الثورة المضادة تأكل أبناءها

Egyptian President Abdel Fattah al-Sisi (R) arrives with Arab leaders Sheikh Mohammed bin Zayed (C), Crown Prince of Abu Dhabi, and General Khalifa Haftar (L), commander in the Libyan National Army and members of the Egyptian military at the opening of the Mohamed Najib military base, the graduation of new graduates from military colleges, and the celebration of the 65th anniversary of the July 23 revolution at El Hammam City in the North Coast, in Marsa Matrouh, Egypt,

الثورة تأكل أبناءها
الانقلابات تأكل أبناءها
الحرية ترياق الانقلابات 

يكشف المشهد المصري اليوم خاصية تاريخية تتعلق بطبيعة الممارسة السياسية في هرم السلطة، وتتمثل في تشنج ردود أفعال النظام السياسي ومسارعته إلى تصفية خصومه السياسيين، وإخراجهم من المشهد بكل الطرق والوسائل المتاحة.

فليس اعتقال رئيس "حزب مصر القوية" -ومن قبله اعتقال المرشحين العسكريين للانتخابات الرئاسية المصرية- إلا مؤشرا إضافيا على سعي قيادة الانقلاب إلى الإطاحة بكل القوى القادرة على تهديد البناء من الداخل.

وبناء عليه؛ فإن الخلل الذي يصيب الثورات لحظة نشأتها يصيب الثورات المضادة أيضا لحظة تتطورها، فالقول بأن "الثورات تأكل أبناءها" ينسحب منطقيا على الثورات المضادة والانقلابات، وهو ما يسمح بالإقرار التالي: "إن الثورات المضادة تأكل أبناءها مثل الثورات".

يتجاوز هذا المبدأ المجال المصري لينسحب على كامل المجال العربي عامة، بل وعلى مختلف التجارب السياسية في العالم ليشكل مدخلا لقراءة طبيعة التحولات السياسية في المنطقة، كما يساعد على تبين مراحل تطوراتها المستقبلية واستقراء تفريعاتها.

الثورة تأكل أبناءها
هذا المبدأ شائع في الأدبيات الثورية العالمية، وهو يصوّر حالة الصراع والتناحر التي تغلب على القوى الثورية أثناء الثورات أو بعدها، فتتقاتل ليستتب الأمر إلى فريق دون آخر ولقائد دون آخرين.

وقد عبّرت هذه المقولة الخالدة عمّا اعترى الثورة الفرنسية وحدث بين أبنائها من تقاتل وتناحر، وما أعقبها من مجازر وجرائم أودت بالمنجز الثوري في حينه، ومكّنت من عودة النظام القديم.

الخلل الذي يصيب الثورات لحظة نشأتها يصيب الثورات المضادة أيضا لحظة تتطورها، فالقول بأن "الثورات تأكل أبناءها" ينسحب منطقيا على الثورات المضادة والانقلابات، وهو ما يسمح بالإقرار التالي: "إن الثورات المضادة تأكل أبناءها مثل الثورات". يتجاوز هذا المبدأ المجال المصري لينسحب على كامل المجال العربي عامة

تظهر علوية هذا المبدأ في أنه ينسحب على تجارب ثورية عديدة؛ فبعد انتصار الثورة البلشفية، وإثر وفاة قائدها المؤسس لدولتها (الاتحاد السوفياتي) فلاديمير لينين، تتبع جوزيف ستالين الرفيق ليون تروتسكي في منفاه بالمكسيك وقام بتصفيته في أغسطس/آب 1940.

شهدت الانقلابات التي عرفتها الأقطار العربية -في خمسينات القرن العشرين وخلال تأسيس ما اصطُلح على تسميته "الدولة الوطنية"- تصفيات وإعدامات، وعمليات قتل تدخل جميعها تحت مبدأ "الثورة تأكل أبناءها". ففي مصر والعراق وليبيا وسوريا وتونس والجزائر؛ قامت القوى الانقلابية أو الثورية بتصفية بعضها البعض ليستتب الأمر لإحداها دون الأخريات.

ففي مصر مثلا تخلص جمال عبد الناصر من محمد نجيب ومجموعته، وفي الجزائر تمت تصفية مجموعات ثورية كثيرة ليستتب الأمر لهواري بومدين. وأما العراق وسوريا؛ فبعد سلسلة انقلابات في البلدين نجح كل من صدام حسين وحافظ الأسد في الاستحواذ على السلطة، وتصفية كل المجموعات المعارضة لهما.

وفي مواجهة ثورات الربيع التي ضربت أسس النظام الاستبدادي؛ تأسست الثورات المضادة التي نجحت -إلى حد كبير- في تعطيل المدّ الثوري والحدّ منه.

وتتباين نِسب النجاح من قُطر إلى آخر في تحقيق الانقلاب على المنجز الثوري، وهي نسب تتوزع على سلّم تقع الثورة المصرية أعلاه وتتنزّل أسفله الثورة التونسية، بما أنها هي أصلب النماذج صمودا في وجه الثورة المضادة.

فقد حققت الثورة المضادة بمصر -بقيادة المؤسسة العسكرية- نجاحا كبيرا في الإطاحة الكاملة بالتجربة الثورية. أي أن الثورة المضادة تمكنت من إخراج قوى الثورة جميعها من المشهد، بل وزجت بها في السجون والمعتقلات والمنافي، مستعيدةً بذلك كامل المجال الذي كان يؤثثه النظام الاستبدادي.

لكن لا بد هنا من الإشارة إلى أن هذا النجاح لا يشمل مجال الوعي أو المجال الفكري غير الملموس، أي أن نجاح الثورة المضادة في مصر وتمكنها من إعادة العسكر إلى حكم ابلاد إنما يقتصر على مجال الواقع السياسي والاجتماعي، ولا يشمل مجال الأفكار والوعي والبنى النظرية المصاحبة له.

ففي تونس -التي هي أقل نماذج نجاح الثورة المضادة تمثيلا- لم يتيسر استنساخ المنوال المصري، رغم كل محاولات قوى الدولة العميقة، وكل المال الذي ضخّته الإمارات خاصة للإجهاز على التجربة التونسية. لكن الصراع لا يزال قائما بين قوى الثورة وقوى الثورة المضادة، بعد أن فشلت أغلبية المحاولات في الإطاحة بالمنجز وتخريب المرحلة الانتقالية.

أما المنوالان السوري والليبي فرغم تباينهما النسبي فإنهما يشتركان في خاصية التسلّح التي غلبت على سلوك الثورات المضادة، وقد نجحت في تحويل التجربتين من مطالبة سلمية بالحرية والانعتاق إلى تجارب مسلحة.

الانقلابات تأكل أبناءها
إن ما يلفت الانتباه اليوم هو أن الانقلابات تعيد إنتاج خصائص الفعل الثوري نفسه، وهو ما يسمح بالإقرار بأن التآكل الداخلي سمة مميزة لكل أنواع التحولات الاجتماعية والسياسية. وتتأتى صلابة هذا الإقرار من تطورات المشهد المصري الناشئة، ومن إفرازات مساره الانقلابي.

فالتآكل والتفتت والتصدع خطر يهدد كل التجارب الثورية، سواء تعلق الأمر بالثورة أو بالثورة المضادة، بما هي فعل سياسي واجتماعي بالدرجة الأولى.

حققت الثورة المضادة في مصر -بقيادة المؤسسة العسكرية- نجاحا كبيرا في الإطاحة الكاملة بالتجربة الثورية. أي أن الثورة المضادة تمكنت من إخراج قوى الثورة جميعها من المشهد، بل وزجت بها في السجون والمعتقلات والمنافي، مستعيدةً بذلك كامل المجال الذي كان يؤثثه النظام الاستبدادي. لكن لا بد هنا من الإشارة إلى أن هذا النجاح لا يشمل مجال الوعي أو المجال الفكري

ففي مصر يسعى الجنرال الانقلابي هناك إلى الإطاحة بكل أنواع التهديد التي يمكنها أن تعطل استعادته للسلطة بشكل كامل ونهائي، أو تلك التي يمكنها أن تعوق سيطرته المطلقة على كل مفاصل الدولة.

ولا يتأتى هذا الهدف -الذي هو أسمى أهداف الانقلابات- بدون عمليات قسرية تَستعمل فيها الآلياتُ الانقلابية كلَّ أنواع القمع والإكراه، بشكل يصل إلى جرائم القتل والاغتيالات والتصفيات الجسدية.

لكن خطورة هذا الفعل تكمن في أنه يشكل انقلابا داخل الانقلاب أو انقلابا على الانقلاب. وجوهر الخطر هو أن الانقلاب يحدث على المنجز الانقلابي بنفس الوسائل الانقلابية وبنفس المنطق الانقلابي.

فالشيطنة الإعلامية التي تصاحب الاعتقالات الأخيرة في مصر مثلا (كالاتهام بالخيانة والأخونة والتطرف ودعم الإرهاب)، إنما تشكل نفس الآليات التي استُعملت بداية في الانقلاب الذي أطاح بالرئيس المنتخب ديمقراطياً صيفَ 2013.

أما في تونس؛ فإن معسكر الثورة المضادة يشهد -منذ انتخابات 2011- احتداما متواصلا لتناحر القوى الانقلابية فيما بينها. فبعد تشقق الطيف الحاكم القديم في أشكال حزبية وقوى سياسية مختلفة؛ أصاب التشرذم القوى المنقسمة نفسها، فحزب "نداء تونس" مثلا -الذي يُعتبر الممثل الحقيقي للدولة العميقة الرسمية- انقسم في أكثر من مناسبة، سواء في واجهته السياسية أو في تمثيله البرلماني أو في أذرعه المالية.

بل إن قوى أخرى محسوبة على الدولة العميقة -التي لا تقتصر فقط على الحزب الحاكم القديم- عرفت هي الأخرى تصدعات كبيرة، مثل الأحزاب الدستورية واليسارية خاصة.

لكن رغم الطابع الانتهازي لهذه الأحزاب -التي لا يتجاوز عددُ منخرطيها أحيانا أصابعَ اليد الواحدة- فإن القوى الخارجية التي صنعتها وموّلتها في أحيان كثيرة -حسبما أظهرته التحقيقات الأخيرة- لم تنجح في السيطرة المطلقة عليها.

فالحزب المموّل إماراتياً -وهو المنشق عن حزب "نداء تونس"- لم ينجح في إنجاز المطلوب منه خارجيا، بتحقيق انقلاب على المنجَز الثوري وضرب المسار الانتقالي؛ بل تحول -في مناسبات كثيرة- إلى خصم عنيد للحزب الحاكم، رغم أنهما ينتميان إلى نفس بنية الدولة العميقة.

الحرية ترياق الانقلابات
يمثل مطلب الحرية سقف المشاريع الثورية، وهو يشكل كذلك الركيزة الأساسية للمشروع الثوري بوصفه مطلبا تحرّريا ينشد الانعتاق والخروج من سلاسل الاستعمار والاستبداد. وبناء عليه؛ فإن أعلى المطالب الانقلابية هو منع مبدأ الحرية من التشكل واقعا، لأنه نقيض المطلب الثوري كما يظهر ذلك في المنطقة العربية اليوم.

إن طبيعة تطور كل انقلاب -بعد أن يطيح بالنظام القائم ثوريا كان أم غير ثوري- تقضي بأن ينقلب رأس الانقلاب على المجموعة الانقلابية التي أوصلته إلى السلطة، وهو ما يسمى في الأدبيات السياسية "حرب الأنداد" أو "الحركة التصحيحية"، حسب المعجم البعثي في سوريا.

يحمل كل برنامج انقلابي شروط فنائه في داخله، وهي شروط تنمو وتتطور وتتفاعل بشكل طبيعي لتنتهي بسقوط الانقلاب جملة. وإن أفضل ما يمكن فعله للتعجيل بتفاعل شروط سقوط البناء داخليا لأي انقلاب هو الامتناع عن مواجهته مباشرة، وبشكل قد ينتج عنه تحفيز شروط البقاء عنده ليدفعه ذلك حتما إلى تجديد خلاياه والانبعاث من جديد

هذا الصراع يكون أساسا بين أطراف من نفس النسق السياسي أو العسكري أو الأمني، وعادة ما تساعدهم قوى خارجية هي التي تختار الرأس الانقلابي الجديد حسب المتبع.

وفي هذه اللحظة؛ يقوم المشروع الانقلابي بتصفية نفسه من الداخل بتنقية بنائه السياسي والأمني، وهي مرحلة ضرورية وهامة لأنها تحسم الصراع داخل بينة النظام الجديد، وتمهد لمرحلة طويلة وقاسية من الحكم الاستبدادي بعد رسوخ قدم النظام الناشئ.

وتأسيسا على ذلك؛ فإن حضور قوى المعارضة الحقيقية أو القوى الثورية في هذا المشهد إنما يمثل خطأ ثوريا جسيما. إن حضور الفاعلين الثوريين في مشهد انقلابي داخلي لا يسمح إلا بتوفير حظوظ أنشط لنجاح الفعل الانقلابي.

تتفق قوى الثورة المضادة -في كل مجال الربيع العربي اليوم- على وصم القوى الثورية بنفس الأوصاف: كالإرهاب والأخونة والتطرف، وبيع البلاد للأجنبي والارتهان للقوى الخارجية، وهي نفس لائحة الاتهامات التي تظهر في كل الخطابات الانقلابية مهما تغيرت صيغتها وتباينت.

إن مبحث الانقلاب هنا هو الحصول على عدو داخلي يسمح له بتأسيس خطابه، الذي يتلبس بلباس الإنقاذ والخلاص على أنقاض المقولات الثورية.

إن حضور الإخوان مثلا في المشهد المصري اليوم إنما يقدم خدمة جليلة لخطاب دولة العسكر العميقة، بل ويساعد على شحنه مجددا، ودليل ذلك سعي الخطاب الانقلابي نفسه إلى استدعاء صورة الإخوان في كل المنابر وفي كل التهم التي يوجهها إلى خصومه الذين هم حلفاء الأمس وأعوانه.

وبناءً عليه؛ فإنه إذا كان الهيكل الانقلابي محتاجا في وجوده إلى شيطنة المعارضة الحقيقية، فإنه يجب على القوى الثورية أن تخرج من الصراع الانقلابي الداخلي وألا تكون طرفا فيه، لأن غيابها يساعد على التسريع بتصدع البناء الانقلابي من الداخل.

في سنوات التسعينيات وبعد أن دشن زين العابدين بن علي انقلابه الطبي على العجوز الحبيب بورقيبة؛ كان يحتاج إلى كبش فداء لترسيخ قدمه الانقلابية بتصفية الحرس القديم التابع لنظام بورقيبة، فوفّر له الإسلاميون هذا الكبش عندما دخلوا في صدام مع السلطة، انتهى بتصفيتهم وبدخول تونس حقبة استبدادية دامت قرابة ربع قرن.

يحمل كل برنامج انقلابي شروط فنائه في داخله، وهي شروط تتطور وتتفاعل طبيعيا لتنتهي بسقوط الانقلاب جملة. وإن أفضل ما يمكن فعله للتعجيل بتفاعل شروط سقوط البناء داخليا لأي انقلاب هو الامتناع عن مواجهته مباشرة، وبشكل قد ينتج عنه تحفيز شروط البقاء عنده ليدفعه ذلك حتما إلى تجديد خلاياه والانبعاث من جديد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.