بين ترمب ومرسي.. هل حركات الصحوة الإسلامية يمينية شعبوية؟

midan - الإخوان المسلمين

المقارنة بين الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس مصر المنقَلَب عليه محمد مرسي فيها حيفٌ وعدلٌ في آنٍ، وهو ما يقتضي بيانه صبرا من القارئ الكريم.

أما الظلم، فذلك لأن مرسي أكاديمي من طبقة كادحة، ومتمرس في العمل الحزبي والنيابي، بينما ترمب على الضد، متحدر من طبقة غنية، ولا تظهر عليه علامات الثقافة جملةً، وغالب خبرته في الأعمال التجارية والترفيهية.

لكن الفيصل في امتناع تساوي الرجلين هو عدالة قضية مرسي مطالبةً بالإنصاف في إدارة السلطة والثروة والثقافة في مصر، بينما قضية ترمب ظالمة في سعيه لتخفيف الضرائب عن الأغنياء، وتخفيض التمثيل عن غير الأوروبيين أصلاً، وفرض الحمائية القومية تجارياً.

ومع هذا التفاوت الصارخ، فلا بد من التنبيه إلى أن بين الشخصيتين جامعا خطيرا، ألا وهو الاعتماد على "فكر يميني" وقواعد انتخابية "شعبوية". فما "اليمين" وما "الشعبوية"؟ وهل يمكن أن يُظفَر بالقضية العادلة بينما الوسائل إليها يمينية شعبوية؟

اليمين وصفٌ لتكتل كان في البرلمان الفرنسي تسعينيات القرن الـ18 يروم الإبقاء على جانب معين من الأوضاع السياسية والثقافية لمصلحة مظنونة، بينما اليسار تكتل يروم تغيير تلك الأوضاع لتشخيص معاكس للمصلحة.

الفيصل في امتناع تساوي الرجلين هو عدالة قضية مرسي مطالبةً بالإنصاف في إدارة السلطة والثروة والثقافة في مصر، بينما قضية ترمب ظالمة في سعيه لتخفيف الضرائب عن الأغنياء، وتخفيض التمثيل عن غير الأوروبيين أصلاً، وفرض الحمائية القومية تجارياً

والحق أن العدالة ليست في المحافظة اليمينية ولا التغيير اليساري في ذاتهما، بل في النفع العمومي للأوضاع التي يُراد إصلاحها. فتغيير قواعد النظافة لما هو أنظف أمر محمود، لكن تغيير نوم البشر من الليل إلى النهار أمر ضارّ، لا بل عسير.

فما معيار صوابية التغيير يا ترى؟ المعيار ليس أيديولوجياً ولا عشوائيا، بل التغيير المطلوب هو ذاك القدر الهندسي المحقق للانسجام مع مستجدات النطاقات الاجتماعية والمعرفية والعولمية/البيئية، مع الحفاظ على ما ثبت صلاحه.

وتفصيل التطور الحديث للتكيف مع النطاقات المذكورة ما يلي: أولا، بما أن الربط بين تجارات الأقاليم الأوروبية صار يشتد منذ عصر النهضة بين القرنين الـ15 والـ16؛ فقد صارت "إدارة المجتمعات" المحلية تحت ضغوط مستجدة للتعامل مع الاختلاف الطائفي والتباين القومي، اللذين صارا يتقاطعان فتتصادم أفرادهما في الفضاء العمومي.

ثانيا، بما أن تدفق المعارف أخذ يتعاظم منذ عصر التنوير الأوروبي بين القرنين الـ17 والـ18؛ فقد صارت "إدارة المعرفة" تحت ضغوط التناقض بين تزاحم المعطيات والتكذيب للقديم من الخبرات والروايات.

ثالثا، بما أن التبادل بين شعوب الكوكب لم يعد قاصرا على الاقتصادات المحلية، نظرا للاعتماد العولمي المتبادل على محاصيل الشعوب الأخرى وموادهم الخام وتقنياتهم، لا بل ومتعهم الترفيهية؛ فقد استجدت ضغوط عولمية تمنع الدولة الواحدة -منذ عصر الحداثة حوالي القرن 19 وما تلاه- من الانفراد بشؤونها المعاشية أيا كان حجمها.

نلاحظ إذاً أن إرادة التكيف مع تغيرات النطاقات الاجتماعية والمعرفية والعولمية/البيئية أو قل ثالوث البقاء، أمر فرضته مستجدات وضغوط قاهرة، فجازى التاريخُ المقاومينَ للتكيف بالانقراض أو التقهقهر.

ومن هنا فالقوى المحافظة -في فرنسا مثلا- رامت منع البروتستانت من التمدد في بلادهم بحظر مذهبهم في مرحلة أولى، ثم كبت الطبقتين الوسطى والدنيا ومنعهما من الحصول على تمثيل في السلطة يوازي حضورهما قُبيل الثورة الفرنسية، وكذا حصل حظر للأفكار التي تُورِد معلومات مخالفة لما سطرته الكنيسة الكاثوليكية.

ومن هنا كانت الأرستقراطية الإقطاعية داعية للفكر اليميني الذي يشدد على المحافظة على المكتسبات القائمة. وكانت قوى الثورة التنويرية تروم التغيير، ولقد كانت الغلبة لأنصار التغيير على المدى الطويل، فظفرت بلقب "القوى التقدمية" وباءت الأرستقراطية بوسم "الرجعية" لقصورها التكيفي.

هذه الاصطلاحات لا يمكن نقلها من بيئة لأخرى بغير حذر، فالمَلكية البريطانية مثلا كانت أكثر انفتاحا على مطالب الطبقة الوسطى ومستجدات العلوم من المَلكية الفرنسية قُبيل الثورة. ولذلك لا ينبغي تعميم أن كل جمهورية تقدمية ولا أن كل ملكية رجعية.

وعلى الضد؛ فقد ظهرت جمهوريات تحرم الحرية الفكرية، لا بل وتعارض نظريات علمية صريحة كنظرية "المورثات الجينية"، كما حصل إبان حكم جوزيف ستالين للاتحاد السوفياتي، الحكومة الأعلى صوتا للتقدمية!

أهمية المثالين البريطاني والسوفياتي تكمن في أن الفيصل بين برنامج سياسي وآخر ليس الشعارات ولا التقدم في مسار تقني أو اقتصادي معيّن، بل التقدم هو محصلة الإنجازات المحقِّقة للانسجام مع مستجدات ثالوث البقاء، لا آحادها.

وهذا المعيار ينبه لفكرة عجيبة، وهي أن قوى تقدمية يسارية لا تلبث مع الزمان أن ترتد رجعية تمانع التغيير! وبالعكس فقد تتحول حركات محافظة يمينية لتصير تقدمية نسبيا كما تُظهر مآلاتُ أفعالها. ففرنسا التقدمية صارت حامية للاستعمار في المغرب العربي، وناطقة باسم قوى يمينية استيطانية تستبيح ثروات أهل المغرب ودماءهم.

مصاب حركات الصحوة في أنها اختطت برنامجا فكريا وعمليا ذا مقاصد تقدمية من ناحية حماية الأمة مع الطموح للعزة، لكنها تتخذ وسائل محافظة جامدة لا تلبث أن تمنعها من الوصول لتلك المقاصد فضلا عن الظهور بمظهر القوى الرجعية الخالية من التفوق العولمي

وعلى العكس؛ توجد قوى محافظة دينية في أميركا وقفت نصيرة لحقوق السود في فترة نضال الحقوق المدنية في ستينيات القرن العشرين، لا بل ويدعو كثير منها لحرية العبادة التامة للمسلمين، فتأمل تبدّل سمات الرجعية والتقدم حسب مآلات الأفعال التكيفية لا الشعارات!

والتفاوت بين وقاحة الاستعمار الفرنسي ودعم بعض كنائس أميركا للسود إنما مناط تعليله مقدار التكيف مع عناصر ثالوث البقاء؛ فقبول السود في المواطنة تكيفٌ من بعض المسيحيين الأميركين مع ذيوع تلك القيم، بينما رفض حقوق أهل المغرب الكبير في التحرر والسيادة نقصٌ في التكيف الفرنسي مع حركة التحرر العالمية.

لكن ما صلة التقابل بين الحركات المحافظة والتغييرية في الغرب بحركات الصحوة الإسلامية؟ أوليست حركات الصحوة تدعو لمطالب عادلة من مثل الذود عن تراب الأمة والحفاظ على ثرواتها والعناية بتراثها التليد ولغتها الفريدة من المسخفين؟

بلى، هذه القضايا عادلة وقمين أن تُحمد لحركات الصحوة، لكن كما فصَّلتُ أعلاه، فالتكيف لا يقاس بآحاده بل بمحصلة المواقف والإنجازات، وهنا مصاب حركات الصحوة، ذلك أنها اختطت برنامجا فكريا وعمليا ذا مقاصد تقدمية من ناحية حماية الأمة مع الطموح للعزة، لكنها تتخذ وسائل محافظة جامدة لا تلبث أن تمنعها من الوصول لتلك المقاصد فضلا عن الظهور بمظهر القوى الرجعية الخالية من التفوق العولمي.

وهذه الآفات -ويا للعجب- صنوٌ للتي يروم بها ترمب إرجاع أميركا لعصر العظمة بوسائل ستوردها موارد الردى. الفكر العاجز عن التكيف لا يزداد قوة بالتسلح بالجموع الغفيرة إذا كانت تلك الجموع عاجزة عن تحقيق الوسائل الناجعة لبلوغ المقاصد النافعة للتكيف.

ففي حالة ترمب، يقدم هذا الثري وعودا فارغة تستميلُ الجموع من سكان الريف والفئات البسيطة فكريا لتتماهى مع قيادته الجذابة، وهذه هي الخصائص الأهم للتيارات الشعبوية. إلا أنه يفشل في عناصر ثالوث البقاء، وهذا يضعه في صدام مع أول عنصر تكيفي (أي المجتمع)، وهو ما يظهر في مقاومة الحواضر المدنية الكبرى على الساحل الشرقي والغربي له.

إذ كيف لرئيس أن يحكم بدعم الجماهير الغفيرة بينما النخب القضائية والصحفية والفنية -فضلا عن مخضرمي الجهاز الإداري للحكومة- في استنكار ومقتٍ لسياساته؟ وتجلى هذا في الإبطال القضائي المتكرر لقرار منع بعض المسافرين واصطفاف الجهاز الإعلامي نكيرا عليه.

لا عجب أن سفينة يجذف فيها المجذفون على عكس مسار ربانها لن تصل طريقها. والصدام مع ثاني عناصر التكيف (أي المعرفة) يظهر في إنكار طاقم حكومة ترمب لظاهرة "الانحباس الحراري"، لا بل وسعي ترمب لفتح كل إمكانيات التنقيب عن النفط والفحم، مع أن المحافل العلمية مطبقة على ضرورة التحول للطاقة المستدامة النظيفة.

والصدام مع ثالث عناصر التكيف (أي العولمي/البيئي) يتجلى في رغبة ترمب في منع العمالة الرخيصة أو الماهرة من الهجرة لأميركا، مع أن الحقائق تقول إن نسبة عظيمة من السوق الزراعي والإنشائي معتمدة على العمالة من أميركا الوسطى، وأن السوق المعلوماتي ودرجات الدكتوراه في العلوم تعتمد على الكفاءات الآسيوية.

تلك المصادمة المثلثة مظاهر يمينية شعبوية تمنع ترمب من التكيف وتُفشل برنامجه. وسهولة رؤية القذى في عين ترمب وشنآنه لا ينبغي أن تمنعنا من رؤية القذى في عيون حركاتنا الاجتماعية.

وفي حالة الرئيس المسجون مرسي، فمع أنه يقدم خطابا متناسبا مع جمع غفير من سكان الطبقة العاملة والمتدينة في الأرياف والأحياء الفقيرة والمتوسطة، إلا أنه يفشل مثل ترمب في عناصر ثالوث البقاء. ولا يُجوِّزُ هذا الفشلُ عزلَهُ أو سجنه، لكنه يُفسر عجزه التكيفي.

فلقد قام تحالف الإخوان المسلمين والسلفيين بطرح خطاب شعبوي أخذ يؤلب عليهم فئات عريضة من سكان المدن، خصوصا مع ميل أهل القاهرة إلى التصويت لشفيق لا مرسي! وهذا يعني أن الاعتماد على الأرياف والأحياء الفقيرة من دون التعاضد مع ميولات الطبقة الوسطى العليا -وهم أصحاب الاختصاصات والفنون والجهاز الإداري- يظهر اجتزاءً في التمثيل وضعفا في التكيف الاجتماعي.

عدالة مطالب حركات الصحوة الإسلامية ستبقى عقيمة عن تبليغ ثمارها ما دامت يمينية قاصرة عن التكيف، وشعبوية عاجزة عن التحالف مع النخب الاختصاصية العالمة بالتكيف. أما إذا أقبلت على الانسجام مع تحولات البيئة الاجتماعية والمعرفية والعولمية/البيئية؛ فإنها ستنقلب في طليعة التقدميين قاطفي ثمار العزة

ومركزية الحواضر ليست دعوة للاستكبار الطبقي بالانحياز لأهل المدن دون سواهم، ذلك أن أي حركة تقدمية يجب أن تطرح فكرا يجمع من الأنصار والكفاءات ما يشمل أكبر عدد ممكن من الأطياف السكانية.

أما ثاني عناصر الممانعة التكيفية مع المعرفة، فهو خلوّ حركات الصحوة الإسلامية خلواًّ فاضحا من الفلاسفة الشموليين من قامة برتراند راسل، ومنظري التاريخ الكوكبي من وزن أرنولد توينبي، مما يفضي لوقوع أي مثقف صحوي في ورطات معرفية محرجة لدى المنازعة في "نظرية التطور الحيوي"، أو شرح صلات المناخ بالغزو المغولي، أو أثر التجارة العالمية على خسارة العثمانيين للسباق مع الغرب.

وهذا العجز عن استيعاب كشوفات المعارف الحديثة يرجع جزئيا إلى مصادمة العنصر الأخير في ثالوث البقاء، أي السياق العولمي.

وبرهان هذا عدم استناد حركات الصحوة إلى المشايخ المنفتحين على التحولات العولمية، من مثل الطهطاوي، وخير الدين التونسي، ومحمد عبده، وعلي عبد الرازق، ومحمد شحرور، وأبي يعرب المرزوقي، وطه عبد الرحمن.

فعوضا عن تلك العقول الناهضة للتحديات التكيفية، يُستَعصَمُ بتراث فقهي وكلامي يشدد على حُجيَّة أخبار الآحاد في الحديث، والتفسير بالأثر، ويتساهل في ادعاء الإجماع، ويتوسع في القياس، ولا يقبل بالنقد التاريخي لأثر الإمبراطوريات الأموية والعباسية على صياغة التدين التراثي. ولذلك تتوهم الصحوة أنها تتطابق مع الوحي الرباني نفسه، لكنها في الحقيقة تتطابق مع تأويل لتجارب بشرية غير معصومة.

ولا عجب أن يكون الملف العولمي لتطور حريات المرأة وتفجّر المُتَع البشرية من لهو وترفيه محطَّ استنكار لهذه الحركات. وبالمقابل فإن شعوبا مسلمة تعاظمت فيها الطبقة الوسطى -كتركيا وماليزيا وبعض دول الخليج- أخذت في التكيف مع المعاشات البشرية المستجدة.

هذا النقد لا يعني أن القوى العسكرية الاحتكارية الممانعة للنهضة أكثر نفعا للشعوب العربية، ذلك أنها قوى أشد يمينية وشعبوية، لكنها أقدر على لعب مسرحية التكيف زورا وبهتانا. ألا ترى أن إسرائيل تسمي جيشها الهجومي "جيش الدفاع"، وتجعل من النساء ناطقات رسميات دلالةً على السلمية، وما ذاك إلا وعيا منها بضرورات التكيف من جهة الشكل الدعائي.

والحق أن الدعوة في صدر الإسلام -وهي أمثولة الصحوة- تُظهر قدرة تكيفية عالية تعاونا مع النصارى واليهود في حالة النجاشي وصحيفة دستور المدينة، ثم تَوسَّعَ الحلفُ في الحضارة العباسية والأندلسية ليشمل غير الكتابيين، وهذا سرّ ازدهارهما. أما العزوف عن هذه التكيفات فهو من عوامل أفولهما، كيف لا وممانعة التكيف تُجازى بالخسران.

إن عدالة مطالب حركات الصحوة الإسلامية ستبقى عقيمة عن تبليغ ثمارها ما دامت يمينية قاصرة عن التكيف، وشعبوية عاجزة عن التحالف مع النخب الاختصاصية العالمة بالتكيف. أما إذا أقبلت على الانسجام مع تحولات البيئة الاجتماعية والمعرفية والعولمية/البيئية؛ فإنها ستنقلب في طليعة التقدميين قاطفي ثمار العزة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان