العرب وروسيا.. تجربة العهد السوفياتي وإشكالاتها
محددات العلاقات العربية السوفياتية
تجربة السوفيات مع حزب البعث
مكوّن العلاقات العربية السوفياتية
هل كانت العلاقات إستراتيجية؟
كيف يُمكن النظر إلى تجربة العلاقات السوفياتية العربية؟ وما هي أهم مكوناتها؟ وهل بلغت مرحلة العلاقة الإستراتيجية؟ وما هو مستقبل العلاقات العربية مع روسيا ما بعد السوفياتية؟
محددات العلاقات العربية السوفياتية
يُمكن النظر إلى تجربة علاقات الاتحاد السوفياتي بالدول العربية باعتبارها نوعاً من الرهان الجيوسياسي؛ إذ لم ترتكز هذه العلاقات على مبدأ المصالح المتبادلة أو القيم المشتركة.
كما أن هذه العلاقات لم تصل -في يوم من الأيام- إلى مستوى الشراكة، إما لتباين الخيارات السياسية والأيديولوجية كما في تجربة العلاقة بسوريا والعراق، أو لكونها أشبه بعملية دعم من جانب واحد لا وجود لشريك قوي في طرفها المقابل، كما في حالة الصومال.
القضية هنا عبارة عن مقايضة النفوذ الجيوسياسي بالدعم العسكري والاقتصادي. وهذه عموماً فلسفة علاقة السوفيات بكافة حلفائهم في العالم.
لقد كانت الحرب الباردة -بمضامينها السياسية والأيديولوجية- قوة الدفع الأساسية للعلاقات السوفياتية العربية، وبانتهاء هذه الحرب فقدت العلاقات قوتها، وبات لزاماً إعادة توجيه مسارها.
وفي المجمل؛ لم تكن الروابط السوفياتية مع "الحلفاء" العرب على حال واحد، بل كانت لكل دولة خصوصياتها التي فرضت نمطاً محدداً من التفاعلات. وأبرز هذه الخصوصيات اتجاهات سياستها الخارجية.
كذلك، كان للجغرافيا السياسية -أو الجيوبوليتيك التقليدي- بوجه عام دور في تحديد مستوى الروابط السوفياتية مع الحلفاء العرب. والمعيار هنا ليس الوزن الجيوبوليتيكي العام للدولة، بل علاقة هذا الوزن بالجيوبوليتيك السوفياتي ذاته، أو لنقل بالرهان الجيوسياسي السوفياتي في سياقه الدولي.
ومن أهم العوامل المؤثرة في العربية السوفياتية الإطارُ الأيديولوجي للدول العربية، أو بالأصح التباين الأيديولوجي. فرغم أن الرهان السوفياتي كان رهاناً جيوسياسياً، فإن الأيديولوجيا مثلت فيه معضلة غير منطوق بها.
تجربة السوفيات مع حزب البعث
وباستثناء تجربة مجموعة عبد الفتاح إسماعيل في عدن (اليمنالجنوبي سابقا) ما بعد عام 1978؛ لم يكن للسوفيات أي شريك "طبقي" في الوطن العربي.
كان للجغرافيا السياسية -أو الجيوبوليتيك التقليدي- بوجه عام دور في تحديد مستوى الروابط السوفياتية مع الحلفاء العرب. والمعيار هنا ليس الوزن الجيوبوليتيكي العام للدولة، بل علاقة هذا الوزن بالجيوبوليتيك السوفياتي ذاته، أو لنقل بالرهان الجيوسياسي السوفياتي في سياقه الدولي |
وقبل ذلك التاريخ بنحو عشرين عاماً، اقترح الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف على الرئيس المصري جمال عبد الناصر تبني "الاشتراكية العلمية" لتغدو العلاقات المصرية السوفياتية أكثر انسجاماً، إلا أن عبد الناصر اعتذر قائلاً إن هذه الاشتراكية لا تنسجم مع دين الدولة.
وكذلك الحال في ليبيا، لم تكن هناك أية اشتراكية مطابقة للمعايير المتعارف عليها، كما لم يكن هناك أي وجود لأي حزب طبقي. وفي العراق، كان على السوفيات التعامل مع حزب قومي يعد في الأصل نقيضاً للأحزاب الشيوعية، وخصماً سياسياً وأيديولوجياً لها، ونقصد بذلك حزب البعث العربي الاشتراكي.
كان المرغّب في الحالة العراقية بالنسبة للسوفيات هو أن هناك حزبا شيوعيا محليا قويا، وله حضور وعلاقات دولية واسعة وامتدادات تتجاوز الساحة المحلية إلى ما وراءها.
بُعيد عودة حزب البعث إلى السلطة في بغداد عام 1968، اصطدم الشيوعيون عسكرياً بالبعث في تجربة عزيز الحاج الشهيرة في الأهوار، وقد احتوى البعثيون هذه الحركة بإعطاء الحاج نفسه منصباً دبلوماسياً. وبعد سنوات دخل الشيوعيون في الجبهة القومية التقدمية التي قادها البعث، وشاركوا في الحكومة بعدد من الوزراء.
كان للعلاقات السوفياتية العراقية -التي ازدهرت على نحو سريع- دورها في مسار التطورات السياسية ببغداد. ودفع هذا الواقع موسكو لأن تطلب من حكومة الرئيس أحمد حسن البكر أن يكون الحزب الشيوعي العراقي بوابة العلاقات السوفياتية العراقية. غضب العراقيون لأنهم اعتبروا ذلك تدخلاً في الشؤون الداخلية، وحدثت أزمة صامتة لم يعلنها أي طرف.
وفي سوريا، كان للسوفيات تجربة أخرى على صعيد علاقتهم بحزب البعث، بدت متباينة شكلاً ومضموناً عن نظيرتها العراقية، إذ لم يكن للشيوعيين السوريين -رغم قدم تجربتهم- ثقل مماثل لرفاقهم العراقيين. ولم يكن من الوارد أن يراهن عليهم السوفيات كبوابة لحضورهم في الدولة أو المجتمع.
كان البعد الأهم بالنسبة للسوفيات هو متغير علاقتهم بالبعث ذاته، حيث شهدت هذه العلاقة ثلاث تجارب متفاوتة: كانت الأولى بين 8 مارس/آذار 1963 و22 فبراير/شباط 1966، حيث كانت القيادة القومية للحزب في سوريا (كما بالعراق) تحت سلطة ميشيل عفلق وصلاح البيطار.
في هذه المرحلة، هيمنت الوساوس على علاقة السوفيات بحزب البعث، وكانت أزمته (أو تجربته المرة) في العراق، وتوتراته مع الرئيس جمال عبد الناصر، سبباً آخر في إذكاء هذه الوساوس.
في فترة ثنائي صلاح جديد/نور الدين الأتاسي -التي بدأت بإسقاط عفلق والبيطار، وخروج القيادة القومية القديمة- هيمن الخطاب الطبقي على البعث على نحو اقترب فيه من المقولات اللينينية. وجرى على المستوى السياسي التماهي مع الكتلة الاشتراكية وفي مقدمتها الاتحاد السوفياتي، الذي زاد من تعاونه الثقافي الأيديولوجي مع بعث دمشق الجديد.
وبعد وصول الرئيس حافظ الأسد إلى السلطة في نوفمبر/تشرين الثاني 1970 حدث تحول في بنية البعث بسوريا على الصعيدين الفكري والسياسي، رغم استمرار مقررات المؤتمر القومي السادس (1963) كدليل لخيارات الحزب.
هنا، ابتعدت علاقات السوفيات مع البعث السوري عن السياق الأيديولوجي الذي كانت عليه فزادت مضامينها السياسية، وسقطت عملياً الفواصل بين الحزب والدولة، وانتهى ثنائي المكتب السياسي/المكتب العسكري. وبات السوفيات يتعاملون مع جهة واحدة.
مكوّن العلاقات العربية السوفياتية
تمثل المكون الأهم لعلاقات السوفيات مع حلفائهم العرب في الدعم العسكري. وقد اتخذ هذا الدعم أشكالاً وصيغاً عدة، منها التسليح والتدريب وإيفاد الخبراء والمستشارين، واستقبال الضباط في المعاهد والكليات الحربية السوفياتية، وتشييد الصناعات العسكرية أو توطينها.
يُمكن القول إن السوفيات شيدوا في بعض الدول العربية قدرات دفاعية متفاوتة المستوى والاتجاه، لكنهم لم يؤسسوا لعقيدة عسكرية منسجمة مع فلسفتهم، والسبب الأساسي في ذلك هو العوائق والمحددات السياسية والمادية. فلا يوجد اليوم جيش عربي على نسق جيوش الاتحاد السوفياتي أو دول الكتلة الاشتراكية |
ومع ذلك، يُمكن القول إن السوفيات شيدوا قدرات دفاعية متفاوتة المستوى والاتجاه، لكنهم لم يؤسسوا لعقيدة عسكرية منسجمة مع فلسفتهم، والسبب الأساسي في ذلك هو العوائق والمحددات السياسية والمادية. وهذه مسألة هامة قلما جرى الالتفات إليها، فلا يوجد اليوم جيش عربي على نسق جيوش الاتحاد السوفياتي أو دول الكتلة الاشتراكية.
في هذه التجربة، يُعتبر السوفيات مسؤولين عن الجانب الأكبر والأهم من البنية العسكرية العراقية خلال 1958-1990. ورغم أن العراق أدخل السلاح الغربي -خاصة الفرنسي- في تشكيلاته العسكرية، فإنه ظل مكوناً ثانوياً قياساً بالمكون السوفياتي.
بعد ذلك، تمثل المتغير الأهم في العلاقات العراقية السوفياتية في انفتاح العراق على الولايات المتحدة اعتباراً من عام 1984، وانفتاحه في الفترة ذاتها على دول مجلس التعاون الخليجي.
هذا التحول في سياسة العراق الخارجية أفقد علاقته بالسوفيات أحد مبرراتها التي تشكلت في ضوئها، وصارت علاقات موسكو ببغداد في الثمانينيات في أضعف مراحلها، رغم تواصل عمليات التسليح بوتيرة عالية، وإن اقتربت من الطابع التجاري من حيث الجوهر.
في سوريا، ساهم السوفيات بشكل متعاظم في بناء الجيش والقدرات العسكرية، خاصة بعد وصول حافظ الأسد للسلطة وتحديداً بين عامي 1970-1973، فوتيرة التسلح في هذه المرحلة لم يكن لها نظير في أية تجربة للاتحاد السوفياتي، حتى مع حلفائه في الكتلة الاشتراكية.
والسبب في ذلك أن الجيش السوري جرى رفع تعداده حينها إلى حوالي ثلاثة أمثال ما كان عليه. وأدخل السوفيات لسوريا أشكالاً مختلفة من الأسلحة والعتاد، بينها أنظمة دفاع جوي لم يكونوا قد أخرجوها من قبل من الأراضي السوفياتية إلى أية دولة، وقد تم ذلك في سرية بالغة.
بعد عام 1973، وسّع السوفيات دورهم في الصناعات العسكرية السورية، وباتوا مسؤولين عن كافة مكوناتها تقريباً. كما جرى تشييد منشأة طرطوس للصيانة والإمداد لخدمة الأسطول السوفياتي في البحر الأبيض المتوسط.
التجربة السوفياتية في سوريا تُعد ذات دلالة خاصة، كونها مثلت رهاناً جيوسياسياً متعاظماً، ارتبط بالإستراتيجية العالمية للاتحاد السوفياتي كدولة عظمى.
هل كانت العلاقات إستراتيجية؟
دعونا الآن نطرح السؤال التالي: كيف يُمكن وصف تجربة علاقة السوفيات بحلفائهم العرب؟ وهل كانت علاقة إستراتيجية؟ هذا سؤال هام، لكنه صعب للغاية.
والسبب الرئيسي في الصعوبة يعود إلى إشكالية المصطلح ذاته، فتعريف العلاقة الإستراتيجية يُمكن إحالته إلى معايير متفاوتة بالنسبة لبعض الأدبيات، كما لدى عالم السياسة الأميركي كارل دويتش، في حين يرى آخرون أنه حصيلة تجميعية لعدد من المعايير.
ليس من السهل تأكيد الطابع الإستراتيجي من عدمه على مستوى تجربة علاقات السوفيات بحلفائهم العرب، بيد أنه يُمكن القول إنها كانت علاقات وثيقة ترتبت عليها نتائج إيجابية. بيد أن تطور الأمم والشعوب عملية تراكمية، والأزمات الأمنية والطبيعية قد تحد من هذا التطور أو تنال منه، أو توقفه فترة من الزمن |
كانت العلاقات السوفياتية العربية علاقات متقدمة بالمعيار العسكري. وكان للسوفيات أيضاً دورهم في تشييد البنية الصناعية التحتية، والبنية الإنشائية، والسدود والبحيرات الاصطناعية، ومحطات الطاقة، والمعاهد العلمية. هذا فضلاً عن صادراتهم الكبيرة من السلع والبضائع الغذائية والدوائية والصناعية.
وفي المقابل، كان هناك تباين أيديولوجي، وتفاوت في العقيدة السياسية، وأحياناً توتر كامن أو معلن في العلاقات الدبلوماسية، كما في تجربتيْ العراق وسوريا. كما كان هناك تناقض صريح على مستوى طيف من الخيارات الخارجية: إريتريا وأفغانستان والقضية الفلسطينية.
وعلى سبيل المثال، كانت دمشق وبغداد تحتضنان -في أوج علاقات السوفيات بسوريا والعراق- جبهة التحرير الإريترية بزعامة المرحوم صالح سبي، وكان الدعم السوري والعراقي صريحاً ومعلناً للثورة الإريترية ضد حكم منغستو هيلا مريم الحليف القوي للاتحاد السوفياتي.
في المحصلة، ليس من السهل تأكيد الطابع الإستراتيجي من عدمه على مستوى تجربة علاقات السوفيات بحلفائهم العرب، بيد أنه يُمكن القول إنها كانت علاقات وثيقة ترتبت عليها نتائج إيجابية. بيد أن تطور الأمم والشعوب عملية تراكمية، والأزمات الأمنية والطبيعية قد تحد من هذا التطور أو تنال منه، أو توقفه فترة من الزمن.
وفي الأخير يبقى السؤال المطروح هو: أي مستقبل للعلاقات العربية مع روسيا ما بعد السوفياتية؟
قد يكون مستقبل العلاقات العربية الروسية أفضل حالاً من التجربة السوفياتية، لكونه يرتكز على طيف من الخيارات الاقتصادية والسياسية، ولأنه بعيد عن أي نزوع أيديولوجي. ورغم ذلك، لا يجوز تبسيط الأمور؛ فالمسألة السورية ستبقى حاسمة في تشكيل مستقبل روسيا ودورها في الشرق الأوسط عامة.
سوريا الآن هي مركز نفوذ روسيا في الشرق، ووجودها العسكري فيها لا مثيل له سوى في أرمينيا وطاجيكستان. هذه قضية يُبنى عليها الكثير في الحسابات الجيوسياسية والإستراتيجية، والقوى الكبرى في العالم تدرك ذلك دون ريب، كما يدرك الجميع أن الأزمة السورية خلقت واقعاً جديداً لم يكن في حسبان أحد.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.