جزيرة الحرية في بحر الظلمات
ربما لا تدرك الأجيال المحدثة ماذا كان يعني ظهور قناة "الجزيرة" -بشعارها "الرأي.. والرأي الآخر"– قبل عشرين عاما، ربما لا تدرك ما أحدثته من رجة هائلة في مياه أنظمة الطغاة الراكدة، وكيف جعلت الناس تتساءل: ما الخطب؟ ولماذا حصل هذا؟ ومن فعل هذا؟ وكيف؟.. حقاً لقد وُلدت في زمن الحرية المستحيل.
ما حصل وقتها في نوفمبر/تشرين الأول ١٩٩٦ لم يكن حدثاً عاديا، ولم تكن "الجزيرة" مجرد قناة إعلامية تضاف إلى نظيراتها العربيات؛ كان حدثاً لا يُصدّق خروج قناة من الأرض تكلم الناس أن لصوص التغلب كانوا بآيات الله وسننه يجحدون، تحدثهم بما يدور في جوانحهم همساً، مبشرة بمستقبل ديمقراطي في عالم عربي يلهج تسبيحاً بحمد آلهة الطغيان، قناة ليس فيها هتّافة تهريج ما ملوا الثناء على بغاة لهم ما ليس عند الأنبياء .
ما زلت أذكر كيف أخذنا نتساءل بدهشة عن سبب تسميتها بـ"الجزيرة"، وآخر ما انتهينا إليه أنها جزيرة حرية وسط ظلمات بحر الاستبداد، حقاً لقد كانت واحة رأي أينعت تمورها في صحراء الدكتاتورية البغيضة.
ما زلت أذكر كيف استحضرنا مئات من أشرطة الكاسيت لتسجيل برامج "الجزيرة": "أكثر من رأي" و"الشريعة والحياة" و"الاتجاه المعاكس"، قناعة منا بأن هذه التجربة الفريدة لن تستمر، وأن أكابر مجرمينا لن يذروا ناقة صالح في أرض الله غير ممسوسة بسوء، ولكن هيهات.. ملة الكفر واحدة وديدنهم سواء |
وما زلت أذكر كيف تابعنا أول حلقة من "الاتجاه المعاكس" بين أحمد الجار الله الكويتي وعبد الباري عطوان الفلسطيني، يناقشان قضية عربية وكل منهم يجتهد لنصرة رأيه ودحض فكرة الآخر، في جو من الحرية والرأي والرأي الآخر، لا يخافان لومة لائم ولا مقصّ رقيب بائس، وجمهور المثقفين المتابعين يقول حلال على الشاطر صاحب الحجة، إسلامياً كان أم علمانيا، قومياً كان أم أمميا، وأن قوة المنطق غالبة لا منطق القوة.
وما زلت أذكر كيف استحضرنا مئات من أشرطة الكاسيت لتسجيل برامج "الجزيرة": "أكثر من رأي" و"الشريعة والحياة" و"الاتجاه المعاكس"، قناعة منا بأن هذه التجربة الفريدة لن تستمر، وأن أكابر مجرمينا لن يذروا ناقة صالح في أرض الله غير ممسوسة بسوء، ولكن هيهات.. ملة الكفر واحدة وديدنهم سواء.
كان لدينا في دمشق مقهى خاص بالمثقفين اسمه "مقهى الروضة"، وكان يخلو من رواده تماماً قبل نصف ساعة من بدء برامج "الجزيرة" الهامة وخصوصاً "الاتجاه المعاكس"، في وقت لم يكن يتجاسر فيه صاحب المقهى أن يفتح على هذه القناة ليبقي زبائنه، خوفاً من سوط الاستخبارات التي كانت تمنع بيع الإبرة الخاصة بالتقاط "الجزيرة".
حقاً مَن لم يشهد بدايات "الجزيرة" لن يدرك عمق أثرها في فكر ووجدان الأمة، وكيف ساهمت في صياغة عقول الجميع، نعم الجميع إسلاميين وعلمانيين، منافحين عن الديمقراطية ومطبلين للسلطان.
لقد خلقت "الجزيرة" جواً من القبول بالرأي الآخر في أوساط الناس مهما كانت الآراء متعارضة ومهما كان قائلها، وبدأت تسري في الناس ثقافة التعايش وتقديم التنازلات المتبادلة، وصولاً إلى قواسم مجتمعية وفكرية وسياسية مشتركة تشكل أرضية تنبني عليها مجتمعات ديمقراطية واعية .
لقد أدرك الطغاة -منذ اليوم الأول لانطلاقة "علبة الكبريت" (اللقب الذي أطلقه حسني مبارك على "الجزيرة") أن شرارتها ستحرق كل العروش، كما أيقنوا عندما بدأ الربيع العربي أن المحرض الأول والناقض الأكبر لعرى الاستبداد عروة عروة كان صوت "الجزيرة" الهادر منذ عشرين عاماً، موقظاً النائمين من سباتهم ومبشراً بعودة مجد عربي تليد.
لا بل حمّلوها مسؤولية إطلاق الشرارة الأولى للربيع، وأنها دفعت الناس كي يصبؤوا ويكسروا أطواق العبودية ويحطموا الأصنام، وأي فخر للجزيرة أن فعلت هذا بآلهتهم، واليوم يدركون أن الشعوب لن تسكت على الثورات المضادة، وأن ضمير حالها سيكون صوت "الجزيرة"، لذلك جنحوا لإسكاتها وإخماد جذوتها ظناً منهم أن مشهد سقوط هُبَل لن يتكرر مرة أخرى بغيابها.
ولكن خاب فألهم ولن يطفئوا نور الله، فالبذرة أثمرت وحملت الرياح غبار طلع "الجزيرة" إلى كل العالم العربي ملقحة إياه اللقاح النهائي، لقاح الحرية الذي حصّن الأمة من أن تخترقها ترّهات الاستبداد وسخافاته بعد اليوم.
من ينسى تقارير فوزي بشرى عن الثورتين المصرية والتونسية وكيف شفت صدور قوم مؤمنين؟ومن ينسى قوله عن مبارك "فاليوم ننجّيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية"؟ وقوله ألا بُعداً لمبارك.. ألا بعداً لزين العابدين، قال الشعبان الثائران. من ينسى فيصل القاسم وهو ينفخ في جمر الثورة بخطبه النارية في اتجاهه المشاكس.. ومِن اليوم الأول؟
من ينسى تغطية "الجزيرة" يوم سقوط بغداد، وتعليق مراسلها يومها من وسط ساحة الفردوس -المرحوم ماهر عبد الله- على محاولة الناس إسقاط تمثال صدام دون جدوى، حتى تدخلت الدبابة الأميركية وجرت الصنم، قائلاً: يبدو أنه حتى إسقاط الأصنام يحتاج مساعدة أجنبية، وأن شعوبنا غير قادرة بمفردها على تحقيق ذلك. |
من ينسى تيسير علوني بإطلالته من أطلال كابل وكهوف تورا بورا؟ في مشهد لم يستطع غيره في العالم أن يغطيه، وهو الذي أقنع طالبان بأن التلفزيون ليس حراماً، رابطاً العالم الإسلامي من شرقه إلى غربه، من ينسى سامي حداد وصوت أحمد الشيخ الهادر.. وآخرين.. وآخرين، وكل هذا من خلال "الجزيرة".
من ينسى تغطية "الجزيرة" يوم سقوط بغداد، وتعليق مراسلها يومها من وسط ساحة الفردوس -المرحوم ماهر عبد الله- على محاولة الناس إسقاط تمثال صدام دون جدوى، حتى تدخلت الدبابة الأميركية وجرت الصنم، قائلاً: يبدو أنه حتى إسقاط الأصنام يحتاج مساعدة أجنبية، وأن شعوبنا غير قادرة بمفردها على تحقيق ذلك. من ينسى تغطية "الجزيرة" لميدان التحرير وباب العزيزية والانتخابات الديمقراطية في كل مكان من العالم؟ مقدمةً للناس زاداً معرفياً وفكرياً وسياسياً.. وأي زاد؟
إنه زاد جعل وجودها أهم حدث إيجابي في العالم العربي منذ تسعينيات القرن الماضي، وأيْمُ الله لو أن الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني قدم يوم القيامة وليس في صحيفته إلا "الجزيرة" لكفته. فأي سفاهة وأي عته أن تسعى لإخماد صوت الحق هذا؟ ومتى..؟ بعد أن تجذر وربا وأنبت من كل زوج بهيج!
كيف ننسى تغطية "الجزيرة" لأخبار سجناء الرأي في عالمنا العربي المسكين؟ وكيف كان أكبر سلوان لنا ورفع لمعنويات أن تذكر أخبار محاكمتنا من وراء القضبان في قضية قادة إعلان دمشق وغيرها؟ ومَن غير الجزيرة فعل هذا؟
مَن ينسى تغطية "الجزيرة" للمحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا وكيف كانت قلب الشعوب النابض؟ ولولاها لمات الناس مئة مرة قبل أن تنقشع الغمة؟ وكم كان غيظ المستبدين منها بسبب هذه التغطية الخلاقة، وكم أشاحوا بوجوههم عنها بحجج سخيفة!
من ينسى برنامج "الشريعة والحياة" وضيوفه خصوصاً الشيخ يوسف القرضاوي الذي بذل جهداً خرافياً لإعادة فتح باب الاجتهاد ولو جزئياً، وقدم نموذجاً إسلامياً معتدلاً يظهر بقوة سلطان العلماء لا علماء السلطان، لو تم اعتماده من قبل طغاة البغي لما وصلنا إلى "داعش" وأخواتها، ولكنهم يصرون على السير عكس سنن الله في الآفاق والأنفس، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
أعتقد أن تبني "الجزيرة" لسياسة الرأي والرأي الآخر (خصوصاً بعد المناظرة الشهيرة في "الاتجاه المعاكس" بين القرضاوي وصادق العظم)، قد أقنع كثيراً من الإسلاميين والعلمانيين بإمكانية التعايش بينهما، وأنهما يمكن أن يصلا إلى كلمة سواء تخدم الديمقراطية وتؤسس لحرية شعوب طالما حلمت بها طويلاً طويلاً.
لقد كان من المستحيل قبل "الجزيرة" أن شخصاً مثل المغربي الفزازي -الذي أتاحت له "الجزيرة" ولمخالفيه حرية أن يقولوا ما يشاؤون طولاً وعرضاً- أن يغير أفكاره، وهو السلفي المتشدد الذي لم يكن يقبل إلا كتابا وسنة على فهم الأئمة، وأن يدرك أهمية الرأي والرأي الآخر، وأن يتبنى الديمقراطية طريقاً للصراع السلمي للوصول إلى السلطة، وأن ما تفرزه صناديق الاقتراع لا بد من احترامه ولو هُزم الإسلاميون.
لعل ما حصل فيه الخير كل الخير منبهاً الشعوب العربية إلى مكمن الخطر الحقيقي، وأن الأزمة الحقيقية أزمة حرية و"الجزيرة" من أوضح تجلياتها، وأنه ينبغي علينا كشعوب أن نكف عن الصراعات التافهة فيما بيننا، وأن نركز على القضية الكبرى التي بدونها لن تقوم لنا قائمة؛ إنها الحرية |
هل يُعقل أن لبيباً يستعدي "الجزيرة" ويتخلى عن هذا السلاح الإعلامي الرهيب، وهو يريد مواجهة إيران التي هي أشرس عدو واجهته أمتنا، ألم يجربوه؟ ألم يروا أنه نصر السعودية في معركة اليمن بأكثر مما فعل كل أبنائها وحلفائها، وأقنع كل العرب والمسلمين بعدالة "عاصفة الحزم"، وحشر "عفّاش" (علي عبد الله صالح) والحوثيين في الزاوية؟ عجيب أمر هؤلاء القوم.. أليس فيهم رجل رشيد؟
لقد علمتنا "الجزيرة" أمهات القيم السياسية، وربّت جيلنا على أصول الكفاح السلمي وكيف نقاوم الطغيان بألف وسيلة ووسيلة، وزرعت فينا أن الشعوب المثقفة الواعية لن تعدم الوسيلة لإزاحة هذا الكابوس الجاثم فوق صدورها منذ قرون، وأن الثورات المضادة إنما هي جولة بعدها للحرية جولات، لذلك من حقها علينا أن ننصرها وندعمها ونثبت أقدامها قدر مستطاعنا كشعوب، لأننا بهذا ندافع عن أنفسنا وكرامتنا التي داستها أحذية العسكر لعقود.
إنها مسؤولية الشعوب المقهورة أن تدافع عن "الجزيرة" الآن وليس غداً، ووالله إن تهلك هذه الأيقونة فما أصعب أن تقوم للحرية قائمة، أو يشم الناس رياح الديمقراطية بعد اليوم لعقود.
إن أنظمة الاستبداد بطلبها إغلاق "الجزيرة" انتقاماً من الربيع العربي، وظناً منها أنها تعيد الشعوب العربية إلى القمقم وتنجح في محاولتها الانقلابية الرابعة، قد أثارت عشّ الدبابير وأعادت للجزيرة ألقها وإلهامها وشحذت مسنناتها من جديد.
وسيرون قريبا كيف ستُفتح عليهم أبواب جهنم من خلال "الجزيرة" وأخواتها، وسيرون آلاف قنوات اليوتيوب الفردية والجماعية الداعية لاستئناف مسيرتنا التاريخية والحضارية، وسيرى العسكر والدكتاتوريون والاستخبارات والحزب القائد في أي مزبلة من مزابل التاريخ سيُلقون، فلقد ولّى زمن الرضوخ، وذهب زمن فرعون القائل "ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد".
لعل ما حصل فيه الخير كل الخير منبهاً الشعوب العربية إلى مكمن الخطر الحقيقي، وأن الأزمة الحقيقية أزمة حرية و"الجزيرة" من أوضح تجلياتها، وأنه ينبغي علينا كشعوب أن نكف عن الصراعات التافهة فيما بيننا، وأن نركز على القضية الكبرى التي بدونها لن تقوم لنا قائمة؛ إنها الحرية أسمى ما يمكن أن يناله الإنسان.. وكم دفع تاريخياً من ثمن لذلك.
لقد استجاب الله لدعاء عبد الرحمن الكواكبي فأخرج من بين أظهرنا "الجزيرة"، وسيعقبها ألف جزيرة وجزيرة..، والعاقبة للمتقين.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.