معركة الموصل.. إنجازات وإخفاقات

Smoke rises from the old city during a battle against Islamic State militants, in Mosul, Iraq, March 26, 2017. REUTERS/Youssef Boudlal

بداية، يقتضي المقام الإشارة إلى الأهمية الجغرافية والإستراتيجية والاقتصادية والديمغرافية لمدينة الموصل عاصمة محافظة نينوى.

تقع الموصل في شمال العراق، وهي أكبر المدن العراقية بعد بغداد، تبعد نحو مئة كلم عن الحدود التركية، ومثلها تقريبا عن الحدود السورية، وعشرات الكيلومترات عن أربيل عاصمة إقليم كردستان.
ويخترق الموصل نهر دجلة الآتي من الشمال، وتسمية الجانبين الأيمن والأيسر تأتي بالنظر إلى تدفق النهر من الحدود التركية.

سقطت الموصل بيد داعش (تنظيم الدولة الإسلامية) عام 2014 دون جهد ودون قتال يذكر، وغنم التنظيم أسلحة متطورة تقدر بمليارات الدولارات.

للموصل أهمية اقتصادية بالتجارة مع تركيا، وأهمية ديمغرافية كونها مع كامل المحافظة معقلا أساسيا للعراقيين العرب السنة، وكانت المدينة ولا تزال مركزا لطموحات تركيا إذا لم نقل أطماعها، وبدا ذلك واضحا في كتاب عبد الله غول، وإستراتيجية أحمد داود أوغلو.

عندما أعلن الرئيس العراقي حيدر العبادي انطلاق معركة تحرير الموصل تحت عنوان "قادمون يا نينوى" في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي وحدد ثلاثة أشهر على الأكثر لانتهاء عملية التحرير بدأت عملية إحكام الحصار لاحقا على المدينة بعد أكثر من شهر من التقدم العسكري في المحافظة من جهات عدة، البشمركة من الشرق، والحشد الشعبي من الغرب، والقوات العراقية من الجنوب والشمال، ثم أعلن رئيس الحكومة العراقية أنه ليس على التنظيم سوى الاستسلام أو الموت.

بلغت معركة الموصل ذروتها، وانتقلت إلى المرحلة الأصعب، ويرى الخبراء والمراقبون أن إعادة النظر بالتكتيك المتبع لم تعد خيارا بل ضرورة وواجبا، لأن قتال الشوارع والمدن هو فصل خاص في كتاب الحرب، وهو اختصاص تقوم به وحدات خاصة ومدربة وبأسلحة خفيفة

توقف بعض المراقبين والخبراء العسكريين -ونحن منهم- عند هذا التحذير بالقول إن المعركة ستكون ضارية جدا بلا ريب، والأثمان باهظة بالبشر والحجر، فالمدينة يقطنها نحو مليون إنسان في شقيها، وإذا لم يترك منفذ لخروج التنظيم بعد قناعته بأن لا جدوى من القتال -كما حصل قبل ذلك في الرمادي ثم في الفلوجة وكما حصل في جرابلس شمالي سوريا– فإنه سيستميت في القتال، وسألنا في حينه وعلى شاشات التلفزة العراقية -وأكثر من مرة- هل الهدف تحرير الموصل؟ أم احتلالها وفي أسرع وقت ومهما كان الثمن؟

الواقع، بعد تحرير العشرات من القرى والدساكر في محيط الموصل -باستثناء حمام العليل- انسحب التنظيم الذي كان يقاتل قتالا تأخيريا (Slow Down Combat) إلى المدينة بعد زرع الأفخاخ والألغام وإقامة الكمائن والإغارة بعربات مفخخة أربكت القوات المهاجمة وأخرت تقدمها.

تم تحرير الجانب الأيسر -أي الشرقي من مدينة الموصل– بسرعة أكبر وخسائر أقل مما توقعه المراقبون، وكان ذلك لسببين أساسيين، أولهما جغرافي، حيث المباني متباعدة إلى حد ما، وثانيهما أن الأبواب كانت مفتوحة أمام وحدات التنظيم للانسحاب إلى القسم الغربي عبر أربعة جسور رئيسية قام بنسفها بعد عبوره.

بعد أن حشر تنظيم داعش في وسط المدينة القديمة وبمنطقة تقل عن نصف هذا الجانب مساحة بدت المعركة أكثر شراسة وأكثر صعوبة لضيق الشوارع والأزقة التي عسكريا -ودون نقاش- هي لصالح من يقوم بجدارة بتكتيك حرب العصابات، وليس لأي جيش نظامي، ولا سيما باستمرار وجود مئات الآلاف من المدنيين (نحو أربعمئة ألف) تطلب منهم الحكومة العراقية البقاء في منازلهم.

مما لا شك فيه أن تنظيم داعش خسر الكثير في هذه المعركة، وهذا طبيعي في معركة يشترك فيها أكثر من مئة ألف من القوات العراقية من جيش الفرقة الـ19، والشرطة الاتحادية، وقوات مكافحة الإرهاب، بالإضافة إلى المليشيات المساندة من الحشد الشعبي والبشمركة (خارج المدينة)، وقوات التحالف الدولي بالمساندة الجوية، وأكثر من أربعة آلاف جندي وضابط أميركي، ولكن لا يزال التنظيم يراهن على الأخطاء، ومنها الخسائر البشرية الهائلة التي أثارت ولم تزل تثير ضجة كبرى وتبادل الاتهامات والتنصل من المسؤولية بين القوات العراقية وقوات التحالف، حيث قال الأميركيون إن الإحداثيات للأهداف تعطى من الجانب العراقي، بحيث توقف القصف الجوي أو كاد وتفرمل الهجوم.

كما استفاد داعش ويستفيد من التناقضات والتفاوت بين القوى المهاجمة في التسليح والتكتيك والكفاءة القتالية والانتماء، مما يؤثر على القيادة والسيطرة رغم أن غرفة العمليات المشتركة تعمل بكفاءة مقبولة.

إن معركة الموصل بلغت ذروتها، وانتقلت إلى المرحلة الأصعب، ويرى الخبراء والمراقبون أن إعادة النظر بالتكتيك المتبع لم تعد خيارا بل ضرورة وواجبا، لأن قتال الشوارع والمدن هو فصل خاص في كتاب الحرب، وهو اختصاص تقوم به وحدات خاصة ومدربة وبأسلحة خفيفة، والقصف الجوي دون دقة واعتماد القنابل الذكية هو تدمير شامل، والآليات والمدرعات لا مكان لها في أزقة كهذه ومع عدو هكذا.

وإن فتح المنفذ لانسحاب من تبقوا من التنظيم حتى لو أتى متأخرا فإنه قد يجنب ما تبقى في المدينة مزيدا من التدمير، ومن تبقوا من المواطنين مزيدا من الإبادة.

عاجلا أم آجلا ستنتهي معركة تحرير الموصل، سينسحب من تبقى من التنظيم إلى تلعفر وربما إلى سنجار، ولن ترسم بذلك نهاية الحرب في العراق حتى بعد انسحابه كتشكيلات عسكرية من كافة الأراضي العراقية إلى الأراضي السورية في أغلب الظن، حيث المعركة الفاصلة المرتقبة، سواء في الرقة أو الميادين

تؤكد المعلومات الآتية من ساحة المعركة ومنذ البداية أن الحشد الشعبي الذي قام بدور فاعل في تحرير القسم الغربي من محافظة نينوى وأطراف الموصل التي لم يدخلها ولن يدخلها، والذي يحاصر التنظيم في مدينة تلعفر، ويقوم بتطهير المنطقة الفاصلة مع الموصل كان وراء الإصرار على عدم فتح أي منفذ لخروج داعش من المدينة خشية انتشاره في البادية العراقية وانسحابه إلى الأراضي السورية.

عاجلا أم آجلا ستنتهي معركة تحرير الموصل، أسابيع ربما.. لا يمكن تحديدها، كما لا يمكن تحديد الخسائر، سينسحب من تبقى من التنظيم إلى تلعفر وربما إلى سنجار، ولن ترسم بذلك نهاية الحرب في العراق حتى بعد انسحابه كتشكيلات عسكرية من كافة الأراضي العراقية وإلى الأراضي السورية في أغلب الظن، حيث المعركة الفاصلة المرتقبة، سواء في الرقة أو الميادين، أو أي مكان يسعى إلى انتقائه في البادية السورية التي يسيطر حاليا على معظمها، كما يسيطر على أكثر من خمسمئة كلم من الحدود العراقية السورية ومعابرها.

لأن تنظيم داعش الذي عرف بقدراته القتالية وتكتيكاته المتعددة سينتشر في الأراضي العراقية بما تسمح به الجغرافيا والديمغرافيا، وهي الاختباء والإغارة بمجموعات صغيرة بتكتيك حرب العصابات وبمجموعات أصغر ضمن خلايا إرهابية نائمة، حيث يجد بيئة حاضنة في أكثر من مكان كما حصل في الرمادي بعد تحريرها، وكما يحصل من عمليات إرهابية بالعاصمة بغداد من وقت لآخر.

وأخيرا وليس آخرا، يطرح السؤال: هل طرد داعش من الأراضي العراقية وانتهاء العمليات العسكرية يعنيان انتهاء الحرب في العراق؟

والجواب كما ذكرنا أنها ربما ستنتهي فوق الأرض، إنما ستبقى تحتها وإلى وقت غير قصير.
والواقع أن العراق سيواجه بعد الموصل تحديات جمة أخرى، منها -على سبيل المثال لا الحصر- الوجود العسكري التركي من بعشيقه إلى الحدود التركية، ووجود قوات البشمركة الكردية في الأراضي العراقية (المتنازع عليها) بعد التحرير، وهل ستبقى أم تعود من حيث أتت؟ وهذا مستبعد، ثم ما هو مصير الحشد الشعبي الذي يطالب البعض بتفكيكه وتسريحه بعد انتهاء المعارك؟

إن هذه التحديات وغيرها يستوجب كل منها دراسة وتحليلا ومقالا، ولكل مقام مقال.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.