ترمب جديد
من المتفق عليه عموما في واشنطن العاصمة أن رئاسة دونالد ترمب تدخل مرحلة جديدة. ولكن تعريف هذه المرحلة على وجه التحديد أمر مُعضِل وملتبِس. كان من المتوقع -على نطاق واسع- أن يؤدي إبعاد ستيف بانون (كبير مستشاري البيت الأبيض السابق والمجسّد للقومية الأميركية البيضاء) إلى جعل الإدارة تجري بقدر أكبر من السلاسة، وتخفيف حِدة الاقتتال الداخلي (وإن لم يكن القضاء عليه)، وتقليل عدد التسريبات.
وربما أصبحت الحرب الداخلية أكثر هدوءاً منذ تولي جون كيلي منصب كبير الموظفين في البيت الأبيض، وفَرَض المزيد من النظام في الجناح الغربي. ولكن ما دام ترمب رئيسا، فلن يكون النظام هو السمة الرئيسية للبيت الأبيض. والواقع أن ترمب لا يزال على اتصال دائم مع بانون الذي عاد إلى تولي المسؤولية في "بريتبارت نيوز".
المشكلة أن ترمب يحب الفوضى؛ وهكذا كان يدير أعماله، وهو لا يحب أن يسوسه أحد. وكان يحب السماح لأشخاص مفضلين بالدخول إلى مكتبه وقتما شاؤوا، وعقيدته الإدارية تتلخص في تأليب الناس على بعضهم بعضا. وهو لا يكلف نفسه عناء السيطرة على انفعالاته عندما يتعامل مع مساعديه |
كان من المحتم -بحلول أوائل سبتمبر/أيلول الجاري- بعد مرور خمسة أسابيع كاملة على وجود كيلي في منصبه؛ أن يُبدي ترمب الانزعاج بسبب القيود التي فرضها رئيس هيئة العاملين لديه.
والواقع أن كيلي فرض ضوابط مشددة على عملية اختيار من يدخل المكتب البيضوي، وهو يتنصت على أغلب مكالمات ترمب الهاتفية خلال ساعات العمل، وهو من يقرر أي قطعة من الورق تصل إلى مكتب الرئيس، مما يزيل الخُطب المطولة المفرطة في الإيديولوجية التي تعود بعض الموظفين على تمريرها إليه خلسة.
والمشكلة أن ترمب يحب الفوضى؛ وهكذا كان يدير أعماله، وهو لا يحب أن يسوسه أحد. وكان يحب السماح لأشخاص مفضلين بالدخول إلى مكتبه وقتما شاؤوا، وعقيدته الإدارية تتلخص في تأليب الناس على بعضهم بعضا.
وهو لا يكلف نفسه عناء السيطرة على انفعالاته عندما يتعامل مع مساعديه. وحتى كيلي -وهو جنرال سابق في سلاح البحرية- وقع تحت سياط لسان ترمب. والآن يراهن المراقبون على متى يقرر كيلي أنه نال ما يكفي. إنني لم أعهد البيت الأبيض قَط بهذه الصورة، حيث يعتمد قدر كبير من الأمر على من جلب على نفسه غضب الرئيس.
كان جاري كوهن -وهو رئيس غولدمان ساكس السابق وكبير مراقبي العمليات الذي يشغل منصب المستشار الاقتصادي للرئيس ترمب- آخر المقالين. وكانت الخطيئة التي ارتكبها كوهن أنه أذاع علنا أنه كاد يستقيل في أعقاب أعمال العنف التي اندلعت الشهر الفائت في تشارولت فيل بولاية فرجينيا، عندما ساوى ترمب بين المتظاهرين من المؤمنين بتفوق العِرق الأبيض والنازيين الجدد -الذين كان كثيرون منهم يحملون السلاح- وبين أولئك الذين عارضوهم.
في واقع الأمر، ربما يتعاطف المرء بعض الشيء مع رئيس يريد مساعده أن يلعب على الحبلين كما فعل كوهن؛ فيبدي الألم والأسى دون أن يلحق ذلك بالأفعال. ولكن ربما تنشأ المشاكل عندما يختار الرئيس تجاهل كبير مستشاريه الاقتصاديين. فقد اعتُبِر كوهن واحدا من الأصوات الأكثر اعتدالا في الإدارة، وكان يريد أن يخلف جانيت يلين في وظيفة رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي.
في أوائل الشهر الجاري بلغت التكهنات بشأن إمكانية ظهور "ترمب جديد" ذروتها، عندما أبرم الرئيس اتفاقا مفاجئا مع القادة الديمقراطيين في الكونغرس. فقد اتفق ترمب مع زعيمة الأقلية في مجلس النواب نانسي بيلوسي ونظيرها في مجلس الشيوخ تشاك شومر على كيفية زيادة سقف الدين الفدرالي، الذي يتعين على الكونغرس رفعه كل عام مع زيادة الإنفاق، وتوسيع الاعتمادات للإبقاء على الحكومة عاملة (لأن الكونغرس يفشل بشكل روتيني في تدوين فواتير الاعتمادات في الوقت المحدد).
وكان كل من البندين مربوطا باعتماد خاص في أعقاب إعصار هارفي لتغطية تكاليف جهود إعادة البناء (ولا زلنا في انتظار إعصار إيرماالأكبر). وفي خضم المناقشة خلال اجتماع بالمكتب البيضوي مع بيلوسي وشومر؛ قاطع ترمب وزير الخزانة ستيف منوشين عندما دافع عن موقف الجمهوريين بأن هذه القضايا ينبغي أن تؤجَّل 18 شهرا، أي إلى ما بعد انتخابات الكونغرس عام 2018.
المناقشات المحتدمة بشأن معتقدات ترمب الأساسية -الذي ربما كان ديمقراطياً في السِر، حيث تبرع لمرشحين ديمقراطيين ذات مرة وكان متعاطفا مع مواقف الديمقراطيين (مثل موقفهم من الإجهاض)- أضاعت بيت القصيد. ذلك أن ترمب لا يعتنق فلسفة سياسية بعينها؛ بل هو انتهازي متعطش للدعاية والثناء |
وقد زعم الديمقراطيون أن زيادة سقف الدين وتوسيع الاعتمادات ينبغي أن يدوم ثلاثة أشهر فقط، مما يُجبر الجمهوريين على الإدلاء بأصوات فيها مخاطرة انتخابية قبل انتخابات 2018. قبل الاجتماع، رَفَض رئيس مجلس النواب بول ريان بشدة اقتراح الديمقراطيين، ولكن فجأة -وبدون حتى إخطار مساعديه- تبنى ترمب الاقتراح. وبهذا، قَبِل مؤلف كتاب "فن الصفقات" موقف الديمقراطيين المنفتح.
وذهب المعلقون إلى المبالغة، فأضفوا على الأمر أهمية كبيرة: فالآن لم يعد ترمب جمهوريا بل مستقلا، وربما ينشئ حزبا ثالثا. وكان ذلك التحرك بمثابة بداية طريقة جديدة للحكم. حقيقة الأمر أن ترمب ربما رأى فرصة وانتهزها؛ فمع غياب أي إنجازات تشريعية حقيقية يستطيع أن ينسبها إلى نفسه، يصبح بهذا وكأنه فعل شيئا.
وكان قادة الجمهوريين في الكونغرس وريان وزعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل على خلاف مع ترمب لبعض الوقت، لأنهم كانوا عاجزين عن تنفيذ أجندته التشريعية.
وقد شعر ترمب بالحرج والغضب إزاء فشلهم في إلغاء وإحلال قانون الرعاية الميسرة أو "أوباما كير" (لم يعترف ترمب بمساهماته الخاصة في الكارثة). وفي ما يتصل بالعديد من القضايا، يفتقر ترمب إلى الأغلبية الحاكمة في مجلس الشيوخ. وفي خضم كل هذه الإثارة بشأن اصطفاف ترمب مع الزعماء الديمقراطيين؛ جرى تجاهل حقيقة مفادها أن القضية المطروحة تتعلق بتوقيت التشريع، وليس بجوهره.
والواقع أن المناقشات المحتدمة اللاحقة بشأن معتقدات ترمب الأساسية -الذي ربما كان ديمقراطياً في السِر، حيث تبرع لمرشحين ديمقراطيين ذات مرة وكان متعاطفا مع مواقف الديمقراطيين (مثل موقفهم من الإجهاض)- أضاعت بيت القصيد. ذلك أن ترمب لا يعتنق فلسفة سياسية بعينها؛ بل هو انتهازي متعطش للدعاية والثناء.
بيد أن هذا السلوك الجاحد ربما يتبين أنه ذاتي الدفع؛ فرغم كل احتقاره لوسائل الإعلام "غير الشريفة"، كان ترمب مبتهجا بالتغطية الصحفية الإيجابية التي حظيت بها خطوته الثنائية الحزبية. وربما يغريه هذا فيحاول القيام بتحركات أخرى من نفس القبيل.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.