النظام السوري لم يحتفظ بحق الرد هذه المرة!
إسرائيل والأزمة السورية
محددات الموقف الإسرائيلي
ملاحظات واستنتاجات
يمكن اعتبار إسقاط الدفاعات الجويّة السورية لطائرة إسرائيلية (يوم 10 فبراير/شباط الجاري) حدثاً تاريخياً في ذاته، إن بالنسبة للصراع الجاري في سوريا، أو بالنسبة لتاريخ الصراع السوري لإسرائيلي، إذ اعتاد نظام عائلة الأسد -طوال قرابة نصف قرن- على تكرار لازمته المعروفة والمثيرة للمرارة والسخرية، التي تتوعّد بأنه سيردّ في المكان والزمان المناسبين دون أن يأتي هذا الرد.
لذا؛ قد يجدر هنا -وبعيداً عن المبالغات بشأن إسقاط الطائرة وتوظيفها مثلاً لأغراض تبييض صفحة نظام "المقاومة" و"الممانعة"- التذكير بمسألتين: أولاهما، أن هذا النظام لم يتوان ولو للحظة في ردّه القاسي والوحشي على مظاهرات السوريين السلمية في بداية ثورتهم، بل استخدم أقصى ما في ترسانته الحربية من أسلحة، ناهيك عن أنه فتح أبواب البلد أمام التدخلات الخارجية: إيران ومليشياتها ثم روسيا.
وثانيتهما، أن هذا الرد ّكان محدوداً في الزمان والمكان والظرف، إذ جاء رداً على غارة كانت شنّتها طائرات إسرائيلية متعدّدة على مطارات وقواعد عسكرية قرب حمص ودمشق، وفيها منظومات إطلاق صواريخ؛ أي أن الأمر يتعلق فقط بعمل دفاعي محدود.
إسرائيل والأزمة السورية
بديهي أن إسرائيل نظرت بعين الخطورة إلى هذا التطوّر اللافت وغير المسبوق، وهي التي كانت على الدوام تعتبر أن حدودها مع سوريا -في ظلّ نظام الأسد- أهدأ حدود عرفتها منذ قيامها 1948، وهو ما جعلها تتبنى موقفاً مفاده أن الحفاظ على استمرار وجود النظام أفضل لها من اختفائه، على قاعدة أن هذا النظام يتعامل بعقلانية معها، وفقاً لمعايير تخدم مصلحته في البقاء في السلطة قبل أي مصلحة أخرى لسوريا وشعبها.
يجدر هنا -وبعيداً عن المبالغات بشأن إسقاط الطائرة وتوظيفها مثلاً لأغراض تلميع النظام- التذكير بمسألتين: أولاهما، أن هذا النظام لم يتوان ولو للحظة في ردّه القاسي والوحشي على مظاهرات السوريين السلمية في بداية ثورتهم، بل استخدم أقصى ما في ترسانته الحربية من أسلحة، ناهيك عن أنه فتح أبواب البلد أمام التدخلات الخارجية: إيران ومليشياتها ثم روسيا |
ويفسّر ذلك كلامها الظاهري عن "النأي بالنفس"، مع اشتغالها -مع حليفتها الولايات المتحدة– على ترك البلد لمصيره، وفقا لمقولة: "دع العرب ينتحرون"، أو: عرب يقتلون عرباً.. فما شأننا نحن؟ (أليكس فيشمان، "يديعوت أحرونوت"، 12/6/2013).
وقد انطلقت في ذلك من مبدأ أن انهيار وتمزيق المشرق العربي على صعيديْ الدولتة والمجتمع، هو الذي يؤمن لها بيئة آمنة لعقود من الزمن، وهو ما اضطلع فيه النظام الإيراني بدور رئيسي، عبر هيمنته على العراق ولبنان ثم سوريا، خادماً في ذلك إسرائيل عن قصد أو بدونه.
بيد أن إسرائيل هذه باتت تنظر إلى سوريا اليوم -أي بعد كل ما حصل فيها من أهوال وكوارث وصراعات وتدخلات خارجية- من منظار آخر، فهذا البلد لم يعد يشكّل مصدر خطر عليها خاصة أمنيا؛ بيد أن المسألة الوحيدة التي باتت تقلقها فيه هي وجود كل هذه القوى الأجنبية في سوريا، وخاصة تلك التابعة لإيران ومليشياتها في هذا البلد.
إذ باتت تعتقد أن هذا الوجود لم يعد لازماً، وأن الاستثمار (الأميركي والإسرائيلي) في إيران حان إنهاؤه، فقد انتهت المهمة بعد كل ما جرى في العراق وسوريا، وهو ما يفسّر الإلحاح الأميركي والإسرائيلي في هذه الظروف على خروج إيران من سوريا، وعلى تحجيم نفوذ إيران في المشرق العربي بكافة الوسائل.
وعلى أية حال؛ شهدنا ترجمة إسرائيل والولايات المتحدة هذا الموقف عملياً، باعتبار منطقة شرق الفرات ومجمل الحدود العراقية مع سوريا خطا أحمر لا يجوز لقوات إيرانية أو حليفة لها الاقتراب منه، وقد نفذت الولايات المتحدة ذلك باستهدافها وحدات من تلك القوات حين اقتربت من التنف (العام الماضي)، كما في توجيهها ضربات جوية قوية لها (8 فبراير/شباط 2018) في ريف دير الزور الشمالي الشرقي.
وقد نتج عن ذلك مصرع ما يزيد على مئة من أفراد تلك المليشيات لدى محاولتها الاقتراب من شرق الفرات. وهذا ما دأبت إسرائيل على فعله أيضاً، بضرباتها المستمرة لقوافل تسلح أو مستودعات أسلحة أو مواقع عسكرية، لحزب الله أو لقوات الحرس الثوري الإيراني والمليشيات الأخرى التي تتبعه.
محددات الموقف الإسرائيلي
منذ بداية الثورة السورية؛ تبنت إسرائيل مواقف سياسية وميدانية، تنطلق من المرتكزات الآتية:
أولاً؛ مراقبة ما يجري على الأرض، والحرص على عدم بروز تهديدات أمنية من جراء الصراع السوري. ولعل هذا ما واجهته إسرائيل في سعيها لفرض سيطرتها على حدودها مع سوريا، ودعمها لتدمير السلاح الكيميائي فيها، كما في شنّها غارات جوية وصاروخية داخل الأراضي السورية، مستهدفة في ذلك مطارات ومنظومات دفاع جوي ومستودعات أسلحة.
وقد حدث ذلك -منذ 2012- في تدمر قرب حمص، والمزة في دمشق، والكسوة والقلمون وتل أبو الثعالب والديماس ومضايا والدريج وجمرايا في ريف دمشق، وتلة الصبا وغباغب وأزرع قرب درعا.
ثانيا؛الحرص على عدم تزويد جماعات المعارضة العسكرية بأسلحة نوعية، وهو حرص لا يتعلق بمحاولتها الحفاظ على أمنها، بقدر ما يتعلق بإدراكها أن ذلك يسهم في تخليصها من مخاطر كانت تقف في مواجهتها حتى ولو كانت كامنة أو نظرية، وهو ما حصل في عدم تزويد المعارضة بأسلحة يمكن أن تشكل فرقاً في الميدان العسكري.
من المحددات التي تحكم الموقف الإسرائيلي من سوريا: مراقبة ما يجري على الأرض، والحرص على عدم بروز تهديدات أمنية من جراء الصراع السوري. ولعل هذا ما واجهته إسرائيل في سعيها لفرض سيطرتها على حدودها مع سوريا، ودعمها لتدمير السلاح الكيميائي فيها، كما في شنّها غارات جوية وصاروخية داخل الأراضي السورية |
ثالثا؛ انتهاج مبدأ يقوم على عدم التدخل رسميا في الصراع السوري، وتبنّي مقولة "دع العرب ينتحرون بهدوء"، على أساس أن هذا الصراع سيؤدي إلى إضعاف كل الأطراف وهو ما يفيد إسرائيل، لأنه ليس لإسرائيل مصلحة في ظهور نظام سياسي قوي في سوريا، سواء أبقي النظام أم رحل.
رابعا؛ غلبة وجهة نظر مفادها الإبقاء على النظام، بواقع أن نظام الأسد (الأب والابن) حافظ على حدود هادئة معها طوال أربعة عقود، وأن النظام الذي تعرفه أفضل من الذي لا تعرفه. ولذا كان موقفها أن هذا النظام سيكون ضعيفا إذا بقي.
خامسا؛ الترويج لفكرة أن الصراع في سوريا من طبيعة طائفية، وهو ما يخدم إسرائيل عبر تعميم خاصيتها بعدّ نفسها دولة يهودية، أي ذات طابع ديني طائفي. ومعلوم أن إسرائيل تشتغل على هذا النحو بالتعامل مع الفلسطينيين من مواطنيها، ليس باعتبارهم عربا وإنما بوصفهم مسلمين ومسيحيين ودروزا وبدْواً… إلخ.
وفي هذا الإطار؛ يمكن الحديث عن التصورات الإسرائيلية للمنطقة العربية التي كانت تصدرها مراكز الأبحاث الإسرائيلية، وتقوم على أن البلدان العربية لم تتأسس على أساس متجانس، وأنه ينبغي أن تقوم عدة دول في سوريا: واحدة للمسلمين السنة، وثانية للعلويين، وثالثة للدروز، ورابعة للأكراد، وهذا ينطبق على العراق أيضا.
سادسا؛ التنسيق مع روسيا، وهو ما تجلى في قيام بنيامين نتنياهو بعدة زيارات لروسيا، وتأكيد الطرفين متانة العلاقات التي تربطهما في المجالات المختلفة، وضمنها ما يتعلق بالوضع السـوري، وهو ما استتبعه تنسيق أمني بينهما أطلق يد إسرائيل في ضرب كل ما تعتقد أنه يهدد أمنها.
سابعا؛ ترك الأمر للولايات المتحدة، إذ ثمة تقاطع كبير بين التصورات الإسرائيلية والتصورات الأميركية فيما يخص الشرق الأوسط، وتشابكاتٌ في مراكز صنع القرار والمصـالح السيـاسية والأمنيـة والاقتصـاديـة. أي أن المسألة لا تتعلق بفرض إسرائيل لوجهة نظرها على الولايات المتحدة، فهي ليست بحاجة إلى ذلك.
والمهم أن إسرائيل -في كل هذه الأمور- تحاول أن تثبت موقفها في أربع مسائل، هي:
أولا؛ التمسك بهضبة الجولان، وتأكيد عدم الانسحاب منها.
ثانيا؛ تأكيد قدرتها على الردع سواء لسوريا أو لـ"حزب الله" أو حتى إيران.
ثالثا؛ فرض ذاتها لاعبا إقليميا في تقرير مستقبل سوريا، ولا سيما بما يتلاءم ورؤيتها لما تعدّه أمنها القومي.
رابعا؛ إضعاف أو تقويض بنى المشرق العربي لضمان أمنها إستراتيجياً.
ملاحظات واستنتاجات
يُستنتج من كل ذلك أن إسرائيل تشتغل وفقاً لإستراتيجيات وأهداف معينة في الموضوع السوري، ولمواجهة التحديات التي تواجهها أو تتوقعها، وأيضا للتعامل مع وجود أي قوة إقليمية على حدودها، وذلك بغض النظر عن أن الحدث المذكور كان غير مسبوق.
وسواء كان قرار ضرب الطائرة الإسرائيلية صدر بقرار ذاتي من النظام أو من غيره (لاسيما مع معرفتنا أن هذا النظام -في حقيقة الأمر- لم يعد يملك من أمره شيئًا، ولا حتى قواته العسكرية)؛ فإنه لن تغير من الأمر واقعة ضربه طائرة إسرائيلية، خاصة أن الأمر لا يتعلق بشن غارة على "إسرائيل"، ولا بقصف صاروخي لها، وإنما بحالة دفاعية محدودية.
سواء كان قرار ضرب الطائرة الإسرائيلية صدر بقرار ذاتي من النظام أو من غيره (لاسيما مع معرفتنا أن هذا النظام -في حقيقة الأمر- لم يعد يملك من أمره شيئًا، ولا حتى قواته العسكرية)؛ فإنه لن تغير من الأمر واقعة ضربه طائرة إسرائيلية، خاصة أن الأمر لا يتعلق بشن غارة على "إسرائيل"، ولا بقصف صاروخي لها، وإنما بحالة دفاعية محدودية |
في احتمال آخر؛ ربما جاء الرد في إطار سعي إيران لعرقلة التوافقات الحاصلة في الصراع السوري، وللمشاغبة على روسيا التي باتت تبدو وكأنها هي المتحكمة في الصراع السوري ومصير النظام، على حساب طهران، وذلك منذ التدخل العسكري الروسي المباشر (سبتمبر/أيلول 2015)، ومن ثم شق مسار أستانا التفاوضي العام الماضي، وتنظيم مؤتمر سوتشي للحوار السوري (الشهر الماضي).
وبالتأكيد فإن إيران -وهي شريكة للنظام ولا ترى مستقبلاً لها في سوريا من دونه- بدا أنها تنظر بعين الريبة إلى ترسُّخ الدور الروسي، وللتوافقات الروسية/التركية في اتفاقيات خفض التصعيد ومفاوضات أستانا حتى ولو كانت شريكة فيها، لأنها تنطلق من أن لا حل سوى الحل الأمني لوأد الثورة السورية، خاصة مع تخوفها من زيادة التدخل الأميركي الرامي علنا لتحجيم مكانتها في المنطقة، وإغلاق "الكوريدور" بين إيران ولبنان مرورًا بسوريا والعراق.
وقد يجدر في هذا السياق التحذير من مغبّة المفاضلة بين إسرائيل وإيران، إذ إن لكل منهما مشروعه الذي أسهم في إضعاف الوضع العربي؛ فالأولى سببت نكبة للفلسطينيين، والثانية صنعت نكبة للعراقيين والسوريين واللبنانيين.
ولذا فإن الأجدى والأصوب هو التمييز بين العداء لـ"إسرائيل" والعداء لإيران (أو للنظام السوري)، أي عدم الخلط وفق فكرة "عدو عدوي صديقي" الخاطئة والساذجة؛ لأن الأعداء يمكن أن يتوافقوا على هدف معين.
ولذا فإن "إسرائيل" تبقى هي ذاتها كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية مصطنعة، ولا يمكن أن تكون مع مطالبة السوريين بالحرية والعدالة والديمقراطية؛ لأن هذا يتناقض مع طبيعتها، ويضر بها وفقًا لرؤيتها لذاتها.
وبالنسبة لإيران (ومعها النظام السوري)، فهي تبقى -سواء أعادت "إسرائيل" أم لم تعادِها- نظامًا استبداديًا، قام على القهر والفساد، وتقويض الدولة والمجتمع السورييْن، ومصادرة حقوق مواطنيه، وهذا لا يمكن أن يصبّ في إطار مقاومة وممانعة إسرائيل.
وعلى أية حال؛ فإن التدخلات الإسرائيلية في الصراع السوري ترتبط أولاً بمدى حزم أميركا في تنفيذ خطتها لتحجيم نفوذ إيران. وثانياً، بمآلات الصراع السوري: ديمومته أو تسويته. وثالثاً، بتوجهات القوى المتصارعة على سوريا، توافقها أو اختلافاتها، والقصد هنا روسيا وإيران وتركيا. علماً بأن كل ذلك يفيد بأن التدخلات الإسرائيلية ستزداد مستقبلاً أكثر بكثير من السابق، وهذا هو الأرجح في ظل المعادلات السياسية القائمة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.