تركيا في منع تشكيل منطقة مستقلة مخصصة للأكراد السوريين على حدودها، وهي نتيجة يمكن أن تُلهم حزب العمال الكردستاني التركي -الذي كان وراء العديد من الهجمات الإرهابية على الأراضي التركية- للمطالبة بنفس الشيء.

ومن المحتمل أن تؤدي مغامرات تركيا العسكرية في سوريا إلى نتائج عكسية، وذلك في حال مثلاً وقوع خسائر بشرية كبيرة، أو انتصار الخصم الذي يعتبر أقل شأنا.

إن الأنظمة الاستبدادية أكثر عرضة للمغامرات العسكرية الفاشلة من الأنظمة الديمقراطية. لكن يبدو أردوغان -في الوقت الراهن- ملتزما بإستراتيجيته التي تجمع بين الأهداف الهجومية والدفاعية.

يمكن للولايات المتحدة أن تجد وسيلة لتهدئة تركيا دون التخلي عن الأكراد. ولكن، مع التزام الأكراد باستخدام نفوذهم -الذي تحقق بمشقة الأنفس- لتعزيز المناطق الكردية المتمتعة بالحكم الذاتي في شمال سوريا والعراق، سيكون من الصعب -إن لم يكن مستحيلا- تنفيذ هذه الإستراتيجية

وقد خلق كلُّ هذا معضلةً بالنسبة للولايات المتحدة التي أجبِرت على الاختيار بين حليفها الرسمي (تركيا) وشركائها الفعليين (الأكراد). ومن المرجح أن يذهب ولاء الجيش الأميركي إلى الأكراد الذين وقفوا بشجاعة في معركة "تنظيم الدولة الإسلامية"، وكثيرا ما فقدوا أرواحهم.

ومن ناحية أخرى، فإن الدبلوماسيين والسياسيين هم أكثر استعدادا للتضحية بالأكراد من أجل الحفاظ على علاقات جيدة مع تركيا، باعتبارها حليفا هاما عضواً في حلف شمال الأطلسي، وإن كانت أكثر برودة وأكثر صعوبة.

من الناحية المثالية، يمكن للولايات المتحدة أن تجد وسيلة لتهدئة تركيا دون التخلي عن الأكراد. ولكن، مع التزام الأكراد باستخدام نفوذهم -الذي تحقق بمشقة الأنفس- لتعزيز المناطق الكردية المتمتعة بالحكم الذاتي في شمال سوريا والعراق، سيكون من الصعب -إن لم يكن مستحيلا- تنفيذ هذه الإستراتيجية.  

إن الوضع الحالي في سوريا معقد للغاية. ويتخذ أردوغان الخطوات اللازمة لتعزيز سلطته، غير أن الولايات المتحدة مستعدة -في هذه الأثناء- للتضحية بشركائها المخلصين الأكراد، وذلك من أجل مصلحة الدولة.

لكن من السخرية بمكان أن الفائز الحقيقي في هذه اللعبة الإستراتيجية هو فلاديمير بوتين وروسيا، فقد أضحى التوتر داخل الناتو الآن أكثر تصاعدا من أي وقت مضى. وإذا أصبحت سوريا ساحة قتال لعضوين في التحالف، فإن العواقب على الغرب ستكون وخيمة، وفوائد روسيا ستكون ضخمة.

إن المتضررين هم السكان المدنيون والضحايا الرئيسيون في لعبة الشطرنج الدموية هذه، كما أن ذلك سيزيد معاناتهم. ومع إراقة الكثير من الدماء، أصبح العالم أقل حساسية. وقد أكد لي أحد أصدقائي الدبلوماسيين أن دوره الجديد في الخدمة السرية لم يعزز إيمانه بالإنسانية. وإن التعامل مع المسألة الكردية في سوريا يؤكد موقفه السلبي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.