الأزمة بين بغداد وأربيل على أبواب الانتخابات

Iraqi Prime Minister Haider al-Abadi (L) meets with Iraqi Kurdish leader Massud Barzani following his arrival at the airport in Arbil, the capital of the autonomous Kurdish region of northern Iraq, on April 6, 2015. AFP PHOTO / SAFIN HAMED (Photo credit should read SAFIN HAMED/AFP/Getty Images)

الحوار الصعب
بوصلة الانتخابات
انقسامات وتحالفات

بعد أشهر من مراوحة الأزمة بين أربيل وبغداد مكانها على خلفية الاستفتاء الذي أجراه إقليم كردستان العراق على الانفصال؛ ثمة مؤشرات وتطورات توحي بإمكانية التوصل إلى اتفاق إطار، فبغداد -التي رفعت سقف شروطها عاليا للعودة إلى الحوار مع أربيل- باتت منخرطة في هذا الحوار، وأربيل الراغبة فيه تأمل عودة الدفء للعلاقة مع بغداد والجوار الإقليمي.

ويأتي موقف أربيل هذا بعد أن وجدت أن الاستفتاء على انفصال كردستان لم يجلب سوى الحصار وتفاقم الأزمة المالية والمعيشية في الإقليم، لكن ما سبق قد لا يعني التوصل إلى حل مستدام للأزمة المتداخلة الأبعاد، خاصة في ظل غياب الثقة بين الطرفين.

الحوار الصعب
بعد سيطرتها على كركوك؛ كثيرا ما تصرفت بغداد بلغة المنتصر، ولذلك لم تتوقف عن التحدث مع أربيل بلغة التهديد والوعيد، ما لم تنفذ سلسلة الشروط التي أعلنتها حكومة حيدر العبادي، وقد أذعن الكرد لبعض هذه الشروط مثل نشر القوات الاتحادية في المناطق المتنازع عليها، وفي معظم المعابر الحدودية والسدود والمنشآت النفطية والمطارات.

كما أعلنوا تجميد نتائج الاستفتاء، بل وتنحى مسعود البارزانيعن رئاسة الإقليم تحت وطأة هذه الظروف، إلا أن كل ذلك لم يُرضِ بغداد التي طلبت أن تعلن حكومة الإقليم صراحة تخليها عن نتائج الاستفتاء.

بعد سيطرتها على كركوك؛ كثيرا ما تصرفت بغداد بلغة المنتصر، ولذلك لم تتوقف عن التحدث مع أربيل بلغة التهديد والوعيد، ما لم تنفذ سلسلة الشروط التي أعلنتها حكومة حيدر العبادي، وقد أذعن الكرد لبعض هذه الشروط مثل نشر القوات الاتحادية في المناطق المتنازع عليها، وفي معظم المعابر الحدودية والسدود والمنشآت النفطية والمطارات

ومع أن المحكمة الاتحادية العليا ألغت الاستفتاء عمليا بوصفه عملية غير دستورية تهدف للانفصال، والكرد وافقوا على قرار المحكمة؛ فإن بغداد واصلت إجراءاتها تجاه الإقليم، إذ باتت تتحدث عن التخلص من حكومته بوصفها غير مؤهلة سياسيا، وتصف إقليم كردستان بإقليم الشمال خلافا للدستور العراقي الصادر عام 2005 والذي أقر هذه التسمية.

كما اقترحت بغداد خفض حصة الإقليم من الموازنة العامة للدولة من 17% إلى نحو 12%. كل ذلك وضع الإقليم أمام ظرف صعب وهو لا يجد أمامه سوى الدعوة إلى الحوار، ويطالب الدول الكبرى بالضغط على بغداد لإعادة النظر في سياستها تجاه أربيل.

ولعل المتضرر الأكبر من كل ما سبق هو المواطن الكردي الذي وجد نفسه في أزمة معيشية غير مسبوقة، أجبرته على الخروج في مظاهرات واحتجاجات عارمة كادت تتحول إلى ثورة ضد السلطات السياسية في الإقليم.

غاية القول مما سبق، هي أن ذهاب أربيل إلى الاستفتاء بعيدا عن موافقة بغداد والدول الإقليمية والمؤثرة في السياسة العالمية، ومن ثم سلسلة الإجراءات والخطوات التي اتخذتها بغداد؛ جعلت الحوار بين الجانبين صعبا، خاصة أن الملفات الخلافية كثيرة، والاتهامات المتبادلة أكثر، في ظل غياب الثقة وعدم وجود إرادة حقيقية للتوصل إلى حل حقيقي للأزمة.

ومع مطلع العام الحالي؛ بدا وكأن ثمة ظروفا وتطورات واستحقاقات تدفع مجتمعة نحو ذوبان الجليد بين الجانبين، وتفتح الباب أمامهما للدخول في الحوار، ولعل من أهم هذه الظروف والاستحقاقات:

1- أن الخطوات التصعيدية لبغداد أدت دورها عمليا في تحجيم التطلعات السياسية للإقليم، ومع وصول هذه الخطوات إلى ما يشبه الذروة بات عمليا الحوار مخرَجا مناسبا لإعادة ترتيب العلاقة بين الجانبين.

2- سلسلة المبادرات الداخلية التي طُرحت وقدمت أبرزها من الرئيس العراقي فؤاد معصوم وإياد علاوي وأسامة النجيفي، وغيرهم من الشخصيات العراقية التي تتميز بالوسطية، وقد كان لهذه المبادرات مجتمعة دور في التهدئة وعدم وصول الأمور إلى الخيار العسكري.

3- سلسلة الوساطات الخارجية التي قُدّمت، بدءاً بمبادرة الأمم المتحدة إلى الدور الأميركي، وصولا إلى إعلان كل من تركيا وإيران استعدادها للقيام بوساطة بين الجانبين. وجميعها ساهمت نوعا ما -إلى جانب المبادرات الداخلية- في فتح أبواب الحوار واختراق جدران الأزمة.

4- لعل التطور الأهم في هذا المجال هو قرب الاستحقاق الانتخابي؛ فمع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية المقررة في شهر مايو/أيار القادم، بدت حاجة الكتل والقوى السياسية إلى بناء تحالفات سياسية للفوز بالأغلبية البرلمانية.

بوصلة الانتخابات
والثابت أنه رغم كل الخلافات؛ فإن التحالف الشيعي/الكردستاني المجمد حاليا يظل يحظى بأهمية كبيرة لدى القوى المتصارعة على المشهد السياسي العراقي، ولعل هذا ما يفسر الدافع الأساسي وراء التحول الذي يقوم به نوري المالكي تجاه الكرد، وكذلك المرونة التي حكمت سلوك العبادي مؤخرا.

فقبل أسابيع قليلة فقط؛ كان المالكي يصف الكرد وتحديدا الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزاني بأبشع الصفات والتُّهم، وكان أقلها تهمة التحالف مع تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، والمؤامرة ضد العراق، والعمل لصالح المشروع الإسرائيلي/الأميركي ضد "محور المقاومة".

العبادي -الذي أرسل قواته إلى كركوك لانتزاعها من قوات البشمركة الكردية، ثم وضَع سلسلة شروط تعجيزية للحوار مع أربيل- بات يستقبل وفودا كردية ببغداد، ويبدي استعداده لدفع رواتب موظفي الإقليم بعد تقديم قائمة بأسمائهم، وكأن المشكلة كانت في القائمة! فيما السبب الأساسي هو البحث عن تحالف يحقق له الأغلبية في البرلمان تطلعا إلى ولاية ثانية

لكن اليوم -ومع إحساس المالكي بصعود نجم منافسه العبادي على وقع معركة الموصل وواقعة السيطرة على كركوك- نجد خطابا مختلفا لدى المالكي؛ فالرجل ظهر قبل فترة على قناة "روداو" الكردية التي تتبع لرئيس حكومة إقليم كردستان نيجيرفان البارزاني، وبدأ يتحدث عن "الإخوة الكرد" وعن ضرورة دفع كامل المستحقات المالية للإقليم.

وأضاف المالكي -في مقابلته مع قناة روداو- أن "الكرد سيعودون شركاء وإخوانا في العراق". وفي انتقاد ضمني لمنافسه العبادي، أكد أن "معاقبة الشعب الكردي لنيل أصوات أكثر في الانتخابات منطق معيب، وغير جائز من الناحية الأخلاقية والوطنية والشرعية". لكن المالكي نفسه اتخذ خلال فترة حكمه (2006-2014) مواقف متشددة من الكرد وأوقف دعم المستحقات المالية للإقليم، بل وهددهم مرارا بالمواجهة العسكرية!

والواقع أنه إذا كان المالكي اتجه إلى التقرب من الكرد ومغازلتهم من بوابة توتر علاقتهم مع العبادي، فإن تحركه هذا نبّه العبادي إلى أهمية مغازلة الكرد أيضا.

وعليه؛ فإن العبادي -الذي أرسل قواته إلى كركوك لانتزاعها من قوات البشمركةالكردية، ثم وضَع سلسلة شروط تعجيزية للحوار مع أربيل- التقى عدة وفود كردية ببغداد، توّجها باستقباله رئيس حكومة كردستان نيجيرفان البارزاني (يوم 20 يناير/كانون الثاني) في زيارة لم يُعلن عنها، وهي الأولى من نوعها منذ نشوء أزمة الاستفتاء الكردي.

ويبدي العبادي استعداده لدفع رواتب موظفي الإقليم بعد تقديم قائمة بأسمائهم، وكأن المشكلة كانت في القائمة! فيما السبب الأساسي هو البحث عن تحالف يحقق له الأغلبية في البرلمان تطلعا إلى ولاية ثانية.

وفي المقابل؛ فإن -الكرد الذين كانت علاقتهم سيئة جدا بالمالكي، ويعتبرون أن سياسته كانت هي السبب الرئيسي في تفاقم أزمات الإقليم- وجدوا في تقربه منهم فرصة لوضع قواعد جديدة لإدارة الأزمة مع بغداد، خاصة وأنهم أصيبوا بحالة من الإحباط من سياسة العبادي وشروطه التعجيزية.

وهكذا؛ فإن محاولة المالكي التقرب من الكرد واستغلال أربيل هذه المحاولة تحولا إلى ما يشبه فرصة أمام الكرد لدفع العبادي إلى مراجعة سياسته، أو على الأقل طريقة إدارته للأزمة مع أربيل، عبر تذويب جبل الجليد بينهما.

ومع أنه لم يقع اختراق حقيقي -حتى الآن- في اللقاءات التي جرت بين الوفود الكردية والحكومة العراقية، إلا أنه من الواضح أن العامل الانتخابي بات يشكّل قوة دفع حقيقية للتوصل إلى تسوية مقبولة للأزمة، وإعادة صياغة العلاقة بين بغداد وأربيل.

فالأنظار الآن تتجه إلى جهود الرئيس معصوم لترتيب الحوار بين الجانبين برعاية الأمم المتحدة، بالتوازي مع إعلان تركيا استعدادها للقيام بوساطة بين الطرفين. ولعل ما قد يقرب هذه المحاولات من النجاح هو تراجع حدة التصريحات لصالح التهدئة، حيث تشكل البوصلة الانتخابية جسرا لتحقيق تطورات مهمة في هذا المسار خلال الفترة المقبلة.

انقسامات وتحالفات
ومن مفارقات ما سبق، أن المنافسة بين العبادي والمالكي على التحالف مع الكرد تحولت إلى الضرب المتبادل من تحت الطاولة؛ فالعبادي لا يترك مناسبة إلا وحمّل فيها المالكي مسؤولية أخطاء المرحلة السابقة، وكأنه يقول -بطريقة غير مباشرة- إن المالكي كان وراء ما جرى بالموصل من سيطرة "داعش" عليها. والمالكي بدوره يستغل كل مناسبة لاتهام العبادي بأنه المشكلة.

بغض النظر عن مآل التنافس بين العبادي والمالكي على التحالف مع الكرد؛ فإنه مع اقتراب موعد الانتخابات قد نجد انشطارا في حزب الدعوة الشيعي، مقابل انشطار أكبر لدى الأحزاب الكردية، إذ ثمة سيناريو بدأ يلوح في الأفق سيسفر عن قائمة للمالكي تتحالف مع حزب البارزاني، وأخرى للعبادي تتحالف مع أحزاب السليمانية

ومع أن ثمة من يرى أن هذه الاتهامات المتبادلة بين العبادي والمالكي أمر عادي ويندرج في إطار الخصومة الانتخابية، وأنه في العمق لدى كل طرف قناعة ثابتة بأنه لا يستطيع إلغاء الآخر، وربما يحس بأهميته إذا وصل الأمر إلى التفكير في المكونات الشيعية الأخرى، ولا سيما التيار الصدري.

ذلك أن ثمة من يرى أن تطلع المالكي لولاية ثالثة وعدم قدرته على تصور نفسه خارج السلطة، مقابل تطلع العبادي لولاية ثانية؛ كفيلان بدفع الأزمة مع أربيل نحو الحلحلة، وأن طريق ذلك يمر بالتحالف مع الكرد ولو بصيغة مختلفة عن التحالف الشيعي/الكردستاني السابق، خاصة أن المالكي قد لا يجد قوى لها شعبية يمكنه التحالف معها في الساحة الشيعية، في ظل خصوماته السياسية الكثيرة. 

إذا كان التنافس بين العبادي والمالكي تحول إلى انقسام كبير في حزب الدعوة، فإن الانقسامات الكردية تترسخ على وقع هذا الانقسام الشيعي؛ إذ يبدو أن في الأفق تحالفا قادما بين المالكي والحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة البارزاني.

وفي مقابل هذا الفريق؛ هناك تحالف بين العبادي والأحزاب التي تتخذ من السليمانية مقرا لها، أي الاتحاد الوطني الكردستاني وحركة التغيير وتحالف الديمقراطية والعدالة بزعامة برهم صالح. وهو ما يرسم صورة جديدة للتحالفات الانتخابية وسط توقعات بألّا يحصل أي حزب أو تحالف على الأغلبية.

وفي الواقع، وبغض النظر عن مآل التنافس بين العبادي والمالكي على التحالف مع الكرد؛ فإنه مع اقتراب موعد الانتخابات قد نجد انشطارا في حزب الدعوة الشيعي، مقابل انشطار أكبر لدى الأحزاب الكردية، إذ ثمة سيناريو بدأ يلوح في الأفق سيسفر عن قائمة للمالكي تتحالف مع حزب البارزاني، وأخرى للعبادي تتحالف مع أحزاب السليمانية.

فالمالكي يريد ولاية ثالثة بأي ثمن، ومثله يريد العبادي ولاية ثانية، فيما الانقسام الكردي يعكس صورة الحياة الحزبية في كردستان. إنها صورة للوحدة والانقسام في العراق، إنها المعادلة الجديدة لعلاقة إقليم كردستان ببغداد؛ وهي معادلة قد تطيح بالتوافقات التي حصرت رئاسة الجمهورية في الكرد والحكومة في الشيعة والبرلمان في السُّنة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.