فلسطين بين وثيقتين

من مؤتمر حركة حماس في الدوحة حول الوثيقة

الرؤية "الإسرائيلية" للدولة اليهودية تستند إلى سردية تاريخية مزعومة بحق اليهود في أرض فلسطين، ولا تخفي الحركة الصهيونية منطلقاتها ومبرراتها الأيديولوجية في تسويغ فكرة إيجاد دولة يهودية نقية يجتمع فيها يهود العالم كافة.

وكتاب "الدولة اليهودية" -الذي كتبه ثيودور هيرتسل ونُشر في فيينا ولايبزيغ بتاريخ 14 فبراير/شباط 1896، قبل ثمانية عشر شهرا من انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول- حدد فيه رؤيته لدولة اليهود بأنها التي تمثل "أرض التوراة الموعودة لبني إسرائيل"، ويمثل هذا الزعم أساس الرواية الصهيونية عن فلسطين.

ورغم أن هذه الرواية تبدو "أيديولوجية رومانسية حالمة قافزة فوق حقائق التاريخ"، فإن الصهيونية الأكاديمية -ممثلة في كتابها ومؤرخيها التوراتيين- تمكنت من جعل هذا التصور الخيالي "حقيقة علمية" لا تخضع للجدل.

نشأت حركات التحرر الفلسطينية رد فعل على حالة جديدة من الاستعمار تتميز بوصفها احتلال "شعب بلا أرض لأرض بلا شعب". أو كما قالت رئيسة وزراء الكيان الصهيوني السابقة غولدا مائير "لا يوجد شيء اسمه شعب فلسطيني، حتى إنه ليس علينا أن نأتي ونُخرجهم من البلاد، فهم ليسوا موجودين"

وفي مقابل هذه الأحلام، ولمواجهة المخاطر الناشئة عن برامج ومشاريع ووعود دولية لترجمة تلك الرواية؛ نشأ النضال الوطني الفلسطيني متأخرا، وفي لحظة المتغيرات التاريخية العميقة، وما رافقها من اختلال نوعي وكمي في موازين القوى لصالح المشروع الصهيوني، وبإمكانيات متواضعة على المستويات كافة في النظر الإستراتيجي والقدرات العسكرية والبيئة الإقليمية الضعيفة، نتيجة التخلف أحياناً و/أو الارتباط المشبوه بالتبعية والارتهان والعمالة أحياناً أخرى.

في هذه البيئة؛ نشأت حركات التحرر الفلسطينية رد فعل على حالة جديدة من الاستعمار تتميز بوصفها احتلال "شعب بلا أرض لأرض بلا شعب". أو كما قالت رئيسة وزراء الكيان الصهيوني السابقة غولدا مائير "لا يوجد شيء اسمه شعب فلسطيني، حتى إنه ليس علينا أن نأتي ونُخرجهم من البلاد، فهم ليسوا موجودين".

ثم نشأت منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964 بقرار من جامعة الدول العربية، وقدمت رؤيتها للصراع الفلسطيني الصهيوني عبر الوثيقة المعروفة بـ"الميثاق الوطني الفلسطيني"، التي تم التخلي عنه بعد توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993 بحجة أن الظروف الموضوعية المحلية والإقليمية والدولية لا تسمح بالاستمرار في النهج الثوري التحرري.

وكان شعار المرحلة "يا وحدنا" الذي مرر وبرر جميع المحرمات والمحظورات، وتجاوز ثوابت وحقوق الشعب الفلسطيني في التحرير وحق العودة والسيادة، وقفز فوق كل الخطوط الحمر.

وكان التمهيد لقبول هذه الحالة قد بدأ داخليا عبر عناوين الحلول المرحلية والواقعية وبرنامج النقاط العشر، وغير ذلك من المبادرات الفلسطينية والعربية، وكانت حجة القيادة الفلسطينية في قبول وتوقيع اتفاقية أوسلو -إضافة إلى ما تقدم- هو الطموح لإقامة دولة فلسطينية بعد خمس سنوات.

وفي هذه الأثناء نشأ التنافس بين حركة التحرير الفلسطيني (فتح) التي تقود منظمة التحرير الفلسطينية، وحركة المقاومة الإسلامية (حماس) التي أعلنت نفسها وبرنامجها نهاية عام 1987.

بلغ التنافس بين الحركتين (فتح وحماس) أشده وصار في ذروته، بعد أن قدمت حماس قراءتها لطبيعة الصراع، عبر ميثاقها ومن خلال عمليات مقاومة مدنية وعسكرية متميزة ومؤلمة للعدو الصهيوني.

بعد هذه المقدمة؛ يأتي دور السؤال عن وثيقة حركة حماس التي أعلنتها أمس (1 مايو/أيار)، عن ماهيّة وأهمية هذه الوثيقة؟ وهل تشكل بديلا لميثاقها؟ أو تغييراً لبرنامجها؟ وقبل ذلك لا بد من التأكيد على:

أولاً: أن النضال الوطني الفلسطيني لم يبدأ بحركة حماس، وأن الشعب الفلسطيني قدم تضحيات كبيرة ومتراكمة وعلى كل الأصعدة.

ثانياً: أن مسار المفاوضات ومسيرة التسوية قد وصلت إلى طريق مسدود، وفشلت في الوصول إلى نظرية إنهاء الصراع الفلسطيني "الإسرائيلي"، خاصة مع التوسع والاستمرار في حركة الاستيطان، وتنكب وعود قيام الدولة الفلسطينية، والتراجع عن نظرية "حل الدولتين".

ثالثاً: من المؤسف أن منظمة التحرير الفلسطينية تحولت من مشروع تحرير إلى مشروع لإقامة الدولة الفلسطينية، كما نجحت عملية تحويل السلطة الفلسطينية من مشروع لإقامة الدولة الفلسطينية إلى كيان وظيفي لخدمة الأمن "الإسرائيلي"، عبر التعاون والتنسيق الأمني لقمع المقاومة ومحاولة اجتثاثها، وفقاً لمشروع المنسق الأمني الأميركي كيث دايتون لإنتاج الإنسان الفلسطيني الجديد.

رابعاً: أن انتكاسة الربيع العربي، وقيام الثورات المضادة، وانشغال الشعوب العربية بألم القمع الدموي الذي وصل بالتأكيد إلى مستوى جرائم الحرب، وما يرافقه من معاناة القتل والتشريد والتعذيب والسجون؛ كل ذلك ساهم -بشكل تلقائي- في تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية ودعم المقاومة.

خامساً: نتيجة لتباين المواقف من ثورات الربيع العربي، وما نشأ عن ذلك من إعادة الفرز في المواقف والاصطفاف، فقد تراجع دعم القضية الفلسطينية على جميع المستويات.

سادساً: نشوء نظرية العدو البديل، حيث نجحت "إسرائيل" في تسويق فكرة أن الإرهاب هو العدو الحقيقي الذي يهدد الجميع، وأن مواجهة هذا العدو تتطلب تعاوناً وتنسيقاً معها لدرء مخاطر التطرف، الذي اقترن بالإسلام نتيجة لممارسات حركات أصولية إسلامية متطرفة.

إذا بقيت حركة حماس متمسكة بأهدافها المتمثلة في التحرير، فلا مانع من مراجعة وتطوير الميثاق الذي كُتب في ظروف مختلفة، وخاصة بعد تراكم التجربة السياسية، وتوسع العلاقات الدبلوماسية، وتطور القدرات الميدانية

وإلى ذلك؛ فإن تمدد النفوذ الإيراني في بعض الدول العربية (لبنان، سوريا، العراق، اليمن) ساهم في انحراف بوصلة المواجهة، وتسلل خطاب يتبنى تصنيف إيران بأنها هي العدو الأول الذي يُحْذر، وأن خطر ما يُوصف بمشروع إيران "الصفوي المجوسي الشيعي" مقدم على خطر المشروع الصهيوني.

ولا شك أن هذا الانحراف يُعد نجاحاً للفكر الصهيوني وللمصلحة "الإسرائيلية"، خاصة بعد اعتماد بعض الإسلاميين لهذا الطرح.

أخيراً؛ هل هذه المعطيات هي التي دفعت حركة حماس لتقديم وثيقتها السياسية الجديدة؟

مع الاحترام لأصحاب التخوفات والتوجسات من عملية الانقلاب الفكري التي تبدأ من الحنجلة ثم تتحول إلى مسارات الضلال؛ فإن تجاهل هذه العوامل يُعتبر من إنكار المعلوم الظرفي بالضرورة.

ليست هذه العوامل وحدها هي التي قادت حركة حماس لإنتاج وثيقتها السياسية الجديدة، ولا شك أنها -بالإضافة إلى أسباب أخرى- دفعت الحركة لإعادة تقديم ذاتها، غير أن ذلك لا يعني تطويع الحركة لإكراهات اللحظة الراهنة، ولا يعني انسلاخها من ثوابتها أو ردتها عن أهدافها.

وإذا بقيت الحركة متمسكة بأهدافها المتمثلة في التحرير، فلا مانع من مراجعة وتطوير الميثاق الذي كُتب في ظروف مختلفة، وخاصة بعد تراكم التجربة السياسية، وتوسع العلاقات الدبلوماسية، وتطور القدرات الميدانية.

وعلى أهمية الفكر السياسي لأي حركة أو النظرية الإستراتيجية لأي دولة؛ فإن ذلك وحده لا يكفي لتحقيق الأهداف وإنجاز الطموحات أو ترجمة الأحلام. ويبدو أن مقولة إرنست همنغواي في رائعته "الشيخ والبحر" صحيحة: "الموتى والحمقى هم الذين لا يغيرون آراءهم أبدا".

ربما تأخرت حركة حماس في تقديم وثيقتها السياسية الجديدة.. ولكنها فعلتها، فهل سيُشكل ذلك دافعا لباقي الحركات الإسلامية لتقديم مقارباتها الفكرية السياسية؟

رغم وجود حالة رفض ومقاومة داخل الحركات الإسلامية لأفكار المراجعة والتطوير والتغيير من الذين يُصنفون بأنهم "حراس الثوابت"؛ فلا شك في أن الحركات الإسلامية تعيش مخاضات صعبة، وأن مناخات الربيع تقيم في فضاءاتها، ودوافع التقويم والمراجعة تنتعش في محاضنها.

حركة المراجعات ليست عيبا وليست مطلوبة من الحركات الإسلامية فقط، ولكنها مطلوبة من جميع الأحزاب والمؤسسات والدول باعتبارهم كائنات حية، تحكمهم قوانين السببية ونواميس الكون التي هي قاهرة بالتأكيد لمن صادمها.

تحقيق الأهداف ليس بالتمني والقعود، وإنما بوضوح الرؤية والعمل الجاد وليس انتظار المهدي أو المخلص. قواعد الحركة الميدانية هي التي تحكم مستقبل الصراع: "ليْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۗ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.