مشهد "الغيزة" الليبية

فائز السراج وخليفة حفتر والرئيس الفرنسي عقب خروجهم من الاجتماع قرب باريس – صفحة حكومة الوفاق
"الغيزة" في اللهجة الليبية هي كوز الحبوب من القمح أو الشعير الذي ينتج عن الحصاد والدرس، وفصل الحبوب عن التبن وكل الشوائب، فلا يتبقى سوى الحبوب التي تجب لملمة أطرافها المبعثرة لتصبح "غيزة"، وهذا يتم بأكفّ الأيدي التي تقوم بدفع الحبوب المبعثرة نحو بعضها البعض، حتى تأخذ شكل كوز واحد فتصبح "غيزة" قمح أو شعير.

إن ما جعلني أربط بين المشهد الليبي هذه الأيام و"غيزة" الحبوب هو الرأي الذي أبداه لي أحد حكماء البادية حين التقيته منذ أيام، وهؤلاء الحكماء لهم رأيهم في المشهد السياسي الليبي، ولديهم مصطلحاتهم ومفاهيمهم وتشبيهاتهم واستعاراتهم التي ينحتونها من بيئتهم المحيطة بهم، إلى جانب ذكائهم الفطري ودقة ملاحظاتهم وقوة فراستهم.

ولكنهم لا يستخدمون أدوات التحليل ومناهج البحث للوصول إلى النتائج، بل لديهم نظرتهم الثاقبة التي يعبرون عنها في صياغة مختصرة، يستوعب مضمونها المشهد الماثل أمامهم من كل أطرافه.

الوضع الليبي متشظٍّ وعناصره مبعثرة، فهناك ثلاث حكومات وثلاثة مجالس تشريعية، مع ما يقتضيه ذلك من وجود مؤسسات صورية تابعة لها، وكل حكومة منها تدعي السلطة رغم أنها لا تحكم ولا تسيطر، ولكنها -من حيث الشكل- تشغل حيزا يمكن تمييزه في مشهد حبوب "الغيزة" المبعثرة، ولكن الأكثر خطورة من ذلك هو وجود مليشيات وتشكيلات مسلحة

قال لي هذا الحكيم البدوي -معلقا على ما يراه من تداخل الأحداث على مسرح المشهد الليبي- بلهجته العامية: "هذه غيزة إلمّو فيها لكن كثرت عليها ليدين ومرة مرة يتلامسن، ما انظني إلا ينزعو ابركتها"، وهو يعني أن هذا المشهد الذي يراه يشبه "غيزة" تجري لملمة أطرافها بأيدٍ متعددة تتماسّ أحيانا ببعضها البعض، وهو يخشى أن تتبعثر أكثر فلا يبقى منها شيء.

لا شك في أن هذا الوصف القصير المبسط يفتح نافذة على مشهد في حالة حركة ويتميز بعدة ميزات، وهي أنه مبعثر، وفي حالة حركة، وهناك لملمة لأطرافه بواسطة أياد كثيرة، وثمة استعجال وتجاذب للأيدي. ذلك على ما يبدو هو حال المشهد السياسي الليبي في هذه المرحلة، وهو أنه يشبه "الغيزة" من عدة جوانب:

أولا: هو وضع متشظٍّ وعناصره مبعثرة، فهناك في ليبيا ثلاث حكومات وثلاثة مجالس تشريعية، مع ما يقتضيه ذلك من وجود مؤسسات صورية تابعة لها، وكل حكومة منها تدعي السلطة رغم أنها لا تحكم ولا تسيطر، ولكنها -من حيث الشكل- تشغل حيزا يمكن تمييزه في مشهد حبوب "الغيزة" المبعثرة، ولكن الأكثر خطورة من ذلك هو وجود مليشيات وتشكيلات مسلحة، ليس فيها من يستطيع حتى الآن أن يفرض سيطرته على كامل الإقليم.

هذه التشكيلات تشكل -بما يمتلكه كل منها من إمكانيات مهما كانت متواضعة- عقبةً مسلحةً في مواجهة أي جيش وطني يريد أن يفرض هيبة الدولة التي تحدد هوية وشرعية من يحمل السلاح، ومن توكل إليه مهمة تحقيق الأمن وتطبيق القانون.

وما هو أخطر من ذلك هو أن كثيرا من هذه المليشيات والتشكيلات ارتبط بتنظيمات مسلحة عابرة للحدود، مصنفة إرهابية على مستوى العالم مثل تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، فاختلط الحابل المليشياوي المحلي بالنابل الإرهابي العالمي فترتبت على ذلك عدة نتائج منها:

1- أنه على المستوى الوطني الليبي هناك صعوبة في التمييز بين المليشيات المناطقية والعصابات ومن يدّعون أنهم ثوار وبين داعش والقاعدة وبوكو حرام، وغيرها من جماعات المقاتلين الهاربين من العراق والشام ومناطق الصراع الأخرى في العالم.

2- أدى ذلك إلى تحالفات بين كثير من هذه المليشيات والتنظيمات الإرهابية العالمية، فوقع كثير من المليشيات تحت سطوة هذه التنظيمات، نظرا لما تمتلكه من قوة وقدرة على الحركة على خريطة العالم، إلى جانب ما لديها من إمكانيات وخبرات اكتسبتها عبر صراعها المسلح مع قوى دولية لأكثر من عقدين.

هذا الخلط والتحالف يجعل هناك شبه استحالة في التمييز بين هذه الأطراف من قبل القوى التي تحاربها؛ فقد استفادت التنظيمات الإرهابية من هذا الخلط فتدثرت بعباءة المليشيات المحلية، دون أن تفقد هويتها أو تتخلى عن أطروحاتها.

بينما أصبحت هذه المليشيات والعصابات قوة مساندة ورديفة تتخذ لنفسها تسميات تتناغم مع أطروحات داعش والقاعدة، وتتبنى خطابها وتسلك سلوكها وطرقها في القتل والذبح والتمثيل، ولم يعد لها مستقبل منفصل عن مستقبل هذه التنظيمات.

وقد أدى هذا الخلط والتحالف بين التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود وفصائل العنف المحلي إلى تكاثر وتعدد الأيدي حول هذه "الغيزة" الليبية، فهذه التنظيمات تخوض حربا ممتدة عبر القارات مع معظم أمم الأرض ودولها، وبالتالي فإنه من البديهي أن تصبح الأرض الليبية جزءا من ميدان الصراع بين هذه التنظيمات الإرهابية والقوى الدولية، وأن تغدو ساحة للمطاردة والتعقب لكل من ينتمي إلى القاعدة وداعش.

تعارض مصالح وإستراتيجيات بعض القوى الدولية في ليبيا يجعل التنظيمات الإرهابية حليفا ضمنيا أحيانا لهذه القوة الدولية أو تلك، وفي أحيان أخرى تستفيد داعش والقاعدة من أي دعم أو مؤازرة تحظى بها هذه المليشيات والتشكيلات المسلحة المحلية، مهما كانت شدة العداء بين القوة الداعمة وداعش أو القاعدة. فهذه الاستفادة يفرضها منطق الأشياء وطبيعة التحالف

هذا إلى جانب تعارض مصالح وإستراتيجيات بعض هذه القوى الدولية، مما يجعل تلك التنظيمات حليفا ضمنيا أحيانا لهذه القوة الدولية أو تلك، وفي أحيان أخرى تستفيد داعش والقاعدة من أي دعم أو مؤازرة تحظى بها هذه المليشيات والتشكيلات المسلحة المحلية، مهما كانت شدة العداء بين القوة الداعمة وداعش أو القاعدة.

فهذه الاستفادة يفرضها منطق الأشياء وطبيعة التحالف على الأرض بين المليشيات المحلية والتنظيمات الإرهابية، التي هي في الواقع صاحبة الأمر والنهى والمستفيد الأول من أي مدخلات إيجابية تطرأ على أوضاع هذه المليشيات، التي أضحت مجرد عنصر تابع وعباءة محلية يجري توظيفها في تزوير المشهد الحقيقي، وفي خلط الأوراق لكي تزداد ضبابية وتعقيد هذا المشهد.

ثانيا: هناك لملمة لأطراف المشهد؛ وهذا ما أطلق عليه الحكيم البدوي مصطلح "الغيزة" التي يجري تحريك أطرافها نحو بعضها البعض حتى تأخذ شكل "غيزة" حقيقية، فالمشهد الليبي يشهد في هذه المرحلة جهودا ملحوظة على المستوى الدولي والمحلي.

ويمكن أن نلمس ذلك عبر جملة أحداث ومتغيرات، منها لقاء خليفة حفتر وفائز السراج في باريس، وما نتج عنه من بيان وردود أفعال ولقاءات مجلس البرلمان ومجلس الدولة في لاهاي وفي القاهرة، واللقاءات التي تجري بين القبائل والمدن، والدعوة إلى انعقاد مجلس النواب والتصويت على مشروع الدستور من قبل الهيئة التأسيسية.

وكذلك السيطرة على معظم مناطق العاصمة من التشكيلات المحسوبة على المجلس الرئاسي، وتقابلها سيطرة الجيش على مدينة بنغازي والشرق عموما ما عدا مدينة درنة، إلى جانب الموانئ النفطية وكثير من مناطق الجنوب.

لعل لقاء باريس هو الذي توّج هذه الأحداث والمتغيرات؛ فهو يعد -حتى هذه اللحظة- نقطة تحول بصرف النظر عما قد يعترضه مستقبلا من عقبات، فقد حظي بمباركة واهتمام القوى الكبرى في العلن على الأقل، وكشف عن تضارب مصالح بعض هذه القوى، كما نال القبول العلني من معظم القوى المتصارعة على الساحة الليبية.

أما التغير الأكبر فهو ما طرأ على خطاب حفتر عندما ميز بين الإخوان المعتدلين والإخوان المتطرفين، فلأول مرة يصدر عنه خطاب يفرز الخصوم الذين يمكن أن يكونوا جزءا من المشهد السياسي الليبي عن الأعداء المتطرفين، وهذا التطور يبدو أنه تم استقباله بارتياح من قبل الإخوان وحزب العدالة والبناء، وهذا نظريا يعد اختراقا من الجانبين لجدار كان سمكه صلبا في مواجهة أي حوار.

إن ما يجري يوحي بأن القوى الدولية ذات العلاقة بالوضع الليبي أخذت تضغط وتساعد، وتدفع نحو البحث عن حلول جادة، مما يعني أن محاولة لملمة أطراف "الغيزة" تتعهدها وتشارك فيها أياد كثيرة دولية وإقليمية وليبية.

الهجرة والإرهاب والبترول الليبي هي القضايا التي تلتقي فيها مصالح القوى الدولية والإقليمية ودول الجوار، كما يبدو أنها جميعها ترى أن الوضع الليبي بلغ من الخطورة على الجميع حدًّا لا يمكن تحمله، أو ترك مهمة البحث عن حلوله للأطراف الليبية فقط. ولهذا فقد تسارعت حركة الأحداث داخل المشهد وتكاثرت الأيدي حول "الغيزة"


ثالثا
: ثمة تجاذب للأيدي واستعجال؛ لم تعد القوى الدولية ذات المصالح المتضررة في ليبيا تتحمل المزيد من إطالة عمر الأزمة الليبية، فرغم الاختلاف في حجم وطبيعة هذه المصالح فإن هذه القوى ترى جميعها ضرورة لملمة هذه "الغيزة" المبعثرة في أقصر وقت ممكن.

وذلك لأن تداعياتها لها تأثيرات كارثية على دول الجوار شبه المستقرة، فالحدود الليبية المفتوحة أمام كل عابر معبر لمئات الآلاف من المهاجرين إلى أوروبا، وبوابة لاستقبال الآلاف من مقاتلي الجماعات الإرهابية العابرة للحدود، لتجد في ليبيا -الغنية بالبترول والمتشظية بين المليشيات والحكومات- أفضل مكان لإعادة محاولة بناء مشروعها الذي هُزم عسكريا في العراق والشام.

الهجرة والإرهاب والبترول الليبي هي القضايا التي تلتقي فيها مصالح القوى الدولية والإقليمية ودول الجوار، كما يبدو أنها جميعها ترى أن الوضع الليبي بلغ من الخطورة على الجميع حدًّا لا يمكن تحمله، أو ترك مهمة البحث عن حلوله للأطراف الليبية فقط.

ولهذا فقد تسارعت حركة الأحداث داخل المشهد وتكاثرت الأيدي حول "الغيزة"، غير أن سرعة الحركة وتعدد الأيادي أدى إلى الاحتكاك والتجاذب على الصعيد الدولي والمحلي، فلكل مقاصده وطريقته في اللملمة؛ فالإيطاليون لهم مقاصدهم وطريقتهم التي تختلف عن مقاصد وطريقة الفرنسيين.

وكذلك الأمر بالنسبة للإنجليز والألمان وأيضا دول الجوار، وينطبق هذا الحال على الأطراف الليبية التي رأت جميعها الدخول في زحمة "الغيزة"، ولكن بطريقتها ومقاصدها ومبادراتها التي تختلف -في بعض جوانبها- عن بيان باريس.

لا شك في أن تداعي القوى الدولية والمجتمع الدولي وأطراف الأزمة الليبية لإيجاد حلول لها قابلة للحياة -في أسرع وقت ممكن- هو أمر يبشر بخير، ويتمناه غالب الليبيين الذين أصابهم الإحباط واليأس، ولكن هناك خوف مبرر من تعدد الأيدي واختلاف طرقها ومقاصدها، وخشية من أن سرعة التزاحم والاستعجال قد يؤدي إلى التصادم بين الكثير من هذه الأيدي بينما تظل حبوب "الغيزة" مبعثرة.

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان