ثورة أكتوبر في روسيا ما بعد الحقيقة
روسيا الآن هي في خضم معركة بين التاريخ الرسمي (قصة الدولة) والتاريخ المضاد (قصة المجتمع المدني وذكريات الناس) ومع حلول الذكرى المئوية لثورة أكتوبر فإن هذا الصراع سيصبح في قلب الحياة العامة.
إن الرئيس فلاديمير بوتين هو تجسيد للحنين ليس بالضرورة للاتحاد السوفياتي بل الحنين لفترة تقديس الدولة والذي جعل الحكومة تستخدم بلغة عصرية "أخبارا كاذبة" من أجل تحقيق أهدافها، وفي واقع الأمر فإنه يتم تذكر ثورة أكتوبر (الثورة البلشفية، 1917) بمشاعر تفيض بالتناقض والخوف حيث تبغض النخب الروسية كلمة "ثورة" والتي عادة ما تتبعها ألقاب مثل "البرتقالية" أو "الملونة" وهي بمثابة بعبع لنظام بوتين، وفي الوقت نفسه كانت الثورة لحظة مهمة في تاريخ روسيا مما يعني أنها أهم مصدر للهوية الوطنية.
بالنسبة للحزب الشيوعي فإن الذكرى هي فرصة سانحة لتقديم نفسه كخليفة لتقليد طويل وعظيم من التقاليد المعادية للرأسمالية، وإن كان التقليد الآن هو عبارة عن خليط من التعاليم الماركسية اللينينية وتعاليم الكنيسة الأرثوذكسية الروسية ولكن الحزب الشيوعي لم يعد في السلطة، وبالنسبة لأولئك الموجودين في السلطة فإن صياغة نهج متماسك لهذه الذكرى المئوية هي عملية أصعب بكثير.
يتم تذكر ثورة أكتوبر (الثورة البلشفية) بمشاعر تفيض بالتناقض والخوف حيث تبغض النخب الروسية كلمة "ثورة" والتي عادة ما تتبعها ألقاب مثل "البرتقالية" أو "الملونة" وهي بمثابة بعبع لنظام بوتين، وفي الوقت نفسه كانت الثورة لحظة مهمة في تاريخ روسيا مما يعني أنها أهم مصدر للهوية الوطنية |
نظرا للأهمية التاريخية للثورة فإن الكرملين لا يستطيع تجنب الاحتفاء بها، ولكن عوضا عن محاولة التوصل لمصالحة بين الخصوم -الحمر والبيض- فمن المرجح أن يقف النظام مع أحد الأطراف من أجل تطويع القصة بما يخدم مصلحته، ومن المرجح أن يكون هذا التطويع إمبرياليا.
طبقا للطرح المتعلق بالإمبراطورية فإن فلاديمير لينين كان عبقريا شريرا نجح في تعطيل الإمبراطورية في وقت كانت روسيا فيه تزدهر ومليئة بالروحانية، وقام جوزيف ستالين بعد ذلك بإعادة بناء الإمبراطورية ظاهريا على أساس الماركسية اللينينية، ولكن في الواقع قام ببنائها على أساس القيم الروسية التقليدية المحافظة.
إن ما قام به نيكيتا خروتشوف في مرحلة ما بعد ستالين من "إذابة للجليد" عندما تم التخفيف من القمع والرقابة أدى إلى تقويض القيم الأساسية للإمبراطورية، كما أهمل خروتشوف عندما أعطى شبه جزيرة القرم لأوكرانيا، ولكن من نهاية سنة 1964 عندما تمت الإطاحة بخروتشوف تحسنت الأمور وأصبح الروس يعيشون بهدوء وسعادة. إن سقوط الاتحاد السوفياتي والذي مثل تعطيلا آخر للإمبراطورية كان كارثة جيوسياسية كبيرة في تاريخ روسيا.
طبقا لهذا التفسير فإن العصور الجليدية في التاريخ الروسي-عندما حكم القادة بدم بارد وبقبضة حديدية- هي جيدة للبلاد، وفترات إذابة الجليد -فترات الديمقراطية والتحديث- هي فترات سيئة تميزت بالعنف والتعطيل. إن كل إشارات نظام بوتين للحقبة الستالينية يجب أن تعزز صورة بوتين كدكتاتور عصري يحب الخير، وقادر على استعادة نفوذ روسيا العالمي وجلب الازدهار لها.
لقد دفع هذا الطرح بعض السلطات المحلية لبناء نصب تذكارية لستالين وإيفان الرهيب بينما احتفت السلطات الفيدرالية بإقامة نصب تذكاري لفلاديمير العظيم الذي أدخل الأرثوذكسية لمنطقة كييفان رس، ومن حسن الطالع أنه يشترك بالاسم نفسه مع الرئيس الحالي.
بهذا المعنى يكون التاريخ أقوى من السياسات حيث تقوم الدعاية بالتركيز على الانتصارات العسكرية لروسيا والتي يمتد تاريخها لألف عام (حقوق النشر: فلاديمير بوتين) وذلك من أجل تعزيز صورة روسيا كقلعة محاطة بالغرب العدائي. أما الحرب العالمية الثانية والتي أدت إلى ظهور ديمقراطية ليبرالية امتدت لسبعين عاما في غرب أوروبا فيتم استخدامها في روسيا لإضفاء الشرعية على النظام الاستبدادي الحالي.
إن الهدف من تمجيد الماضي هو التعويض عن العواقب السياسية للإداء الاقتصادي السيء؛ لقد تعزز موقف بوتين بعد ضمه لشبه جزيرة القرم، وهي خطوة دافع عنها من منطلق تاريخي على الرغم من التأثير المدمر لتلك الخطوة على الاقتصاد الروسي |
إن الهدف من تمجيد الماضي هو التعويض عن العواقب السياسية للإداء الاقتصادي السيء؛ لقد تعزز موقف بوتين بعد ضمه لشبه جزيرة القرم، وهي خطوة دافع عنها من منطلق تاريخي على الرغم من التأثير المدمر لتلك الخطوة على الاقتصاد الروسي، ونظرا لأن ذلك التأثير جاء من خلال العقوبات الغربية بشكل عام فإن ذلك يناسب تماما الطرح الإمبريالي لبوتين.
لكن ما عدا السيرة الذاتية للدولة -قصص الحرب والمدافع والقادة العسكريين ورجال الدولة والتراتبية الإدارية وبناء الإمبراطورية التي تشكل التاريخ الرسمي الروسي- فإن هناك تاريخا آخر، هو تاريخ الحرية الذي يتضمن قصصا وذكريات لأناس عاديين ومنشقين ومفكرين مستقلين.
يسعى النظام في معركته التي يستخدم فيها التاريخ المضاد أن يؤمم القصص والسير الذاتية الشخصية؛ فعندما انضم بوتين لمسيرة كتيبة "بيسميرتناي بولك" أو الكتيبة الخالدة والتي يقوم فيها المواطنون بإحياء ذكرى أحبتهم الذين قضوا في الحرب العالمية الثانية، قام بوتين بتحويل المناسبة لمبادرة من الكرملين.
لكن مثل تلك الجهود لا تستطيع أن تحجب التصادم بين هذين التاريخين حيث -ربما- ينعكس ذلك بشكل أكثر وضوحا في الانقسام بين المحافظين والليبراليين على إدانة القمع الستاليني، كما أنه يظهر في المناقشات المتعلقة بالحرب العالمية الثانية أو الحرب الوطنية العظمى كما يسميها الروس وفي فترة التسعينات المضطربة، وبهذا المعنى فمن الممكن أن ينظر إلى ذكرى ثورة أكتوبر على أنها مناسبة ثانوية على الرغم من رمزيتها.
مهما يكن من أمر فإن الذكرى المئوية ستقدم لبوتين فرصة تعزيز طرحه المفضل وهو أن روسيا والتي كانت دائما الأعظم تحت حكم قادة وطنيين أقوياء تعود الآن للعظمة بفضل القوة الذي قام بوتين بنفسه بتعزيزها. هذا هو التاريخ على الطراز الروسي وهو الاستفادة من الماضي لأغراض تتعلق بالحاضر.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.