إدارة ترمب.. معاركها وتوجهاتها ولغز بوتين
ترمب ووسائل الإعلام
عوامل ترويض ترمب
سياسة الانكماش وتبعاتها
قد يكون دونالد ترمب قليل أو عديم الخبرة سياسيّا، وهو كذلك فعلا. ومن المفارقات أنّ شخصا عديم الخبرة السياسية يصبح رئيسا لأميركا التي يصعب فيها الحصول على أبسط الوظائف بدون سابق خبرة.
وقد يكون القانون الانتخابي -أو على الأقل لوائح الأحزاب الرئيسيّة- بحاجة إلى تعديل يُدخل الخبرة السياسية شرطا للترشح لرئاسة دولة بحجم أميركا، حتّى لا تتكرّر ظاهرة ترمب الذي أصبح رئيسا دون أن يتولّى أيّ مسؤوليّة حكومية أو حتّى حزبيّة.
لكن لا أحد يستطيع أن ينكر على ترمب خبراته الواسعة في مجالي الأعمال والإعلام، إنه يُتقن منطق الرّبح والخسارة، ويعرف كيف يلاعب الإعلام، كما يبدو أنّه يفهم عقليّة ونفسيّة شريحة واسعة من الأميركان ويعرف كيف يخاطبهم. ولقد أثبت ذلك ليس فقط بفوزه المفاجئ بالانتخابات، ولكن أيضا بإدارته لحملته الانتخابيّة.
ترمب ووسائل الإعلام
فقد لعب ترمب على خوف الأميركان وعدم رضاهم عن أوضاعهم ورغبتهم الجامحة في التغيير، فقدّم نفسه على أنّه مرشّح التغيير والرئيس الذي سيعيد لأميركا مجدها وعظمتها، بلغة غير مهذّبة فيها جرعة عالية من الجرأة والقوّة والعنجهيّة، تناسب العقليّة الأميركية المتمرّدة.
طبعا كلّ ذلك لم يكن ليحسم الانتخابات لولا أنّ منافسته أنهكتها، وحالت دون حصولها على ثقة النّاخب ودون تحمّس القواعد الديمقراطية لها؛ الفضائحُ أو على الأقل الشبهات القديمة والحديثة، وآخرها ملف بنغازي والبريد الإلكتروني، وشبهة استعمال طرق ملتوية لهزيمة منافسها في الحزب الديمقراطي برني ساندرز.
لا أحد يستطيع أن ينكر على ترمب خبراته الواسعة في مجالي الأعمال والإعلام، إنه يُتقن منطق الرّبح والخسارة، ويعرف كيف يلاعب الإعلام، كما يبدو أنّه يفهم عقليّة ونفسيّة شريحة واسعة من الأميركان ويعرف كيف يخاطبهم. ولقد أثبت ذلك ليس فقط بفوزه المفاجئ بالانتخابات، ولكن أيضا بإدارته لحملته الانتخابيّة |
وزاد خطؤُها الفادح بتقديم نفسها على أنّها مرشحة الاستمرارية، وتصرّفها على أنّها منتصرة لا محالة، وعلى أنّ الرئاسة حقّ طبيعي لها باعتبار خبرتها الواسعة وكون ترمب غير مؤهّل لرئاسة أميركا وغرورُها؛ كل ذلك زاد نفور النّاخب الأميركي المتمرّد بطبعه على كلّ شيء.
كما كان ترمب ذكيا في استعماله لخطاب شعبي يخاطب الإنسان العادي ويركّز على الاقتصاد، وهو الوتر الحسّاس لغالبيّة الشعب الأميركي، خصوصا الذين تضرّروا من الأزمة الاقتصاديّة.
أمّا في تعامله مع الإعلام، فقد استطاع ترمب بخبرته الواسعة في هذا المجال أن يفرض نفسه على إعلام لم يستطع أن يخفي انحيازه ضدّه، رغم حرصه على المهنيّة.
لم يخف على ترمب أن الإعلام الأميركي وإن كانت ميولاته ليبراليّة، فهو تجاري وحريص على رفع نسبة المشاهدة، ويتنافس على الأخبار المثيرة، فظلّ طوال الحملة الانتخابيّة يزوّد الإعلام بتصريحات وشطحات مثيرة للجدل.
ذلك كان ترمب المرشّح ودوافعه ومقاربته في التعاطي مع الإعلام. أمّا صدامه مع الإعلام ومع أجهزة الدولة بعد فوزه بالرّئاسة فبحاجة إلى تفسير مختلف.
صحيح أنّ الإعلام والجهاز البيروقراطي -خاصة في وزارة الخارجيّة- استقبلوا ترمب بكثير من البرودة وخيبة الأمل، لكن ذلك لا يكفي لتفسير تعامله الفجّ مع وسائل الإعلام الذي تجلّى في إهانته لبعض الصحفيين ومنعهم من طرح أسئلتهم، واتهام المؤسسات الإعلامية التي يمثلونها بفبركة الأخبار.
وذلك في ندوته الصحفيّة الأولى كرئيس منتخب وقبل التنّصيب. ثم في سابقة أخرى أخطر استثنى البيت الأبيض مراسلي بعض وسائل الإعلام الكبرى من حضور ندوة صحفيّة.
القاسم المشترك بين وسائل الإعلام التي هاجمها ترمب ووكالة المخابرات المركزية ومكتب التحقيقات الفدرالي اللذين اصطدم بهما ترمب، هو لغز علاقته وإدارته بفلاديمير بوتين وروسيا ودور موسكو في ترجيح كفّة ترمب في الانتخابات الرّئاسيّة.
فهنالك شبهات وقرائن حول هذه العلاقة استدعت فتح تحقيق، ودفعت وسائل الإعلام لإثارة هذه القضيّة واستغلال أيّ فرصة لتوجيه الأسئلة حول هذا الموضوع لترمب أو لأيّ مسؤول في إدارته. وهنا يبدو ترمب يخوض معركة استباقيّة ويعمل بمنطق خير وسيلة للدّفاع هي الهجوم.
التفسير الوحيد الذي يجعل ترمب يتهرّب من أسئلة الإعلام حول العلاقة مع بوتين وروسيا ويهاجم الأجهزة الاستخباراتية؛ هو أن ترمب لديه ما يخفيه حول هذه المسألة، وأنّ الأجهزة قد تكون تملك معلومات محرجة.
وقد تأكّد ذلك عندما كشف اللّثام عن مكالمات سابقة مشبوهة أجراها مع الروس من اختاره ترمب ليكون مستشاره للأمن القومي (مايكل فلين)، ممّا اضطرّه للاستقالة بعد أقلّ من شهر من تنصيبه، وهي سابقة خطيرة خاصّة إذا اعتبرنا حساسيّة هذا المنصب.
ويبدو أنّ ترمب وجد أنّ المخرج الوحيد من مأزقه -ولو مؤقّتا- هو تحويل الجهات المعنيّة بموضوع بوتين وروسيا إلى أطراف في صراع معه، ممّا يطعن ولو قليلا في مصداقيتهم وحيادهم ونزاهتهم، على الأقل لدى أنصاره.
عوامل ترويض ترمب
وبالتّوازي مع ذلك، استقبل الأميركان ترمب بالمظاهرات منذ تنصيبه، وعطّل الديمقراطيون في مجلس الشّيوخ المصادقة على مرشحيه الحكوميين، وكانت ردّة الفعل قويّة جدّا رسميا وشعبيا على أمره التنفيذي بمنع اللاجئين والمسافرين من سبع دول -أغلبية سكانها مسلمة- من دخول أميركا، والذي أوقف بحكم قضائي، ووصل الأمر إلى حدّ إعلان مسؤولين من الصّف الأوّل عدم تعاونهم مع هذا القرار.
استقبل الأميركان ترمب بالمظاهرات منذ تنصيبه، وعطّل الديمقراطيون في مجلس الشّيوخ عملية المصادقة على مرشّحيه الحكوميين، وكانت ردّة الفعل قويّة جدّا رسميا وشعبيا على أمره التنفيذي بمنع اللاجئين والمسافرين من سبع دول -أغلبية سكانها مسلمة- من دخول أميركا، والذي أوقف بحكم قضائي |
ويبدو أنّ تلك العوامل مجتمعة قد دفعت ترمب أخيرا باّتجاه تصالحي تجلّى في اختياره لشخصيّة معتدلة ليكون مستشاره للأمن القومي محلّ فلين المتعصب والمتطرّف في آرائه، ثمّ في خطابه أمام الكونغرس الذي تحدّث فيه لأوّل مرّة كرئيس ملتزم بالأعراف ومتجنّب لما عهد عنه من شطحات واستفزازات، حتّى إنّ بعض المحلّلين اعتبروا أنّ أوّل يوم لترمب كرئيس هو يوم خطابه في الكونغرس وليس يوم تنصيبه.
كما تجلّى هذا التغيير في التصريحات التي أدلى بها بعض أعضاء إدارته، وشدّدوا فيها على ثوابت السّياسة الأميركية التي مسّ بها ترمب في بعض تصريحاته، كحلّ الدولتين للقضية الفلسطينية والتزام الولايات المتحدة بحلف شمال الأطلسي (الناتو).
وكما توقّعت في حوار يوم التنصيب؛ فإنّ قوّة نظام البلد وحيويّة المجتمع الأميركي الرّافض للتطرّف والشطط، والمجتمع الدّولي قد أفلحت نسبيّا في ترويض ترمب ودفعه ليكون رئيسا عاديّا.
فمهندسو النّظام السياسي الأميركي كانوا عباقرة فعلا، إذ فتّتوا السلطة أفقيّا (تشريعية وتنفيذية وقضائية) وعموديّا (فدرالية، ولاية، مقاطعة، مدينة)، بحيث منعوا أي هيمنة أو تغوّل من أيّ رئيس أو حزب أو أغلبيّة أو واحدة من السّلطات.
مثل هذا النّظام يحصّن البلاد ضدّ الشّطط والمغامرات، ولا يسمح إلاّ بالتغيير المتدرّج، ويفرض على الجميع الاعتدال والتوصّل إلى حلول وسطى.
فأوباما مثلا جاء إلى البيت الأبيض واعدا بتغييرات جذرية في أميركا والعالم، ولمس الأميركان صدقا في خطابه، فصّوتوا له وتبرّع لحملته كثير منهم لأوّل مرّة خصوصا من الشّباب، وفاز فوزا مريحا، ومع ذلك لم يستطع أن يحدث إلاّ تغييرات محدودة، رغم الكاريزما والقدرات الخطابيّة الفائقة.
فما بالك بترمب الذي لا تثق أغلبيّة الأميركان في أهليّته للرّئاسة، واستقبِل بمظاهرات شعبيّة عارمة، وبصدود غير مسبوق من السلطات المحلّية وبيروقراطيّة واشنطن.
لقد كانت آخر مرّة أعطى فيها الشعب الأميركي صكّا على بياض في عهد جورج بوش الابن وإدارته على إثر زلزال هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2011، وكانت النّتائج كارثية ممّا جعل بوش يصبح أكثر الرؤساء نَبْذاً شعبيّا في تاريخ أميركا، ولا يبدو أنّ الأميركان سيكرّرون الخطأ لا مع ترمب ولا مع غيره.
سياسة الانكماش وتبعاتها
ثمّ إنّ أميركا كإمبراطورية وصلت إلى مرحلة فاقت فيها التزاماتُها إمكانيّاتِها، وبالتالي بدأت منذ فترة في الانكماش لتخفّف التزاماتها، ولم تكابر كغيرها من الإمبراطوريات التي عرفت انهيارا سريعا.
وواضح أن هذا الانكماش ستتسارع وتيرته في عهد ترمب الذي أعلن بوضوح -في خطابه للكونغرس- أنّه لا يمثّل ولا يحكم العالم بل يمثّل أميركا فقط، ويدعو الأميركان باستمرار لشراء البضاعة الأميركية، ويبدو جادّا في الضغط على الشركات الأميركية لإقامة مشاريعها داخل أميركا، كما هدّد بفرض رسوم جمركيّة على البضائع المستوردة.
عوامل أخرى قلّصت قدرات أميركا ورئيسها على الفعل. وعلى رأس تلك العوامل أنّ العالم -الذي أصبح متعدّد الأقطاب- لم يعد يسمح لأميركا بأن ترحّل أزماتها إلى الخارج متى وكيف شاءت، كما أن بلوغ الدين العام والعجز مستويات مفزعة قد حدّ من قدرتها على ترحيل الأزمات إلى المستقبل عبر الاقتراض.
ولعلّ العامل الأهمّ -الذي سيمنع ترمب وإدارته من الذهاب بعيدا- هو الحزب الجمهوري نفسه الذي سيخوض خلال أقلّ من سنتين الانتخابات النّصفيّة، والتي تشمل ثلث مقاعد مجلس الشّيوخ وثلث المحافظين وكل مقاعد مجلس النّوّاب.
هذه الانتخابات المرشّحة لأن تكون ساخنة قد تُفقد ترمب والجمهوريّين الأغلبيّة في الكونغرس بغرفتيه، خاصّة أنّ تحالفا كبيرا معارضا لترمب قد تشكّل ويتوسّع باستمرار استعدادا للانتخابات، ويضمّ أعدادا كبيرة من الذين لم يصوّتوا في الانتخابات الرّئاسيّة الأخيرة، ومن الذين لا يصوّتون بانتظام أو سيصوّتون أوّل مرّة. والجمهوريّون يدركون أنّ كلّ حزب شطّ يمينا أو يسارا عادة ما يعاقبه النّاخبون في الانتخابات التّالية.
لا يُخشى على الدول العربية والإسلامية من ترمب وإدارته، ليس فقط بسبب الأولويّات المحلّية والعوامل المكبّلة، ولكن أيضا لأنّ حكّام وسياسيّي ونخب العرب والمسلمين يقومون بالواجب وزيادة -بنرجسية أو بحماقة أو بعمالة- في تخريب بيوتهم بأيديهم، ووصلوا ببلدانهم إلى الحضيض، وترمب لا يبدو متحمّسا لا لنشر الديمقراطية وحقوق الإنسان ولو كشعار |
كلّ ما سبق يوحي بأنّإدارة ترمب قد تركّز على الاقتصاد والشؤون الدّاخليّة، وقد لا تكون لها سياسة خارجيّة نشيطة خصوصا في منطقة الشرق الأوسط.
إذن لا يُخشى على الدول العربية والإسلامية من ترمب وإدارته، ليس فقط بسبب الأولويّات المحلّية والعوامل المكبّلة، ولكن أيضا لأنّ حكّام وسياسيّي ونخب العرب والمسلمين يقومون بالواجب وزيادة -بنرجسية أو بحماقة أو بعمالة- في تخريب بيوتهم بأيديهم، ووصلوا ببلدانهم إلى الحضيض، وترمب لا يبدو متحمّسا لا لنشر الديمقراطية وحقوق الإنسان ولو كشعار، ولا لإغداق المساعدات لتوجيه السياسات.
لقد بدأت أميركا منذ مدّة تفويض الملفّات والأزمات للحلفاء وللدّول الإقليميّة. وقد يؤدّي الانطواء الأميركي إلى احتداد التنافس بين إيران وتركيا وإسرائيل (الدول الإقليمية الوحيدة التي تملك أجندات وإمكانيّات لتحقيقها) للهيمنة على المنطقة، ويبدو أنّ الدّول العربيّة ستظلّ تتداعى عليها الأمم، وقد تطول بها حالة التّيه. وليتها تستغلّ الفرصة لتنفطم عن الاعتماد على الخارج والارتهان له.
أمّا المسلمون الأميركان الذين رأت فيهم إدارة ترمب الحلقة الأضعف وبدأت باستهدافهم، فقد منّ الله عليهم بانتفاضة شعبيّة ورسميّة في وجه ترمب وأمره التنفيذي، حوّلت تصنيفهم في أيام وأسابيع من خطر أمني إلى ضحيّة للتعصب والعنصريّة، لتتعاطف معهم وتدافع عنهم شرائح واسعة ومتنوّعة من المجتمع الأميركي، نخبا وشعبا ومنظّمات دينيّة ومدنيّة وأقلّيات.
فقد جعل اللّه في الأمر التنفيذي الظّالم والمؤذي خيرا كثيرا، ورأى المسلمون الأميركان كيف أنّ التدافع الأساسي -الذي يقوم عليه النّظام والمجتمع في أميركا- يحمي الأرض من الفساد، ويحفظ الحقوق والحرّيات كما أخبر القرآن الكريم؛ فحتّى الإعلام أصبح فجأة صديقا، أو على الأقل منصفا للعرب والمسلمين، وفتح في وجوههم منابره.
ولكنّ كلّ ذلك لا يبرّر حالة النّشوة والاسترخاء التي طغت على منظّمات ونشطاء الأقلّية العربيّة والمسلمة. فالمظلوميّة والتعاطف لا يبنيان مستقبلا وقد لا يدومان طويلا. فأيّ حدث إرهابي -لا سمح الله- قد يغيّر المزاج الشعبي ويقوّي حجّة المتعصّبين وموقفهم على حساب المتعاطفين والمنصفين.
ومن ثمّ فالقراءة السّليمة للأحداث ينبغي أن تدفع المسلمين الأميركان باتجاه التعاطي مع التطورات الإيجابيّة السريعة على أنّها فرصة إلهية لتدارك ما فات، ولتطبيع أوضاعهم وتجذير أنفسهم بتسريع وتيرة انفتاحهم على المجتمع، وانخراطهم في الشأن العام ومؤسسات المجتمع المدني، وتعظيم إسهامهم في الصالح العام، والانضمام لأكبر عدد من التحالفات النشطة في المجالات المختلفة.
هكذا تحل المشكلة من جذورها فيؤدّي المسلمون الأميركان رسالتهم النّبيلة ويكونون رحمة لمجتمعهم، ويحصّنون أنفسهم، ويحوّلون المحنة إلى فرصة والأجواء الإيجابيّة من مؤقّتة إلى دائمة، فلا يظلّون تحت رحمة أحداث خارجة عن نطاقهم أو مادّة للمزايدة الانتخابيّة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.