النظام السوري والكرد.. صدام أم توافق؟
التحالف الوظيفي إلى أين؟
تحولات على وقع الميدان
الامتحان الأصعب للطرفين
مع تسابق قوات النظام السوري وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) إلى السيطرة على دير الزور تحت شعار واحد هو استعادة المدينة من تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)؛ ثمة سؤال جوهري يطرح نفسه هو: كيف سيكون شكل العلاقة بينهما في اليوم التالي لاستعادة المدينة؟
لعل السؤال السابق يشكل الامتحان الأصعب لعلاقة الطرفين التي طالما ظلت في إشكالية تتراوح بين الدور الوظيفي لها في سياق مراحل الأزمة السورية، وبين وجود مشروعين متناقضين على أرض الواقع لاختلاف رؤية كل طرف لمستقبل البلاد، ولا سيما في ظل إصرار الكرد على الفدرالية كنظام للحكم ورفض النظام والمعارضة معا لذلك.
التحالف الوظيفي إلى أين؟
منذ البداية، بدا وكأن ثمة تفاهم بين النظام السوري والكرد، وبشكل أدق حزب الاتحاد الديمقراطي وجناحه العسكري وحدات حماية الشعب ولاحقا قوات سورية الديمقراطية.
فعلى وقع اشتداد المعارك في حلب وحمص والجنوب؛ سحب النظام قواته من المناطق الكردية بغية التفرغ لهذه المعارك، فتسلمها حزب الاتحاد الديمقراطي وسارع إلى تشكيل إدارة ذاتية أنيطت بها مهمة إدارة العلاقات بين مكوناتها، وفق خطاب تجاوز البعد القومي إلى تنظيم كافة المكونات الاجتماعية في معركة حملت شعار مكافحة الإرهاب.
تفرغ النظام لمحاربة الفصائل المسلحة التي رفعت شعار إسقاطه وتغاضى عن "الخطر الكردي" مرحليا في إطار إستراتيجية بعيدة المدى تبقي على النظام، بينما تفرغ الكرد لمحاربة "داعش" فكانت المحطة الأهم في هذا السياق هي معركة كوباني التي نقلت الكرد إلى مرحلة جديدة على صعيد التحالفات |
وهكذا تفرغ النظام لمحاربة الفصائل المسلحة التي رفعت شعار إسقاطه وتغاضى عن "الخطر الكردي" مرحليا في إطار إستراتيجية بعيدة المدى تبقي على النظام، بينما تفرغ الكرد لمحاربة "داعش" فكانت المحطة الأهم في هذا السياق هي معركة كوباني التي نقلت الكرد إلى مرحلة جديدة على صعيد التحالفات.
فقد كانت هذه المعركة بداية افتراق سياسي بين الكرد والنظام لصالح دخول الكرد في تحالف مع الولايات المتحدة الأميركية التي وجدت فيهم حليفا موثوقا به لمحاربة "داعش"، وترسيخ نفوذ واشنطن داخل الساحة السورية في إطار الصراع مع الروس على النفوذ وأوراق القوة، لا سيما بعد التدخل العسكري الروسي في سوريا.
وعلى وقع هذه التطورات؛ بدا أن العلاقة الأمنية السابقة لم تعد قادرة على تأطير الجوانب الأمنية والعسكرية والسياسية والاقتصادية للعلاقة، خاصة أن الكرد اتجهوا -بجانب تحالفهم مع أميركا- إلى نسج العلاقات مع الروس والأوروبيين وغيرهم، كما بدأت أذرعهم العسكرية في الصعود دون الصدام مع النظام إلا في حدود معينة.
وهكذا حملت العلاقة الوظيفية السابقة بداخلها مشروعين متناقضين، وبات كل طرف ينظر إلى الآخر بوصفه مصدر خطر على مشروعه المستقبلي ما لم تحدث تطورات سياسية خارج المألوف؛ فالنظام يجد اليوم نفسه أمام واقع كيان كردي من الصعب عليه القبول به لأسباب أيديولوجية وسياسية، ومخاوف مستقبلية من ولادة دولة كردية مستقلة في المنطقة، ولا سيما في ظل إصرار كرد العراق على استفتاء يحدد مصير الإقليم بالاستقلال.
وفي المقابل، فإن حزب الاتحاد الديمقراطي -الذي يجيد بناء التحالفات والدخول في المحاور مع خوض القتال عبر جناحه العسكري- يجد أنه من المستحيل العودة إلى المرحلة السابقة، وأن سوريا المستقبل لا يمكن أن تكون دولة مركزية، وبالتالي لا تَراجع عن مطالبته بالنظام الفدرالي بوصفه الأنسب لإدارة الحكم في البلاد.
تحولات على وقع الميدان
في الواقع، يمكن القول إن التطورات الميدانية أفرزت واقعا جديدا في العلاقات بين النظام والكرد على شكل افتراق في الأهداف وتضارب في الأولويات؛ فسيطرة النظام على حلب مكنته لاحقا من التوجه نحو الحدود الأردنية والعراقية بدعم من روسيا وإيران وحزب الله.
وعلى وقع هذا التقدم بات النظام يعتقد أن باستطاعته استعادة السيطرة على كافة المناطق التي خسرها بما في ذلك المناطق التي سيطر عليها الكرد، خاصة أن اتفاقات وقف إطلاق النارالتي تتم بين الروس والأميركيين تمنحه إمكانية مواصلة عملياته العسكرية باسم مكافحة الإرهاب.
بالنسبة للنظام تبقى قوات "قسد" ممثلا لمجموعة قومية مختلفة لها مطالب تثير مخاوف مستقبلية خاصة في ظل التواصل الكردي خارج الحدود، كما أن تحالف الكرد مع واشنطن يثير مخاوفه من وجود أميركي طويل الأمد في شمال شرقي البلاد، خاصة أن الإدارة الأميركية أقامت العديد من القواعد والمراكز العسكرية في هذه المناطق |
وفي المقابل، فإن قوات سوريا الديمقراطية سيطرت -بدعم أميركي مباشر- على العديد من المناطق الشمالية والشرقية، ونجحت في ربط هذه المناطق جغرافياً على شكل كيان يتشكل خطوة خطوة، وهو الأمر الذي هيأ لها الأرضية لخوض معركة الرقة ومن ثم إعلان معركة الريف الشرقي الجنوبي لمحافظة دير الزور، انطلاقا من بلدة الشدادة التي كانت معقلا لـ"داعش" في محافظة الحسكة.
ولعل السمة البارزة لهذه التطورات كانت سرعة وصول إلى ضفاف الفرات من جهة، ومن جهة ثانية بروز محورين متناقضين بشكل واضح هما: النظام في المحور الروسي/الإيراني، والكرد في المحور الأميركي. ويتصارع المحوران على منطقتيْ نفوذ، حيث يسعى كل طرف إلى بسط سيطرته على أوسع منطقة جغرافية ممكنة، ومنع الطرف الآخر من التمدد وقطع الطريق أمامه مستقبلا إذا ما قرر ذلك.
ولبلوغ العلاقة بين الجانبين هذا المستوى من الحساسية مجموعة من الأسباب المتداخلة؛ فبالنسبة للنظام تبقى قوات "قسد" ممثلا لمجموعة قومية مختلفة لها مطالب تثير مخاوف مستقبلية خاصة في ظل التواصل الكردي خارج الحدود، كما أن تحالف الكرد مع واشنطن يثير مخاوفه من وجود أميركي طويل الأمد في شمال شرقي البلاد، خاصة أن الإدارة الأميركية أقامت العديد من القواعد والمراكز العسكرية في هذه المناطق.
وفي النهاية يعتقد النظام أن ما جرى على صعيد العلاقة مع الكرد -ولا سيما في البداية- كان بتخطيط منه، وأنه يستطيع إعادة الأمور إلى ما كانت عليها حال الانتهاء من الفصائل المسلحة المطالبة بإسقاطه. ولعل هذا ما يفسر وصف فيصل المقداد (نائب وزير الخارجية السوري) قبل فترة هذا الوضع بالمزحة، وذلك عند سؤاله عن الانتخابات التي ينوي الكرد تنظيمها في مناطق سيطرتهم.
أما الكرد فإنهم -وانطلاقا من عناصر القوة التي امتلكوها وتحالفهم مع الإدارة الأميركية وجملة المعادلات التي تؤثر في الأزمة السورية- باتوا يعتقدون أن النظام لم يعد قادرا على فرض شروطه عليهم، وأنه لا مجال للعودة إلى الوراء، دون أن يعني ما سبق عدم حرصهم على تجنب الصدام مع النظام.
الامتحان الأصعب للطرفين
مع تسابق النظام والكرد إلى السيطرة على أكبر مساحة من محافظة دير الزور؛ ثمة ملامح مرحلة فاصلة ترسم على ضفاف الفرات على شكل امتحان سيكون الأصعب لعلاقة الطرفين، ولعل السؤال الملح هنا يتعلق بالسيناريو الذي سينطلق في اليوم التالي لتحرير المدينة من "داعش". وإلى حين قدوم تلك اللحظة؛ يجري الحديث عن جملة سيناريوهات لعل أهمها:
1- سيناريو الصدام: وينطلق أصحاب هذا الرأي من أن النظام بات -بدعم من حليفيه الروسي والإيراني- يتحدث ويتصرف بمنطق المنتصر، فيؤكد أنه لن يتوقف عند حدود دير الزور بعد السيطرة عليها وإنما سيتجاوز نهر الفرات ليتجه شرقا، حتى ولو أدى ذلك إلى صدام مع قوات "قسد".
إذا كانت محافظة دير الزور تشكل امتحان العلاقة بين النظام والكرد فإن العامل الذي يعمل عليه كل طرف لفرض موقفه هو المكوِّن العربي في هذه المنطقة، وعليه يمكن فهم السعي النظام الحثيث إلى تشكيل جبهة من القبائل العربية لمواجهة التطلع الكردي وخرق البنية الاجتماعية لمناطق الإدارة الذاتية |
وذلك في ظل اعتقاده أن الإدارة الأميركية -التي رفعت شعار أولوية محاربة "داعش" دون إسقاط النظام- ستراجع حساباتها الكردية، على وقع نتائج معركة الرقة والحسابات الإقليمية المرتبطة بالحليف التركي، وأن الوهم الذي امتطاه الكرد سينقلب عليهم ما لم يعودوا عنه. ومثل هذا السيناريو يعني مواجهة حتمية سيخوضها الكرد الذين لن يجدوا ما يخسرونه في معركة وجودهم القومي.
2- سيناريو التوافق: ويستمد هذا السيناريو مشروعيته من أن اللاعبيْن الأميركي والروسي لن يسمحا بالصدام، وأن هناك مساحة كبيرة للتفاهم في إطار جديد لتوزيع الأدوار ومناطق النفوذ والسيطرة، خاصة أن مثل هذا التوجه ينسجم مع مجمل السلوك الأميركي والروسي في مراحل الأزمة السورية.
ويقوم هذا السيناريو أساسا على شكل الحل السياسي الذي ينتظر الأزمة السورية، وهو في عناوينه العامة يقوم على إيجاد حكم لا مركزي يسمح للإدارات الذاتية بشكل من أشكال الحكم المحلي، وهو ما سيضمن للكرد إطارا من المشاركة المحلية في الحكم. لكن مثل هذا السيناريو لا ينفي إمكانية حصول مواجهات محدودة في مناطق حساسة بغية تعزيز النفوذ والدور.
وفي الواقع، إذا كانت محافظة دير الزور تشكل امتحان العلاقة بينهما فإن العامل الذي يعمل عليه كل طرف لفرض موقفه هو المكوِّن العربي في هذه المنطقة، وعليه يمكن فهم السعي النظام الحثيث إلى تشكيل جبهة من القبائل العربية لمواجهة التطلع الكردي وخرق البنية الاجتماعية لمناطق الإدارة الذاتية.
وفي الوقت نفسه؛ يسارع الكرد إلى فرض الوقائع وخلق معطيات جديدة على الأرض عبر تشكيل مجالس عسكرية ومدنية في المناطق التي يسيطرون عليها، تطلعا إلى تجيير التطورات لصالحهم في المستقبل.
ومن دون شك، فإن العلاقة بين النظام والكرد دخلت مرحلة حساسة يبدو أن سيناريو كل من الصدام والتوافق حاضر فيها بقوة، ولا سيما في ظل توجه الكرد إلى اتخاذ مجموعة من الخطوات التي تعزز المزيد من الانفكاك عن النظام، وفي مقدمة هذه الخطوات سلسلة الانتخابات التي تعتزم الإدارة الذاتية إجراءها في الأسابيع والأشهر المقبلة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.