الاتفاق النووي في ظل إدارة ترمب.. أزمة الثقة والإرادة
منذ بدء تطبيق خطة العمل الشاملة المشترَکة (الاتفاق النووي) بين إيران والمجتمع الدولي ممثّلاً بمجموعة "1+5" في يناير/كانون الثاني 2016، مرّ الاتفاق بتعقيدات وتحديات صعّبت کثيراً الالتزام به علی الأطراف الموقعة علیه، وبشکل خاص علی إيران المضحية ببرنامجها النووي لقاء رفع العقوبات الدولية.
و رغم رفع العقوبات، فقد بقيت طهران في حالة تذمّر من السلوک الأميرکي المتعلق بالاتفاق، واعتبرت الطرف الأميرکي غير ملتزم بروحه الذي بُني علی الثقة المتبادلة ورغبة الأطراف في التعاون بدل التّجابه.
أضف إلی ذلک أن رفع العقوبات لم يأت بالمأمول إيرانياً علی المستوی الاقتصادي، وزاد ذلک بدوره التذمّر في طهران، خاصة في ظل صعود صاحب خطاب "تمزيق الاتفاق" إلی البيت الأبيض. وبذلک -وبعد عام فقط من بدء سريان الاتفاق النووي- أصبحت قضية استمراره من عدمها ملحة بالنسبة لدول ونخب المنطقة.
رفع العقوبات لم يأت بالمأمول إيرانياً علی المستوی الاقتصادي، وزاد ذلک بدوره التذمّر في طهران، خاصة في ظل صعود صاحب خطاب "تمزيق الاتفاق" إلی البيت الأبيض. وبذلک -وبعد عام فقط من بدء سريان الاتفاق النووي- أصبحت قضية استمراره من عدمها ملحة بالنسبة لدول ونخب المنطقة |
وفي ظل حالة التذمّر الإيرانية وتسجيل طهران اعتراضات لم ترق إلی شکاوی في اللجنة المشترکة للاتفاق النووي من جهة، وشدة لغة الرئيس الأميرکي الجديد في کلامه حول الاتفاق من جهة أخری، هناک ثلاثة محاور يجب الالتفات لها في الإجابة عن سؤال استمرار الاتفاق من عدمه:
فأولاً، لم تأت كافة العقوبات المفروضة علی إيران نتيجة لبرنامجها النووي بل بدأ فرض العقوبات بعد نجاح الثورة الإيرانية عام 1979، أي قبل بدء البرنامج النووي بعقود. ولذلك فإن العقوبات المفروضة علی إيران تنقسم إلی قسمين:
القسم الأول هو العقوبات الدولية المفروضة علی إيران بقرارات صدرت من مجلس الأمن، وترتبط بشکل مباشر ببرنامج إيران النووي.
وقد بدأ فرض هذه العقوبات منذ 2006 مباشرة بعد نقل الملف النووي الإيراني من الوکالة الدولية للطاقة الذرية إلی مجلس الأمن، بسبب عودة حکومة الرئيس السابق أحمدي نجاد إلی تخصيب اليورانيوم بعد إيقافه في عهد الرئيس محمد خاتمي. وکان لهذه العقوبات أثر بالغ علی الاقتصاد الإيراني.
کما اعتُبِرت العقوبات المفروضة في عاميْ 2010 و2011 -وخاصة المالية منها- من أقسی العقوبات الدولية علی مر العصور، إذ منعت إيران من بيع النفط والتجارة عبر حظر المعاملات المالية بين إيران والعالم.
وقد ألغيت جميع العقوبات الدولية المفروضة بقرارات مجلس الأمن نتيجة للاتفاق النووي. وخرجت إيران علی إثره من طائلة البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة، لتكون بذلك أول دولة أدرجت ضمن البند المذکور وخرجت منه دون حرب معها أو تغيير لنظامها.
أما القسم الثاني من العقوبات فقد بدأ فرضه منذ انتصار الثورة وإقامة الجمهورية الإسلامية 1979. ويغلب علی هذه العقوبات الطابع الأحادي لا الدولي، فقد فرضتها الولايات المتحدة بغرض الضغط علی الحکومة الإيرانية لتعديل أو تغيير سياساتها تجاه قضايا مختلفة.
ولم تکن هذه العقوبات جزءا من الاتفاق النووي. أي أن الاتفاق اشتمل علی العقوبات الدولية والأحادية التي فُرضت عقاباً لأنشطة إيران النووية. ولذلک استُثني ما عدا ذلک من الاتفاق.
وبتوقيع الاتفاق توصّلت إيران لهدفها المتمثل في إلغاء العقوبات الدولية لا الأحادية، کما حصلت الأطراف الممثلة للمجتمع الدولي على مطلبها المتعلق بإيقاف تخصيب اليورانيوم بنسب عالية، ووضع برنامج إيران النووي تحت رقابة الوکالة الدولية للطاقة الذرية.
استياء إيران من أداء إدارة باراك أوباماينبع من عدم احترام الأخيرة للثقة المتبادلة التي ذُکرت في مقدمة نص الاتفاق والتي مهّدت لتوقيعه. فقد عرقلت مثلاً بيع طائرات بوينغ لإيران رغم عدم تجاوزها الخطوط الحمر بمنع تصدير تلک الطائرات إلى إيران.
استياء إيران من أداء إدارة باراك أوباما ينبع من عدم احترام الأخيرة للثقة المتبادلة التي ذُکرت في مقدمة نص الاتفاق والتي مهّدت لتوقيعه. فقد عرقلت مثلاً بيع طائرات بوينغ لإيران رغم عدم تجاوزها الخطوط الحمر بمنع تصدير تلک الطائرات إلى إيران |
ووضع الکونغرس شرطاً علی الأجانب الذين يريدون زيارة الولايات المتحدة بعد زيارتهم إيران، ينص علی ضرورة نيل تأشيرة جديدة.
فهذه الأمور وإن لم ترق إلى مستوى نقض الاتفاق النووي فإنها ابتعدت کلياً عن روح الثقة المتبادلة التي حکمته. ونتيجة لهذه العراقيل، فإن إيران لم تستفد کثيراً من المردود المالي والاقتصادي للاتفاق النووي.
وعلی الجانب الآخر، وبافتراض إلغاء الرئيس الأميركي دونالد ترمب توقيع حکومة سلفه أوباما علی الاتفاق النووي؛ من غير الممکن التفکير في إعادة الملف النووي الإيراني إلی مجلس الأمن.
فأولا، هناک المجموعة الخماسية المرافقة للولايات المتحدة وإيران في الاتفاق، والتي ستلوم الطرف المتحايل عليه، وهناک اللجنة المشترکة التي ستبّت في أي خرق للاتفاق.
ومن هنا ينبع التزام إيران بصرامة بالاتفاق النووي رغم العراقيل وکلام رئيسها حسن روحاني ووزير خارجيتها محمد جواد ظريف ورئيس هيئة الطاقة الذرية الإيرانية علي أكبر صالحي بشأن رفض إعادة التفاوض.
وبذلک تُصبح إعادة الملف النووي إلی مجلس الأمن مهمة ترمب شبه المستحيلة. ويبقی في جعبته فرض عقوبات أحادية علی إيران ستأتي بصعوبات علی الاقتصاد الإيراني.
وثانياً، مثّل إبعاد الملفات الشائکة في الإقليم عن المفاوضات النووية أحد أهم الأسباب لنجاح تلک المفاوضات. وما زالت إيران -لأسباب معروفة منها ابتعاد سياستها وأولوياتها الإقليمية عن الأولويات الأميرکية في الشرق الأوسط- تصرّ علی إبقاء النووي بعيداً عن الإقليمي.
إلا أنالرئيس ترمب -من جهة أخری- يرکّز علی خطاب يربط بين سياسة إيران الإقليمية والاتفاق النووي. فقد تکلّم لأول مرة عن تمزيق الاتفاق النووي في خطاب ألقاه أمام لجنة الشؤون العامة الأميرکية الإسرائيلية (أيباك). کما عرّج علی سياسات إيران الإقليمية في انتقاده الاتفاق النووي.
ورغم عدم إعارته الفصل بين النووي والإقليمي اهتماماً، فإنه يقترب من مقاربات إيران الإقليمية تجاه أهم الملفات ومنها العراق وسوريا. إلا أن السؤال يبقی مطروحاً حول مدی إصرار ترمب الرئيس علی ربط الملفات الشائکة في الإقليم باتفاق مرّ علی العمل به سنة کاملة.
وثالثاً وأخيراً، ستبقی فکرة البديل تؤرق أطراف الاتفاق النووي ودول المنطقة بشکل عام. فهل من بديل للاتفاق النووي في حال إلغائه؟ لا توجد إجابة دقيقة. فقد هددت إيران بأن إلغاء ترمب الاتفاق سيأتي بردود تحيّر الولايات المتحدة. السيد ترمب لا يلوّح -کما كان بوش الابن يفعل- بالحرب. لکنه طرح -وما زال يطرح- انتقادات جمة ضد الاتفاق النووي.
ستبقی فکرة البديل تؤرق أطراف الاتفاق النووي ودول المنطقة بشکل عام. فهل من بديل للاتفاق النووي في حال إلغائه؟ لا توجد إجابة دقيقة. فقد هددت إيران بأن إلغاء ترمب الاتفاق سيأتي بردود تحيّر الولايات المتحدة. السيد ترمب لا يلوّح -کما كان بوش الابن يفعل- بالحرب |
ورغم ترجيح إمکانية إبقائه علی التزامات بلاده ضمن الاتفاق النووي، فإن السيناريو البديل والأقرب للواقع هو الحرب. فإما الالتزام بنتائج التفاوض أو الإعداد للحرب. وحتی لو وُجدت طرق في المنتصف فمن الواضح أنه يجري التوصّل لها في الطريق للحرب، وهذا ما لا تريده طهران ولا واشنطن ولا الدول الموقعة والإقليمية.
لکل الأسباب الآنفة الذکر؛ من الصعب رسم سيناريو يُلغی فيه الاتفاق النووي. ولکن بعيداً عن الاتفاق النووي، فقد بدأت أول مجابهة إيرانية/ترمبية حول تجربة صاروخية باليستية قامت بها طهران في فبرایر/شباط الماضي. وقد فرضت إدارة ترمب عقوبات علی 25 مواطناً وکياناً إيرانياً کأول رد.
واحتدم النقاش مجددا حول جدوی وإمکانية وتبعات الخروج من الاتفاق النووي. إلا أن المتتبع للأوضاع يُدرک عدم الحاجة لإلغاء الاتفاق النووي لسبب بسيط: عدم الضرورة.
ففي إطار الاتفاق، ثمة آليات رصد متينة تحتم وجود إرادة سياسية لدی الأطراف المؤثرة، إن أريد للاتفاق أن يأتي بنتائج اقتصادية وسياسية تطمح لها إيران.
فإن لم تتوفر تلک الإرادة لدی إدارة ترمب، فلا حاجة لتمزيق الاتفاق لردع نتائجه. ومن الواضح أن الترکيز المتزايد علی برنامج إيران الصاروخي يعني -فيما يعنيه- أن الإرادة الأميرکية بدأت في الابتعاد عن تطبيق الاتفاق قلباً وقالبا.
بشکل عام، يبدو الرئيس ترمب متشوقاً لإبداء فروق بين سياسته وسياسة سلفه الديمقراطي. وقد وجد -کما يبدو- ضالته في إيران وبرنامجها الصاروخي.
وستظل طهران تصر علی عدم ربط هذا البرنامج بالاتفاق النووي. ولن تستطيع الإدارة الأميرکية الجديدة رفض الحجج الإيرانية المدعومة من قبل دول أعضاء في مجلس الأمن. إلا أنها تستطيع تعويض ذلک بوضع عراقيل في مسار النتائج المتوخاة إيرانياً من تطبيق الاتفاق النووي.
فهل سيذهب الرئيس ومدير الأعمال (ترمب) للعرقلة؟ أم سيغلب المصلحة ويؤيد عقودا کعقد إيران مع شرکة بوينغ الذي سيأتي بعشرات الآلاف من الوظائف للعامل الأميرکي حسب تقرير للشرکة؟ من الصعوبة الإتيان بإجابة واضحة؛ فنحن أمام رئيس من الصعوبة التکهن بسلوکه، ولذلک تبقی الاحتمالات متعددة الاتجاهات.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.