إيران والأزمة الخليجية

Iranian Foreign Minister Mohammad Javad Zarif listens to a question during a press conference with his German counterpart Frank-Walter Steinmeier in Tehran, Iran, Saturday, Oct. 17, 2015. (AP Photo/Ebrahim Noroozi)

أزمة مفاجئة
انكشاف الخاصرة
تبدّل المحاور 

إيران هي الغائب الحاضر في الأزمة الخليجية؛ فرغم أنها أزمة لم تدر رحاها على أرض إيرانية، فإن طهران -وهي الكعكة الساخنة إقليمياً ودولياً- تكاد لا تفارق يوميات ولحظات الأزمة التي تعصف بالبيت العربي الخليجي منذ 5 يونيو/حزيران الماضي، وترتبط بما بعد مرحلة الثورات المضادة التي انطلقت في 2013.

أزمة مفاجئة
لعل أهم ما يميز الدبلوماسية الإيرانية هو سياسة النفَس الطويل، والهدوء والنظر بعيدا إلى الأمام. ولذلك تعاملت طهران مع الأزمة -منذ لحظاتها الأولى- بضبط دبلوماسي عالٍ، انتظاراً لانجلاء تفاصيل أكثر حول هذا التطور المفاجئ في علاقات دول الخليجية العربية، فدعت إلى تغليب لغة الحوار والدبلوماسية لحل المشاكل البينية على لغة التهديد والحصار.

دخلت إيران على خط الأزمة مبكراً، ففي 7 يونيو/حزيران حوّل وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف رحلته -التي كانت متجهة من طهران إلى أستانا لحضور قمة شنغهاي 8 و9 يونيو/حزيران- باتجاه أنقرة التي زارها عدة ساعات، والتقى فيها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وناقش معه الأزمة الخليجية القائمة.

ففي اللقاء -الذي حضره أيضا وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلوعبّر ظريف عن قلق بلاده بشأن الأزمة الخليجية القائمة، وحث تركيا على استخدام علاقاتها الحسنة للوساطة من أجل التوصل إلى حلول إيجابية سلمية لخلافات الأشقاء الخليجيين.

ويبدو أن حدس ظريف كان صائباً؛ فقد تبين من قائمة المطالب الـ13 المسربة لدول الحصار أن الأزمة خطيرة للغاية. أدركت طهران أن المشكلة ليست مجرد أزمة علاقات عابرة وإنما هي أعقد من ذلك، حيث هناك سعي لإدخال نمط جديد من الوصاية والهيمنة في العلاقات الإقليمية على حساب سيادة الدول وللتأثير في قرارتها الوطنية.

وجدت طهران نفسها -على حد قول المثل العربي "مكره أخاك لا بطل"- تنتقل من مربع الدبلوماسية المرنة إلى مربع الوقوف إلى جانب دولة قطر بقوة، كما جاء على لسان أكثر من مسؤول إيراني رفيع المستوى.

أدركت طهران أن المشكلة ليست مجرد أزمة علاقات عابرة وإنما هي أعقد من ذلك، حيث هناك سعي لإدخال نمط جديد من الوصاية والهيمنة في العلاقات الإقليمية على حساب سيادة الدول وللتأثير في قرارتها الوطنية، ولذلك

ذلك أن طهران باتت ترى أن أي فرصة لنجاح دول الحصار في مواجهة الدوحة، ستشجع تلك الدول على ترسيخ هذا المبدأ الشاذ في العلاقات الإقليمية. ومن جهة أخرى؛ فإن دولاً خليجية أخرى تتمتع إيران بعلاقات جوار حسنة معها مثل الكويت وسلطنة عُمان، قد تصبح عرضة للحصار والقطيعة بناء على الرغبات السعودية.

إيران لها خلافاتها مع قطر منذ اندلاع الأزمة السورية، وفي الأزمة السعودية الإيرانية عام 2016 وقفت قطر إلى جانب الموقف السعودي فخفضت مستوى تمثيلها الدبلوماسي لدى طهران؛ لكن "إيران الفارسية" هذه قررت اليوم أن تضع هذه الخلافات جانباً معلنة استعدادها لتزويد قطر بكل ما حرمه منها جيرانها "العرب".

وهكذا فتحت إيران مجالها الجوي أمام عبور الطائرات من وإلى قطر، ثم أعدّت موانئها البحرية -ولا سيما ميناء بوشهر- لإرسال المواد الغذائية واحتياجات السوق المحلي القطري.

لا شك أن جانباً من الأزمة كان تلقائياً، حيث نشأت الفرصة الإيرانية بسبب الإجراءات التي فرضتها دول الحصار على قطر فأغلقت حدودها البرية والجوية، فكان الفضاء والبحر الإيرانيان هما البديل الأقرب والأسهل. ومن جهة أخرى؛ فإن الأمر في ميزان المصالح المشتركة لا يخلو من فرصة ثرية لإيران سياسياً واقتصادياً بتعزيز العلاقة مع الجارة قطر.

لا تزال قطر حذرة في تعزيز العلاقات مع طهران لأسباب مفهومة، بل وعبر عنها رئيس وزراء قطر السابق الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني -في مقابلته مع تشارلي روز مؤخراً- حين وضع محدد العلاقة بين يدي التوافق الخليجي المشترك، إلا أن الجانب الإيراني يجد نفسه -رغم الخلافات حول مسائل إقليمية- مستعداً لتقديم كل أنواع الدعم السياسي والاقتصادي لقطر لتجاوز هذه المحنة.

إيران وقطر وغيرهما باتوا يعرفون أن العلاقات الإيرانية القطرية ليست سببا رئيسيا للأزمة الخليجية، وأن إقحام إيران هنا ليس إلا شماعة باتت تستخدم لأغراض مختلفة منها تصفية الحسابات السياسية الخليجية البينية، إضافة إلى ما يراه المحللون الإيرانيون خطوة للتغطية على عملية التطبيع مع "إسرائيل"، وكذلك ضرب من يعترض قطار الثورات المضادة في المنطقة.

وعليه، وفي سياق المقارنة الموضوعية بين العلاقات القطرية الإيرانية من جهة والعلاقات الإيرانية وبقية الدول الخليجية، وبأخذ التفاوت بين التقارب السياسي والتقارب الاقتصادي بعين الاعتبار؛ يجد المتابع مثلاً أن العلاقات التجارية بين الإمارات وإيران تشهد تزايدا ملحوظا منذ 2011، يتراوح حجمها بين 16 و21 مليار دولار سنويا.

في حين أن حجم التبادل التجاري بين الدوحة وطهران لم يتجاوز 180 مليون دولار سنويا خلال هذه الفترة. وعليه فإن الإمارات تستحوذ على نسبة 90% من حجم التجارة بين إيران ودول الخليج مجتمعة. وهي من الدول الأكثر استفادة بعد الاتفاق النووي ورفع العقوبات على إيران.

انكشاف الخاصرة
عند الوقوف بعمق أمام تداعيات الأزمة الخليجية؛ نجد أنها لا تتوقف عند جغرافيتها العربية بل تتجاوزها إلى جغرافيات عديدة، وليس جزافا إن قلنا من أقصى الأرض إلى أقصاها، ولعل هذا كان سر الاهتمام العالمي الكبير بهذه الأزمة.

في الجغرافيا المحيطة بالأزمة، لعل إيران كانت أبرز المعنيين بآثارها والتقاط الرسائل غير المحسوبة التي رمتها الأزمة في كل حد وصوب والاستثمار فيها. وهنا سنتعرض -مثالا لا حصرا- لأثرين بالغيْ الأهمية للأزمة على الجارة الإيرانية:

إذا صدقنا الرواية السعودية بأن العلاقات القطرية الإيرانية كانت أحد الأسباب الرئيسة للأزمة؛ فأولى دلالات عدم تجاوب الدول العربية والإسلامية مع طلبات المحور السعودي بالالتحاق بحملتها ضد قطر ما عدا دولا معدودة جدا، هي أن ذلك يعني فشلا ذريعا للسياسة السعودية في مواجهة إيران

– الأثر الأول: أن الأزمة جعلت المحور العربي المناهض لإيران بقيادة السعودية مكشوفا أمامها بضعفه ورخاوته، وأعطت انطباعا بأنه لم يكن قويا كما كان يُروج له بل هو منقسم على نفسه.

لأنه إذا صدقنا الرواية السعودية بأن العلاقات القطرية الإيرانية كانت أحد الأسباب الرئيسة للأزمة؛ فأولى دلالات عدم تجاوب الدول العربية والإسلامية مع طلبات المحور السعودي بالالتحاق بحملتها ضد قطر ما عدا دولا معدودة جدا، ورفض غالبية الدول العربية والإسلامية -وبعضها دول ذات ثقل كبير مثل السودان وباكستان– التماشي معها، هي أن ذلك يعني فشلا ذريعا للسياسة السعودية في مواجهة إيران.

فالسعودية كشفت -بربطها أحد أسباب الأزمة بعلاقة قطر مع إيران- ضعفها الكبير وهشاشة المحور الذي تقوده في مواجهة خصمها الإيراني الذي انكشفت حقيقة الصورة أمامه بجلاء، إذ أكد حسين أمير عبد اللهيان مساعد رئيس البرلمان الإيراني -في تغريدة له مؤخرا- أن "السعودية لم تعد شريكاً سياسياً موثوقاً به للدول العربية وليست نقطة الثقل عربياً".

كما أن هذا المشهد أزاح -إلى حد كبير- الصورة المخيفة التي رسمتها زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب للمنطقة، في ظل الحديث عن امكانية تشكيل ناتو عربي، وإبرام صفقات سلاح بعشرات مليارات الدولارات بين الرياض وواشنطن.

ومن المنافع الإيرانية الأخرى أن الانقسام العمودي الذي أحدثته هذه الأزمة في البيت الخليجي سيُنهي عهد مواقفه وسياساته الموحدة إزاء إيران، وهذا سيقلل حجم التحديات التي كان يشكلها هذا البيت مجتمعا، مما يفتح الباب أمام إيران لإعادة قراءة المشهد من جديد، ورسم إستراتيجيات وسياسات جديدة تتناسب مع المرحلة.

ومن جهة أخرى، فإن المعركة الإعلامية التي أشعلتها الأزمة بين أطرافها الرئيسية والمتشعبة في أنحاء المعمورة، أخرجت إيران من سلم الهجمات الإعلامية التي كانت تستهدفها منذ سنوات عديدة، وساهمت -إلى جانب عوامل أخرى- في تحويل إيران إعلاميا إلى شماعة لاستخدام ذلك في التغطية على تحولات سياسية جذرية لسياسات دول خليجية تجاه القضية الفلسطينية والتطبيع مع إسرائيل.

فاليوم وبسبب الأزمة الخليجية؛ لم تعد إيران تتصدر اهتمامات الإعلام العربي كما كانت في السابق، فقد كان أي موضوع له أدنى علاقة بإيران -من قريب أو بعيد- يتصدر المشهد الإعلامي، فانتهاء هذه الحالة يُسجل لصالح إيران.

أمام هذا الواقع العربي المتشرذم، يرى قائد الحرس الثوري الإيراني محمد علي جعفري أن إيران أصبحت حاليا القوة الأولى في منطقة الشرق الأوسط، ولا يمكن لأحد أن يتحدى هذه المكانة.

الأثر الثاني: انهيار صناعة "إيرانوفوبيا" بين ليلة وضحاها -بعد استثمارات هائلة صُرفت عليها- جعل من إيران الرابح الأكبر في هذه الأزمة. هذا الانهيار جاء بعد أن كشفت الأزمة حقيقة توجهات المحور السعودي والإماراتي والمصري.

ولفتت الأزمة أنظار النخب والرأي العام العربي والإسلامي إلى خطر أكبر مما يوصف بـ"الخطر الإيراني"، وهو خطر قديم متجدد يشكل أكبر تهديد للعالم العربي، ألا وهو الثورات المضادة التي باتت تتعرض للنسيان بعد أن تفاءل البعض خطأ بالعهد السعودي الجديد والرهان عليه بعد عام 2015. وصار كثيرون -حتى ممن شملتهم الثورات المضادة من الإسلاميين- يؤيدون ما يصدر عن العهد الجديد بشغف وبتقبيل الأنوف قبل الكتوف.

بينما كان هؤلاء يجهلون أن هدف هذا العهد ليس وقف نزيف الدماء هنا وهناك، وإصلاح الوضع في ساحات الخلاف والقتال، وإعداد مشروع إقليمي منافس، وإنما قلب المفاهيم، والتجهيز لـ"صفقة القرن" مع الاحتلال الإسرائيلي، والإجهاض على ما تبقى من قوى حية في العالم العربي.

 تبدّل المحاور
كلما طال أمد الأزمة الخليجية واستفحلت ساهم ذلك في تغيرات جيوستراتيجية إقليمية، منها تبدلات قد تشهدها المحاور والاستقطابات الإقليمية. حيث إن استمرار إغلاق الحدود العربية أمام قطر سيؤدي إلى تأسيس شبكة علاقات اقتصادية قوية مع طهران، إضافة إلى مصالح سياسية تنشأ نتيجة لذلك ولعوامل أخرى.

كلما طال أمد الأزمة الخليجية واستفحلت ساهم ذلك في تغيرات جيوستراتيجية إقليمية، مما سيؤدي إلى تأسيس شبكة علاقات اقتصادية قوية بين قطر وطهران، إضافة إلى مصالح سياسية تنشأ نتيجة لذلك ولعوامل أخرى

ومن جانب آخر، فإن بقاء أبواب الأزمة مفتوحة على مصراعيها يدفع تركيا لمزيد من الاصطفاف إلى جانب قطر، مما سيؤثر -في الأغلب- سلبا على علاقات تركيا مع بقية أطراف الأزمة.

إن الشعور بالاستهداف من قبل فريق إقليمي ودولي واحد يفرض على المستهدَفين جميعاً البحث عن سياسات موحدة في مواجهة هذا الفريق، خاصة أن العنصر الإسرائيلي أيضا يلعب دورا مهما في ذلك، إذ إنه الحاضر الغائب في كل ما يفعله هذا الفريق ضد هذه الدول ومصالحها.

ولذل فإن هذه الأمور ستساهم على الأغلب -إذا استمرت الأزمة الخليجية على حالها واتجهت نحو فصول أكثر تعقيدا- في تقارب بين المحور التركي القطري والإسلام السياسي السني والمحور الإيراني في المنطقة.

الخلاصة أن الأزمة الخليجية غيرت وجهة الرياح بما تشتهي السفن الإيرانية، وأنتجت تطورات وتفاعلات معقدة للغاية، ليست في صالح البيت العربي الخليجي. كما أن الشماعة الإيرانية -التي تحاول دول وقوى عربية ودولية توظيفها لتمرير قرارات وإجراءات ضد معارضيها- فقدت فاعليتها ولم تعد تُجدي نفعا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.