الوضع الراهن وليس فقط في القدس

A picture taken on July 27, 2017 shows a general view of Jerusalem's Old City skyline from the west, with the Golden Dome of the Rock seen in the centre of Al-Aqsa mosque compound, also known as the Haram al-Sharif or to Jews as the Temple Mount. / AFP PHOTO / GALI TIBBON (Photo credit should read GALI TIBBON/AFP/Getty Images)

تتكرر مقولة "ضرورة الحفاظ على الوضع الراهن في القدس"؛ فما هو الوضع الراهن وعلى أية أسس قام؟ ومن وماذا يخدم إبقاؤه؟ هذا ما يتحتم بيانه في ظل ما نُشر من تحليل لصاحب ومدير مركز "الدراسات الإسرائيلية" في عمان المثير للجدل، ونشر في موقع "معهد واشنطن" وأعيد نشره في موقع "عمان نت" الأردني، وعنوانه "لماذا يتوجب على إسرائيل الإصغاء للأردن".

والمقال يراد به أن يخدم السياسة الأردنية إن لم يكن إعلانا لها. ولكن الكاتب "الباحث" حامل الدكتوراه في العلوم السياسية يوظف توصيفات وتعريفات سياسية وحتى قانونية مغلوطة، وتستحق وقفة تصحيحية لأنها تقودنا إلى ما يشبه إعلان حرب.

"الوضع الراهن" في القدس قام على حرب عدوانية شنتها إسرائيل عام 1967 واحتلت فيها القدس الشرقية بمقدساتها، وما تبقى من الأرض الفلسطينية وصولا إلى نهر الأردن، وهذا الاحتلال غير شرعي وغير قانوني بدلالة ميثاق الأمم المتحدة والقوانين الدولية، بل وبدلالة قرارات عديدة للأمم المتحدة ولمجلس الأمن، طالبت إسرائيل بالانسحاب من كامل تلك الأراضي

معروف أن "الوضع الراهن" في القدس قام على حرب عدوانية شنتها إسرائيل 1967 واحتلت فيها القدس الشرقية بمقدساتها، وما تبقى من الأرض الفلسطينية وصولا إلى نهر الأردن، وأن هذا الاحتلال غير شرعي وغير قانوني بدلالة ميثاق الأمم المتحدة والقوانين الدولية، بل وبدلالة قرارات عديدة للأمم المتحدة ولمجلس الأمن، طالبت إسرائيل بالانسحاب من كامل تلك الأراضي باعتبارها أرضا أردنية محتلة.

ولكن الأردن عاد ورسّم -في اتفاقية وادي عربة– حدوده بحدود الانتداب. وبذلك يكون تنازل تحديدا عن "المركز القانوني" الذي كان تحقق للأردن بقرار وحدة الضفتين، أي تنازل عن السيادة على كل ما جرى ضمه للأردن حينها من أراض فلسطينية، بما فيها القدس الشرقية بمقدساتها.

والتنازل يعني إعادة الحق في تلك الأرض إلى الفلسطينيين وممثلهم الشرعي حينها وهو "منظمة التحرير الفلسطينية"، التي يقال إن عقدها لاتفاق أوسلو مع إسرائيل بشأن الضفة الغربية وقطاع غزة هو ما كفّ يد الأردن عن الضفة المحتلة، وأجاز له عقد اتفاقه الخاص مع إسرائيل.

بل وصدر قبل ذلك في 1988 قرار ملكي أردني بفك الارتباط بالضفة الغربية، نتيجة إصرار الجامعة العربية على كون منظمة التحرير هي من يمثل الفلسطينيين.

قانونا، لا يضفي قرار أحادي (وليس اتفاقا يوقع عليه الطرف الفلسطيني) أية شرعية على استثناء جزء من فلسطين (القدس والمقدسات هنا) من فك الارتباط ذاك. واتفاق وادي عربة الثنائي لا يمكن أن يرتب أية حقوق للمتعاقدين عند طرف ثالث، ناهيك عن "مراكز قانونية" (كما يصف الدكتور ما بات يسمى "الدور الأردني" في القدس والمقدسات).

وحتما لا "يكرّس تلك الحقوق بصورة قانونية" الوعدُ الإسرائيلي العائم وفي شأن يُفترض أنه يخص أصحاب الأرض (احترام إسرائيل الدور الخاص للأردن في الأماكن المقدسة الإسلامية في القدس، وأنها ستعطى أولوية عالية لذلك الدور عندما تجري مفاوضات حول الوضع الدائم).

"فالاحترام" قانونا هو الالتزام بأداء حق أو بفعل محدد ومعرّف قانونا. أما "الأولوية" في شأن أرض محتلة تنص القوانين الدولية على وجوب الانسحاب منها، فهي لأصحاب الأرض، ولا يجوز أن يفرض المحتل عليهم أدوارا وحصصا فيها لآخرين.

وأصحاب الأرض الفلسطينيين والمقدسيين تمثلهم "منظمة التحرير الفلسطينية". ولكن الباحث يستبدل بهم هنا -لأغراض التنازل عن المقدسات- رئيسَ سلطة ومنظمة صلاحية رئاسته لكليهما منتهية، وبالكاد يمثل فصيلا واحدا في المنظمة هو "فتح".

وهذا الرئيس فاجأ الشعب الفلسطيني بقدومه إلى عمان منفردا ليضع المقدسات الإسلامية -ومعها المسيحية- في عهدة الملك عبد الله الثاني شخصيا، متذرعا ببيعة من أهل القدس زعم أنا جرت للشريف حسين، وهو ما لا توجد أية بينة عليه. فكل الذي جرى أن الشريف حسين -بعد خروجه من الحجاز وقدومه إلى الأردن- زار القدس فاستقبله وفد من وجهائها.

أمكن إبقاء وضع الاحتلال "الراهن" نصف قرن بالتمام والكمال، بالمراوحة بين الحلول التسكينية والقمعية ذاتها، فيما المتغير الجاري طوال نصف القرن ذاك أدى إلى ابتلاع المستوطنات لأفضل أراضي الضفة الغربية، والحال أسوأ ما يكون في القدس الشرقية والمقدسات ويعرفه الجميع

وهو ما يجري لأي زائر سياسي ذي مكانة، فكيف إن كان الزائر ذا مكانة دينية والمدينة ذات مكانة في ذات الديانة. ومحاولة محمود عباس هذه تشير إلى نية مبيتة للتخلص من عبء بل ووزر ما يعرف أنه آتٍ، ويشارك فيه هو شخصيا بإلقائه في حضن غيره.

هذا لجهة بعض تعريفات الباحث "القانونية"؛ أما توصيفاته ووصفته السياسية فيبدؤها بنصح إسرائيل بقوله "كان من الممكن تجنب أزمة الحرم القدسي الأخيرة". وهي أزمة حادة لإسرائيل، ولكنها شكلت نصرا للشعب الفلسطيني دونا عن مسؤوليه، وبانعطافة تاريخية لجهة توليه شؤونه في الميدان بعيدا عن غرف المفاوضات المغلقة.

ويكمل الباحث نصحه بقوله "من شأن النظر بشكل أقوى إلى التعاون مع الجانب الأردني حول قضايا من هذا القبيل أن يساعد إسرائيل على إيجاد حلول فعالة لحالات مماثلة في المستقبل". أي أنه يتوقع استمرار "الوضع الراهن" بتكرار "حالات مماثلة".

وهو يذكر أن موشيه دايان هو من "قرّر" بعد حرب 1967 أن "تواصل الأوقاف الأردنية إدارة الموقع، وأن يكون الأردن مسؤولا عما يحدث داخل الحرم من أجل تجنب حدوث نزاع أكبر مع العالم الإسلامي…، وتكون إسرائيل مسؤولة عن الأمن حول محيط الموقع… دون تغيير للوضع الراهن". وقرر أن يسمح لليهود بالدخول للزيارة ولكن ليس للصلاة، وهو ذات ما يزعمه بنيامين نتنياهو الآن.

وبهذا أمكن إبقاء وضع الاحتلال "الراهن" نصف قرن بالتمام والكمال، بالمراوحة بين الحلول التسكينية والقمعية ذاتها، فيما المتغير الجاري طوال نصف القرن ذاك أدى إلى ابتلاع المستوطنات لأفضل أراضي الضفة الغربية، والحال أسوأ ما يكون في القدس الشرقية والمقدسات ويعرفه الجميع.

وصاحب "مركز الدراسات الإسرائيلية" الأردني المسلم معني بأمر واحد، وهو ذات ما عُني به موشيه دايان ومن تلوه وصولا إلى نتنياهو، وهو تجنيب إسرائيل أية مواجهة مع جهات عربية أو إسلامية، و"تنظيمات إسلامية" من الواضح أنه لا يعني بها "داعش" وأخواتها (فعلاقة هؤلاء الودية مع إسرائيل باتت معروفة).

هذا مع أنه يسميهم "الجهات الأكثر تشددا في منطقة الشرق الأوسط"، ويقول إنهم "يرون في عملية القدس الأخيرة فرصة لتحطيم التقارب بين الدول السنية المعتدلة وبين إسرائيل..، باستخدام الحرم القدسي وزج المسجد الأقصى إلى لب الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وتحويله من صراع وطني قومي إلى صراع ديني".

"الوطنية" هي في دفاع الفلسطينيين عن أرض وطنهم، و"القومية" تنطبق على العرب الذين منهم الفلسطينيون..، فيما إسرائيل هي التي ترحِّل وتقتل أبناء الأوطان العربية لتقيم دولة "يهودية".

فمن الذي شرع في صراع ديني؟ ومن الذي يطالب بدولة "يهودية" نقية لا يبقى فيها غير اليهودي، وإن بقي فإنه لا تحق له حقوق المواطنة أو حتى حقوق الإنسان في وطنه المحتل؟ وهو وطن تعايش أهله المسلمون والمسيحيون مع ذات اليهود في سلام لقرون لم يجر فيها أي تمييز ضدهم مع أنهم كانوا أقلية!

السؤال "الإستراتيجي" الأهم هو فيم ستفيدنا إسرائيل لجهة تعزيز "نفوذنا" مقابل نفوذ إيران؟ بينما الذي يهدد إسرائيل من إيران هو بقاء احتلالها للمقدسات أو "بقاؤها" ابتداء؛ فهل سنخوض لأجلها حرب بقاء ثبت أن إسرائيل لا تقدر عليها وأميركا ذاتها لن تخوضها؟!

والأعجب في الذي يورده "الباحث" هو أنه في القمة السريّة التي عُقدت في العقبة 2016 بين نتنياهو والملك عبد الله وعبد الفتاح السيسي وجون كيري؛ رفض نتنياهو عرض الاعتراف بيهودية الدولة مقابل التفاوض على حل الدولتين، وذلك بحجة صعوبة موافقة ائتلافه الحكومي على هذا!

والمعني بذلك هو حزب "البيت اليهودي" الذي يمثله فقط عضوان في حكومة نتنياهو، من المفترض أنه يمكن أن يعوضا بأضعافهما بسهولة مقابل الحصول على اعتراف عربي بيهودية الدولة، الذي إن جرى يصعب تصور تداعياته!

وكل ما يطلبه الباحث من نتنياهو بتواضع وتفهم "لمعضلته التاريخية المزمنة" هو ألا يجري "التعامل مع موضوع الحرم القدسي انطلاقا فقط من الاعتبارات الداخلية للسياسة الإسرائيلية (المعضلة!)، وإنما الأخذ بعين الاعتبار الاستجابة للمطالب القادمة من المملكة الأردنية ومصر، ومن الدول العربية السنية الأخرى التي تتشارك مع إسرائيل نفس المخاطر الجيوسياسية الناتجة عن توسع النفوذ الإيراني في المنطقة"!

فالباحث يرى أن ما أسمي "الدور الأردني" يمثل "نفوذا" للأردن (وليس خدمة أخوية)، إذ يقول: "إذا كانت إسرائيل تعتقد أن السلام مع الأردن هو ذخر إستراتيجي؛ فيتوجب عليها مراعاة قلق ومخاوف الأردن من دخول أطراف عربية وإسلامية (تركيا، قطر، تنظيمات إسلامية) على خط الأزمة من أجل توسيع نفوذها على حساب الدور والنفوذ الأردني. تسعى هذه الأطراف إلى توتير الأوضاع في القدس من أجل الضغط على الأردن لاتخاذ خطوات تصعيدية ضد إسرائيل، ربما تصل إلى مستوى سحب السفراء".

سحب السفراء -الذي يورده وكأنه القيامة- طلبه الشعب الأردني، والذي تسبب فيه ليس عدة دول وتنظيمات، بل حارس في السفارة الإسرائيلية (بالأردن) قتل أردنييْن، بزعم أنه ذعر من مفكّ في يد عامل كان يركّب له خزانة. ومع ذلك سُمح للقاتل بمغادرة الأردن برفقة السفيرة الإسرائيلية واستقبلهما نتنياهو استقبال الأبطال. وتلك عينة تبين كمّ النفوذ الذي للأردن ودرجة حرص إسرائيل عليه وعلى "الوضع الراهن" بيننا.

ولكن السؤال "الإستراتيجي" الأهم هو فيم ستفيدنا إسرائيل لجهة تعزيز "نفوذنا" مقابل نفوذ إيران؟ بينما الذي يهدد إسرائيل من إيران هو بقاء احتلالها للمقدسات أو "بقاؤها" ابتداء؛ فهل سنخوض لأجلها حرب بقاء ثبت أن إسرائيل لا تقدر عليها وأميركا ذاتها لن تخوضها؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.