حصار قطر.. أزمة أمة في مئة يوم

A handout picture made available by the Office of the Egyptian President shows the Saudi Deputy Crown Prince, second Deputy Premier and Minister of Defense, Mohammed bin Salman (L), sitting with the Egyptian President, Abdel Fattah al-Sisi (R), during a graduation ceremony of a Military Academy, in Cairo, Egypt, 30 July 2015. According to reports bin Salman is visiting Egypt to discuss aspects of cooperation between the two countries. Saudi Arabia, along with other Gulf states, has lent billions in aid to Egypt, which is a member of the Saudi led military coalition that has been carrying out airstrikes in Yemen since 25 March 2015. EPA/OFFICE OF THE EGYPTIAN PRESIDENT / HANDOUT

كان قرار حصار دولة قطر -الذي اتخذته الإمارات والسعودية والدول التابعة لهما- قرارا خطيرا في كامل أبعاده السياسية والأيديولوجية والاجتماعية، في سابقة خطيرة سجلتها دول المنطقة على نفسها وفي إقليمها المتوتر أصلا؛ مما جعل الأزمة الخليجية تأخذ أبعادا أعمق بكثير من كونها مجرد خلافات في وجهات النظر.

قد لا نختلف كثيرا في أن كل الدول تناور في بعض المجالات التنافسية، وقد نعتبر ذلك أمرا صحيا إذا نظرنا إلى بعض الأمثلة في دول الاتحاد الأوروبي، كالمنافسة الموجودة بين فرنسا وألمانيا مثلا أو بين الدول الإسكندنافية.

إلا أن الأزمة الخليجية لا تندرج ضمن هذا الإطار، بل هي أزمة فكر سياسي لدى بعض الأنظمة العربية الخليجية التي اختارت إرادة قهر الشعوب على إرادة الحياة لشعوبها وأمنها، والسؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا عوقبت قطر وليس غيرها؟

يجدر بنا أن نهتم بالتركيبة السياسية لمجلس التعاون الخليجي الذي يمثل البرلمان المصغر لدول المنطقة، وتجتمع فيها عدة قواسم سياسية واجتماعية، فقد كان هذا الإطار الكونفدرالي إطارا لتسوية النزاعات والاتفاق على إستراتيجيات تجمع أطرافه على المتفق عليه وتترك الخلافات.

في السنوات الأخيرة أصبح مجلس التعاون الخليجي غير قادر على استيعاب هذا الخلاف المتنامي بين دول المنطقة في الرؤية السياسية، وعبرت فيه بعض الدول كالسعودية والإمارات عن تباين أيديولوجي واضح مع السياسة التي اتخذتها دولة قطر تجاه أهم الأحداث التي عاشها الوطن العربي في السنوات الأخيرة، وأهمها قضية الربيع العربي وأزمة الأنظمة مع شعوبها

إلا أنه في السنوات الأخيرة أصبح هذا المجلس غير قادر على استيعاب هذا الخلاف المتنامي بين دول المنطقة في الرؤية السياسية، وعبرت فيه بعض الدول كالسعودية والإمارات عن تباين أيديولوجي واضح مع السياسة التي اتخذتها دولة قطر تجاه أهم الأحداث التي عاشها الوطن العربي في السنوات الأخيرة، وأهمها قضية الربيع العربي وأزمة الأنظمة مع شعوبها في قضايا حقوق الإنسان وحرية التعبير والصحافة.

هذا فضلاً عن التضايق من موقف السياسة المستقلة لصانع القرار القطري، وعدم فهم أبعاد الإصلاح في الفكر السياسي القطري الذي بدأ في التبلور منذ عام 1995، أي تحديدا منذ تولي الأمير السابق الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني مقاليد السلطة في دولة قطر؛ فقد كان هذا إيذانا بتغير الخريطة السياسية في المنطقة، وفرض فكر الإصلاح بمفهومه وواجهته الإعلامية بظهور قناة الجزيرة عام 1996، وما مثلته من ثورة ثقافية طالت الفكر والإعلام في العالم العربي.

نعم، لقد شخّص ظهور قناة الجزيرة علل وأمراض النسيج السياسي والاجتماعي للوطن العربي، وفضح اهتراء الطلاء الخارجي الذي كانت تتباهى به نخب فكرية قريبة من أنظمة الحكم العربية، وتكلس صانع القرار السياسي في الوطن العربي الذي لم يفهم أن العالم قد تغير.

كانت ثورات الربيع العربي نتاجا لسياسة القمع والاستبداد السياسي الذي فتك بالحريات السياسية وبكل الحريات، ولم يفهم النظام العربي القديم أن الانتخابات التي جاءت -بعد الربيع العربي- بنخب سياسية جديدة هي نتاج لاختيار الشعوب، وليست انقلابات عسكرية وأمنية.

اصطفت الإمارات والسعودية مع خندق الثورة المضادة وفلول النظام القديم في تحدٍّ سافر لنهضة الأمة والشعوب العربية، ولم تفهم أن التغيير من السنن الكونية التي لا يمكن التصدي لها، وكان هذا بدايةً ما جعل صانع القرار السياسي في دولة قطر يتفوق -في فهمه للمتغيرات السياسية والإستراتيجية في المنطقة- على سائر ما تبقى من المنظومة البالية للنظام العربي القديم، فأخذ طريق الإصلاح بدلا من محاربته.

وقد أسس للقرار الخطير بمحاصرة قطر واتخاذ إجراءات عقابية ضدها أن صانع القرار في الإمارات والسعودية لم يفهم أن فلسفة الإصلاح في نظامه السياسي لا تعني البتة تهديد أسس نظامه السياسي، بل هي تجديد لمنظومة الفكر السياسي لهذه الأنظمة التي قد تواجه خطر الانفراط إذا لم تستوعب متطلبات المرحلة، ولنا في التجربة الإيرانية على علاتها خير دليل على قدرة هذا النظام على أن يجدد نفسه، رغم العداء الظاهري المعلن من الغرب والولايات المتحدة.

لقد أبانت أزمة الخليج وحصار قطر أن صانع القرار القطري نجح في إدارة معركة الإصلاح، وفي تبني صحوة الشعوب العربية وقضاياها وفضح بمواقفه من حاصره. وقد لا يكون هذا كافيا بالنسبة لموقف دول الحصار الذي يبدو أنه مستعد للتضحية بمنظومة مجلس التعاون الخليجي، حتى ولو خسر التوازن الإستراتيجي لهذا المجلس؛ رغم وساطة الكويت.

وواضح أيضا أنه ليس من صالح دول الخليج -كمنظومة اجتماعية وسياسية متجانسة- أن يختل التوازن في البيت الخليجي، فيتحول إلى منظومة سياسية ترتكز على الإملاءات وتدمير سيادة دول المنطقة.

ولن يكون هذا في صالح استقرار المنطقة ولا مؤسسة التعاون الخليجي التي تعتبر -على الأقل مقارنة ببعض المؤسسات الإقليمية الأخرى بما فيها الجامعة العربية– أحسن حالا، نظرا لديمومة سعيها نحو التكامل وتعزيز العمل الخليجي السياسي والاقتصادي الذي كان حتى قبيل الأزمة مطلبا ملحا لشعوب المنطقة.

قد يتبادر إلى أذهان البعض أن الأزمة الخليجية ليست في طريقها للحل نظرا للتباين الحاد الذي شكله هذا الخلاف السياسي، ولخطورة مواقف دول الحصار التي لوّحت بالتدخل العسكري في قطر، وهذا في عرف العلاقات الدولية -وفي منطقة حساسة من العالم كمنطقة الخليج- يعد أمرا مرفوضا جملة وتفصيلا، لما يسببه من مساس بالتوازن الإستراتيجي للمنطقة لصالح طرف دون آخر

هذه المحاذير المطروحة تهدد فعليا مسيرة البيت الخليجي، وقد تفرض على بعض دوله -بما فيها قطر- تأسيس أو إعادة هيكلة منظومة خليجية أخرى قد تنخرط فيها الكويت وسلطنة عمان، وربما يكون فيها اليمن الجديد ضمن مسعى لتطويق إستراتيجي لدول الحصار.

قد يتبادر إلى أذهان البعض أن الأزمة الخليجية ليست في طريقها للحل نظرا للتباين الحاد الذي شكله هذا الخلاف السياسي، ولخطورة مواقف دول الحصار التي لوّحت بالتدخل العسكري في قطر، وهذا في عرف العلاقات الدولية -وفي منطقة حساسة من العالم كمنطقة الخليج- يعد أمرا مرفوضا جملة وتفصيلا، لما يسببه من مساس بالتوازن الإستراتيجي للمنطقة لصالح طرف دون آخر، قد لا يقبل به الغرب وحتى دول المنطقة كإيران وروسيا.

لا بديل إذن لحل الأزمة إلا بالرجوع إلى طاولة الحوار، وهو الموقف الذي أكدته دولة قطر بشروط واقعية ومنطقية تأخذ بعين الاعتبار احترام سيادة الدول وسيادة قرارها.

وهذا -في تصوري- يصب في صالح كل الأطراف بما فيها الطرف السعودي الذي وإن لم يبدِ اهتماما بهذه الصيغة التوافقية لحل الأزمة؛ إلا أنه يبحث عن مخرج سياسي ودبلوماسي لهذه الأزمة بسبب قضايا الداخل السعودي وحرب اليمن، خاصة إثر نجاح إستراتيجية صانع القرار القطري في إدارة لعبة العلاقات العامة مع كل الأطراف الدولية التي يهمها حل الأزمة الخليجية.

يبقى إذن الموقف الإماراتي المتطرف والذي ابتعد عن لغة العقل في إدارة الشأن السياسي الدولي والخليجي، وهو بهذه الصيغة يخرب كل الفرص التي قد تلوح في المستقبل، ويؤكد كذلك فشل القيادة الإماراتية في ربح القلوب نظرا لمواقفها المعادية لتطلعات الشعوب العربية، وتجفيف منابع آمال الربيع العربي، مما خلّف لصانع القرار الإماراتي كراهية وحقدا على دولة كان مؤسسها الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان (رحمه الله) من أشرف الزعماء العرب.

وهذا يحيلنا إلى ضيق أفق القيادة الإماراتية أمام متغيرات سياسية تحتاج إلى فهم دقيق لخصائصها. إن سياسة إنفاق الأموال لتدمير الشعوب وتشويه سمعة بلدان شقيقة في مؤتمرات سخيفة صيغٌ سياسية بالية، ولم تعد قادرة على إقناع الغرب والرأي العام العربي.

إن المضي في اختلاق معارضين للسياسة القطرية وتأجيج دعاوى الإرهاب الفجة أصبح مدعاة للسخرية في كبريات دوائر صنع القرار السياسي في الغرب، وقد يفرض هذا على الغرب التدخل المباشر لحل أزمة الخليج إذا لم تنجح الوساطات المحلية، وذلك حفاظا على التوازن الإقليمي وتدفق النفط بأسعار معقولة.

فالموقف الأميركي كان في البداية -على مستوى البيت الأبيض- متعاطفا مع وجهة النظر السعودية، إلا أن تقييم الموقف المتزن لدى وزارتيْ الخارجية والدفاع الأميركيتيْن فرض على الرئيس دونالد ترمب تعديل موقفه، والرجوع إلى دور الوسيط النزيه لحل الأزمة.

أما الموقف الأوروبي فلا يبدو أنه مقتنع بادعاءات السعودية والإمارات؛ فالسجل الحقوقي لهذه الأخيرة قد يفرض على دول الاتحاد الأوروبي موقفا متوازنا وحيادا إيجابيا، وهذا قد يكون لصالح قطر في معركة التموقع ضمن معادلة العلاقات الدولية.

إن المضي في اختلاق معارضين للسياسة القطرية وتأجيج دعاوى الإرهاب الفجة أصبح مدعاة للسخرية في كبريات دوائر صنع القرار السياسي في الغرب، وقد يفرض هذا على الغرب التدخل المباشر لحل أزمة الخليج إذا لم تنجح الوساطات المحلية، وذلك حفاظا على التوازن الإقليمي وتدفق النفط بأسعار معقولة

يجدر بنا ألا ننسى دور دول المنطقة المساهمة في حل الأزمة؛ كالدور التركي الهام الذي أعطى لصانع القرار القطري نوعا من الأريحية عندما أرسل في بداية الأزمة قواتٍ معتبرة من الجيش التركي، حين كان سيناريو التدخل العسكري حاضرا ضمن الخيارات التي كانت مطروحة في أجندة دول الحصار.

وقد دعم هذا الموقف التركي الشريف فكرة الحلف التركي/القطري، وهو حلف إستراتيجي يسانده تيار كبير من الأمة ومن شعوب دول الربيع العربي، ولم تكن محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا بعيدة عن مخططات الرياض وأبو ظبي المضادة لثورات الشعوب.

ويبقى الموقف الإيراني الذي قد يكون إحدى أوراق التخويف والضغط ولكن في حدود ضيقة. لقد نجحت إيران للأسف في إدارة المناورة الإستراتيجية بالمنطقة، بعد أن كانت طرفا مغضوبا عليه لتدخلها السافر في المنطقة من الثورة السورية إلى حرب اليمن.

وهذا يجعلنا نستغرب ضيق الأفق الإستراتيجي لدى صانع القرار في الرياض وأبو ظبي الذي جعله يهدم بيته الخليجي، مما أضعف الرصيد الإستراتيجي السُّني القادر على أن يحقق الأمن لدول المنطقة، وهذا -في حد ذاته- يعدّ في عرف السياسة انتحارا.

ماذا بقي إذن من بديل سياسي لدول المنطقة في ظل تعنت المحور السعودي الإماراتي في محاربة وإبعاد التيار السُّني المعتدل المتمثل في الإسلام السياسي، وعلى رأسه جماعة الإخوان المسلمين والمثقفون المعتدلون داخل الإمارات والسعودية؛ فسياسة الأرض المحروقة التي تتبعها -إلى حد الآن- دول الحصار أضعفت جهود محاربة الإرهاب بكل صيغه، وهو أمر غير مفيد للمنطقة ولا للوطن العربي والإسلامي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.