المغرب وحصار قطر

وزير الخارجية المغربي يلتقي أمير الكويت

سباق بيانات المقاطعة
حسابات الموقف المغربي

عندما قررت السعودية قطع علاقاتها -تماما ونهائيا- مع دولة قطر، أخرجت لها صك اتهام تهتز له الجبال، ولكأني به كان جاهزا لا ينتظر إلا ساعة الصفر لينطلق: "التحريض"، "احتضان جماعات إرهابية كالإخوان المسلمين وداعش والقاعدة"، "دعم نشاطات الجماعات الإرهابية المدعومة من إيران"، "استخدام وسائل الإعلام التي تسعى إلى تأجيج الفتنة داخليا"، "تقديم الدعم والمساندة من سلطات الدوحة، لمليشيا الحوثي الانقلابية".

سباق بيانات المقاطعة
مباشرة بعد صدور البيان السعودي أو بالتزامن معه؛ أصدرت الخارجية المصرية بدورها، بيانا تتهم فيه قطر بـ"دعم التنظيمات الإرهابية وعلى رأسها تنظيم الإخوان الإرهابي، وإيواء قياداته الصادرة بحقهم أحكام قضائية في عمليات إرهابية استهدفت أمن وسلامة مصر".

لم تقف الخارجية المصرية عند هذا الحد، بل ذهبت لدرجة اتهام قطر أيضا بـ"الترويج لفكر تنظيم القاعدة وداعش، ودعم العمليات الإرهابية في سيناء، فضلا عن إصرار قطر على التدخل في الشؤون الداخلية لمصر ودول المنطقة بصورة تهدد الأمن القومي العربي، وتعزز بذور الفتنة والانقسام داخل المجتمعات العربية، وفق مخطط مدروس يستهدف وحدة الأمة العربية".

الإمارات نحت -في سياق ذلك- نفس المنحى، مع الإعلان الصريح هذه المرة عن قطع العلاقات الدبلوماسيةمع قطر، وإمهال بعثتها بضع ساعات فقط لمغادرة البلد، مع منع دخول وعبور القطريين، ومنع الإماراتيين من السفر إلى دولة قطر، ناهيك عن الإقامة فيها أو المرور عبر أراضيها أو أجوائها.

نحن هنا لسنا بإزاء أزمة دبلوماسية عابرة، ترتبت عن سلوك "غير المقبول" من دولة ما. ولسنا بإزاء أزمة يلجأ في ظلها الطرف "المتضرر" إلى إعمال عقوبات قد تطال ذوي المستويات السياسية حلا وترحالا، أو تجميدا لأرصدتهم أو مصادرة ما قد يكون لديهم من أملاك ومصالح في البلد "المتظلم"، كما قد يكون الشأن في حالات شبيهة

أتى دور كل من البحرين، واليمن، وإحدى "الحكومات" الليبية المتقاتلة، التي لا نعرف عن مسوغات موقفها الشيء الكثير.

وكما لو أن مداد البيانات لا يكفي لإشفاء غليل صك الاتهام الموجه؛ عمدت هذه الدول -لا سيما الأعضاء منها في مجلس التعاون الخليجي– إلى فرض ما يشبه الحصار الكامل والشامل على دولة قطر، بما فيه إغلاق كافة المنافذ البرية والبحرية والجوية معها، ولكأنما انتشر مرض مُعْدٍ في قطر يستوجب اعتماد أقصى درجات الحذر لمنع انتقاله عبر وسائل النقل.

نحن هنا لسنا بإزاء أزمة دبلوماسية عابرة، ترتبت عن سلوك "غير المقبول" من دولة ما. ولسنا بإزاء أزمة يلجأ في ظلها الطرف "المتضرر" إلى إعمال عقوبات قد تطال ذوي المستويات السياسية حلا وترحالا، أو تجميدا لأرصدتهم أو مصادرة ما قد يكون لديهم من أملاك ومصالح في البلد "المتظلم"، كما قد يكون الشأن في حالات شبيهة.

على العكس من ذلك تماما؛ فنحن هنا بإزاء حصار مطبق يشمل دولة قطر حكاما ومحكومين، وأبناء الوطن كما العمالة المهاجرة التي تعمل بين ظهرانيهم. أي أنه لو قسنا الأمر بمقياس ما تنتجه قطر أو ما تستورده من مواد غذائية واستهلاكية ضرورية، لقلنا بأننا حقا وحقيقة بإزاء قرار من شأنه تجويع بشر. إنه عقاب جماعي بامتياز، بصرف النظر عن طبيعة "الجرم" المرتكب أو حجم "التهمة" المروجة.

ما الخطب؟ ما السياق؟ ما الخلفيات؟ ما أسباب نزول كل ذلك؟ أو لنقل: ما الداعي لكل هذا "النفير"؟
لن نعدم الحجج والقرائن للدفع بهذا "الاجتهاد" في الفهم أو ذاك، إذ الذي يتموج في المنطقة ومن حولها -لا سيما منذ زيارة الرئيس الأميركي للمنطقة- يُفسح المجال للعامة منا -فما بالك بالخاصة- لإعمال أكثر من قراءة، واحتمال صواب أكثر من تأويل.

بيد أن تصريح المتحدثة الرسمية باسم وزارة الخارجية الأميركية هيذر ناويرت يعطينا عناصر للجواب قد تعفينا من الافتراضات. إنها بمثابة القول الفصل الذي قد يغنينا عن التساؤل في الدواعي والخلفيات.

تقول ناويرت: "كلما مر الوقت زادت الشكوك بشأن التحركات التي اتخذتها السعودية والإمارات. في هذه اللحظة، ليس أمامنا سوى سؤال واحد بسيط: هل كانت التحركات فعلا بشأن مخاوفهم إزاء دعم قطر المزعوم للإرهاب، أم هي شكاوى تعتمل منذ فترة طويلة بين دول مجلس التعاون الخليجي؟". وتتابع: "قلنا للأطراف المعنية: دعونا ننهي هذا. لنبدأ هذه العملية؛ نشجع كل الأطراف على خفض التوتر والانخراط في حوار بنّاء".

إذا كان الأميركان -بأجهزتهم في الرصد والتتبع، وبمراكزهم في البحوث والدراسات، ناهيك عن علوّ مقامهم في معظم دول الخليج- قد استغربوا النازلة و"فوجئوا" بمسوّغ موقف السعودية والإمارات، ناهيك عن توقيته؛ فإنه ليس بإمكاننا إضافة شيء معتبر، ما دام "الملف" ذاته لا يزال رائجا بين أروقة الوزارات وعلى مانشيتات الصحف وبرامج الفضائيات. إنه أمر عصيّ على الفهم حاليا.

حسابات الموقف المغربي
في المقابل، قد يكون من الصُّدَف الخالصة أن يكون هذا التصريح متماهيا مع الموقف المغربي، لكنه هو عين ما ذهب إليه بيان وزارة الخارجية المغربية (والتونسية والجزائرية أيضا)، الذي التزم الحياد تجاه الأزمة وأطرافها، وقرر إرسال طائرات محملة بمواد غذائية لدولة قطر "تماشيا مع تعاليم الدين الإسلامي الحنيف، وما يستوجبه -خاصة خلال شهر رمضان الكريم- من تكافل وتآزر وتضامن بين الشعوب الإسلامية".

ليس لحمولة الطائرات المغربية بعد إنساني صرف، كما قد يبدو الأمر لو قارناه مع المعونات الغذائية التي قدمها المغرب لدول فقيرة عدة. فلقطر من الإمكانات ما يؤهلها لاقتناء ما تحتاجه من غذاء ودواء دون عناء يذكر، ودونما حاجة إلى المغرب. إنها رسالة من المغرب مفادها القول بأنه من المعيب وغير المقبول -كائنة ما تكن الأحقاد والضغائن القائمة- أن يصل الأمر لدرجة المس بحياة الناس، وفرض الندرة عليها قسرا، ومحاصرتها سعيا للرضوخ والإذعان.

قد يبدو من المثير حقا أن يكون للمغرب موقف من هذا القبيل، لا سيما أنه معروف بكونه من أهم الحلفاء الإستراتيجيين للسعودية، وكان من المتوقع أن يصدر عنه موقف إن لم يكن يتماهى فعلى الأقل يتماشى مع موقف السعودية بخصوص إجراءاتها تجا قطر. إذ لم يسبق للمغرب أن "خذل" السعودية، ولا لهذه الأخيرة أن ترددت في الوقوف بجانبه.

تمرس المغرب في العلاقات الدولية قد مكّنه ويمكّنه من المرونة الضرورية للعب دور الوسيط في أزمات كهذه، لا بل قل يجعله وسيطا مقبولا من طرفيْ الأزمة. إنه ينظر لمجريات الأحداث بين دولها من زاوية القدرة على إدارة الأزمات، لا من جهة التعنت والتصلب اللذين لا يستطيعان تقديم مصلحة أو درء مفسدة

ورغم أن موقف المغرب (على الأقل في ما يبدو) قد أغضب السعودية إلى حد ما (والإمارات أيضا) لدرجة إمعان بعض الفضائيات التابعة لها في استخراج ملف الصحراء، والتعامل معه من زاوية أنه ضمن ملفات تصفية الاستعمار (بدليل توظيف عبارة "الصحراء الغربية" عوض المغربية)؛ فإن الموقف المغربي إنما أذكته اعتبارات عدة، كان البعد السياسي في ظلها آخر المفكر فيه:

– الاعتبار الأول هو أن السلوك الذي ركبت دول الخليج ناصيته لمعاقبة قطر ليس هو السلوك الذي يرتضيه المغرب، ولا كان يوما محددا من محددات سياسته الخارجية، ناهيك عن أن يكون محل استلطاف منه، إذ عندما يتعلق الأمر بأزمة فبالإمكان معالجتها بالحوار المباشر، أو عبر الهياكل الإقليمية التي تنتظم فيها علاقات هذه البلدان فيما بينها أو مع المغرب.

وبالتالي، فلم يكن المغرب يوما مع تأجيج الأزمات أو النفخ في وقودها، لدرجة أنه حتى في حرب الخليج الثانية مثلا، اكتفى بإرسال كتيبة من بضعة أنفار، ولم تكن ضمن الصفوف الأمامية لقوات التحالف الدولي، "التزاما منه فقط بالشرعية الدولية"، ولعلمه المسبق بأن ذلك لن يؤثر حتما على مصير حرب إخراج صدام حسين من الكويت في حينه.

وفي السياق ذاته، فإن المغرب الذي أرسل قوات محدودة لليمن للقتال بجانب السعودية و"للوقوف مع الشرعية"، ليس مستعدا أن يتماهى دائما مع سلوكها، خاصة إن كان هذا السلوك ذا طبيعة تبدو له غير مستساغة لا في شكلها ولا في مضمونها، ناهيك عن أن تكون مبررة أو مقبولة.

– الاعتبار الثاني يتعلق بطبيعة العلاقات الاقتصادية بين المغرب وقطر، إذ تعتبر استثمارات هذه الأخيرة مهمة للغاية ضمن ما يدخل إلى المغرب من استثمارات أجنبية وعربية على وجه التحديد، ولا يبدو أن للمغرب استعدادا للتفريط فيها بمبررات لا تبدو له متينة أو ثابتة.

موقف المغرب هنا هو موقف وسط تماما كما هو موقف تونس والجزائر، لا بل وكما هو موقف سلطنة عُمان ودولة الكويت اللتين تنتميان إلى مجلس التعاون الخليجي، واللتين لم تعمدا إلى قطع العلاقات مع دولة قطر، بل إن الكويت توسّطت في الأزمة وأيدتها عُمان.

قد يكون هذا الاعتبار ثانويا بمقياس الربح والخسارة، لكنه ذو دلالة قوية مفادها أنه بإمكان المغرب -من موقع الحياد هذا- أن يلعب دور الوسيط بين الأطراف "المتنازعة"، لا سيما أن للملك محمد السادس قيمة اعتبارية كبيرة لدى قادة هذه البلدان.

– الاعتبار الثالث يتعلق بسياسة التوازن التي يحاول المغرب أن يلعبها في علاقاته مع الخارج، لا سيما مع الدول العربية في الخليج ذات الوزن الجيوسياسي أو المالي والاقتصادي…، إنه يحتاجها مجتمعة في زمن الندرة الاقتصادية، ويحتاجها أكثر في المحافل الدولية حيث لا يزال ملف الوحدة الترابية للمغرب محل مزايدة.

ويبدو من هذه الزاوية أن تمرس المغرب في العلاقات الدولية قد مكّنه ويمكّنه من المرونة الضرورية للعب دور الوسيط في أزمات كهذه، لا بل قل يجعله وسيطا مقبولا من طرفيْ الأزمة. إنه ينظر لمجريات الأحداث بين دولها من زاوية القدرة على إدارة الأزمات، لا من جهة التعنت والتصلب اللذين لا يستطيعان تقديم مصلحة أو درء مفسدة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.