تأسيس الحرس الوطني بطرابلس.. إرباك للمشهد أم إعادة توازن؟

A tank is seen in the city of Sirte, Libya October 16, 2011. Libyan government fighters battled to subdue pockets of resistance by pro-Gaddafi fighters, whose refuse to abandon the ousted leader's hometown of Sirte. REUTERS/Esam Al-Fetori SEARCH "SIRTE TIMELINE" FOR THIS STORY

حالتا الفراغ والانفلات الفصائلي
معركة سرت والاستثمار الضعيف
في مواجهة التهديدات
التوقيت المعقّد وسؤال الشرعية

أعلِن بالعاصمة الليبية طرابلس في التاسع من شهر فبراير/شباط 2017 تأسيس جهاز الحرس الوطني الليبي، في بيان ألقاه آمر الجهاز الجديد العميد محمود الزقل.

بيان التأسيس عرّف الحرس الوطني بأنه "مؤسسة وطنية بعيدة عن التجاذبات السياسية"، وحدد مهامه في "محاربة الإرهاب، وحماية مؤسسات الدولة وسفارات الدول والبعثات الدبلوماسية، والتصدي للممارسات الإجرامية والانقلابية، وحماية الحدود والمنشآت الحيوية، والحد من مظاهر انتشار السلاح، والعمل على دعم ومساندة جهود بناء جيش ليبي مهني".

لم تكن الخطوة متوقعة بهذه الطريقة، وما من شك في أنها فاجأت الساحة السياسية، وربما أربكت بعض الحسابات لدى أكثر من طرف. ومع ذلك فيمكن القول إنها قد تكون جاءت في وقت الحاجة إليها. ويمكن تلمس مجموعة من الأحداث التي تضع الإعلان في سياقه الطبيعي، بعيدا عن الحماسة الذي تخرجه بوصفه خطوة مبيتة، والتشكيك الذي يقدمه على أنه إرباك مفاجئ لمسار التسوية السياسية.

وسنحاول أن نقرأ السياق العسكري والسياسي الذي وُلد فيه الجهاز الجديد، إضافة إلى تأثيره في ميزان القوى العسكرية في عموم ليبيا.

حالتا الفراغ والانفلات الفصائلي
يدرك المراقبون للحالة الأمنية والعسكرية في العاصمة طرابلس ومدن الوسط والغرب الليبي أن نخبة الضباط وقادة كتائب الثوار المؤمنين بدولة المؤسسات -والذين يشكّلون "مجتمعا عسكريا" قريبا من التجانس- كانوا يستشعرون بشكل واضح حالة الفراغ القيادي والمؤسسي الذي تعاني منه المؤسسة العسكرية في الغرب الليبي.

لم تكن خطوة تأسيس جهاز الحرس الوطني الليبي متوقعة بهذه الطريقة، وما من شك في أنها فاجأت الساحة السياسية، وربما أربكت بعض الحسابات لدى أكثر من طرف. ومع ذلك فيمكن القول إنها قد تكون جاءت في وقت الحاجة إليها. ويمكن تلمس مجموعة من الأحداث التي تضع الإعلان في سياقه الطبيعي

والواضح أن هذه هي نقطة الضعف الرئيسية في مقابل المشهد العسكري في الشرق الليبي، الذي تعد كبرى نقاط قوته هي تبلور قيادته بشكل واضح، حتى إنه يمكن القول إن حالة القيادة في الجبهتين تعطي صورة معاكسة للواقع تماما؛ ففي الغرب الليبي توجد القوة الضاربة تسليحيا وبشريا ولكنها لا تملك قيادة جامعة، وفي معسكر الكرامة الذي يقوده خليفة حفتر توجد قيادة بدون قوة ضاربة على الأرض، ويمكن هنا استحضار تجربة الحروب التي خاضتها القوتان في سرت وبنغازي ودرنة.

إن استشعار حالة الفراغ لم يظل سرا؛ فقد اجتمع أكثر من ستمئة ضابط عسكري نظامي في أكتوبر/تشرين الأول الماضي (2016) في الملتقى السادس لضباط الجيش الليبي، الذي انعقد بالعاصمة الليبية طرابلس تحت شعار "جيش ليبي واحد"، وبحضور رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني فائز السراج وبعض أعضاء المجلس.

وكان من مخرجات هذا الملتقى التوصية باختيار قيادة للجيش الليبي في أجل أقصاه ثلاثون يوما، وبالرغم من القصور والأخطاء التي واكبت انعقاد الملتقى فإن لجنة المتابعة التي شكلها رفعت توصية بأسماء اثني عشر ضابطا إلى فائز السراج، ليختار من بينهم رئيس الأركان ومعاونوه وقادة الأركان المختلفة، إلا أن المجلس الرئاسي لم يتحرك باتجاه اختيار هذه القيادة لأسباب يطول شرحها، لكنها لا تخرج عن حالة الضعف التي اتسم بها أداء المجلس الرئاسي خلال السنة التي قضاها في السلطة.

ومن الواضح أن الفشل المتراكم في تأسيس الجيش الليبي منذ انتهاء حرب التحرير قبل خمس سنوات، خلف حالة من الفصائلية العسكرية في العاصمة، ولم يمكّن قيادة الأركان في العاصمة ولا وزارة الدفاع من إقناع قادة الكتائب بالانضواء فعليا تحت قيادة الجيش.

لقد خلف هذا الواقع خريطة عسكرية وأمنية في العاصمة طرابلس لا يمكن وصفها بأقل من الالتباس الشديد، الذي قد يتطور مع أي تطور إلى حالة اقتتال داخلي، ستقضي لو نشبت على كل فرص للحياة في العاصمة. وإن كان احتواؤها قد تم في كل المرات السابقة التي شهدت مناوشات، فإن الأمر غير مضمون في ظل غياب قيادة تملك شرعية ميدانية وروحا وطنية يفيء إليها الجميع.

وهو ما حاول بيان تأسيس الحرس الوطني الإشارة إليه في حديثه بشأن بُعد الجهاز عن التجاذبات السياسية، وفتحه الباب أمام كل الراغبين في الانضمام إليه، ثم في تقديمه المساعدة لبناء جيش ليبي موّحد. وهي إشارة غاية في الأهمية لجهة طمأنة مختلف الجهات السياسية والأمنية والعسكرية.

معركة سرت والاستثمار الضعيف
بعد الملتقى وتوصياته التي لم تجد طريقها إلى التنفيذ؛ جاء الاستثمار الضعيف لتحرير مدينة سرت من تنظيم الدولة الإسلامية، وهو ما خلف استياءً كبيرا في صفوف العسكريين الذين خاضوا هذه المعارك.

لقد قدم جزءٌ كبير من الإعلام حربَ سرت على أنها حرب قامت بها كتائب من مدينة مصراتة، وحاولت وسائل إعلام إعطاءها صورة معركة بين مدينة مصراتة وتنظيم الدولة.

ودون نكران للجهد الهائل الذي بذلته كتائب مصراتة ورجالها وسياسيوها وشبابها ومجتمعها الذي احتضن المقاتلين؛ فإن المعركة كانت معركة وطنية بكل المقاييس قادتها كتائب المدينة وثوارها، مع مشاركة كثير من الضباط والجنود والثوار من مختلف مدن ليبيا، خاصة من الغرب والجنوب والوسط.

لقد خلّف غياب الزخم عن الانتصار الذي تحقق على تنظيم الدولة في سرت -والذي يكاد يكون الأول من نوعه منذ ظهور التنظيم في ليبيا والمنطقة- استياءً داخل القيادة العسكرية، التي أبدت أكثر من مرة -خلال الحرب التي دامت ستة أشهر- عدم رضاها عن مستوى الدعم السياسي والإعلامي، الذي قدمه المجلس الرئاسي للمجهود الحربي الذي نهض به المقاتلون

لقد خلّف غياب الزخم عن الانتصار -الذي يكاد يكون الأول من نوعه منذ ظهور تنظيم الدولة في ليبيا والمنطقة- استياءً داخل القيادة العسكرية، التي أبدت أكثر من مرة -خلال الحرب التي دامت ستة أشهر- عدم رضاها عن مستوى الدعم السياسي والإعلامي، الذي قدمه المجلس الرئاسي للمجهود الحربي الذي نهض به المقاتلون.

لقد كانت غرفة عمليات "البنيان المرصوص" -المشكّلة بقرار من المجلس الرئاسي- قيادة عسكرية ميدانية استطاعت أن تدير الحرب باحترافية كبيرة، ومع ذلك فلا يخفى أثر غياب القيادة العسكرية المركزية على الزخم الذي أعطِي للمعارك.

في مواجهة التهديدات
منذ أكثر من سنة بدأت تصريحات قادة عملية الكرامة -التي تقاتل في مدينة بنغازي وتسيطر على معظم مدن الشرقي الليبي- توجه تهديدات بشكل صريح إلى العاصمة طرابلس، وتؤكد أن معركتها القادمة ستكون ضد من تسميهم "المليشيات المسيطرة على العاصمة".

العقيد ونيس بوخمادة قائد قوات الصاعقة في بنغازي -وهي من الكتائب الكبرى التي تتبع حفتر- صرح أكثر من مرة بأن العاصمة طرابلس هي الهدف القادم بعد إعلان تحرير بنغازي.

وفي حديث أدلى به لوكالة سبوتنيك الروسية في ديسمبر/كانون الأول الماضي؛ هدد أحمد المسماري (الناطق باسم الجيش التابع لحفتر) قياداتِ الجيش والثوار في المنطقة الغربية، ووصفها بأنها منطقة تمركز للجماعات الإرهابية وقادتها، وقال إن العاصمة هي الهدف الإستراتيجي للعمليات العسكرية لقوات حفتر.

كما سبق أن صرح عبد الرزاق الناظوري (رئيس أركان قوات حفتر) بأن السيطرة على طرابلس ستكون في أقل من يومين. وختم حفتر نفسه سلسلة تهديدات العاصمة الليبية بدعوته "كل الضباط والجنود وضباط الصف إلى الاستعداد" لما أسماه تحرير طرابلس.

وبغض النظر عن مدى جدية هذه التهديدات وإمكانية تحقيقها على أرض الواقع، فهي تعتبر في العرف العسكري تهديدا مباشرا بإعلان الحرب، إلا أنها لم تُثِرْ أي رد من المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني الذي يُعتبر -بنص الاتفاق السياسي- القائدَ الأعلى للجيش الليبي.

التوقيت المعقّد وسؤال الشرعية
لقد جاء إعلان تأسيس الحرس الوطني الليبي في توقيت سياسي معقّد جدا؛ فبعد سنة من التوقيع على الاتفاق السياسي ومرور أشهر على دخول المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني إلى العاصمة، بدأت الآمال في إمكانية تغيير الواقع السياسي والأمني والعسكري تتبخر على أيدي قيادة المجلس، وبدأ الحديث جديا عن ضرورة فتح الاتفاق السياسي وإعادة صياغة بعض مواده، بما يمكّن من تحريك حالة الجمود التي عانت منها العملية السياسية في ليبيا.

إن إعلان إنشاء الحرس الوطني الليبي والأولويات التي رسمها في بيانه التأسيسي أضافت معطى جديدا لا بد لأعضاء الحوار السياسي ورعاته من التعاطي معه بشكل إيجابي؛ ففي ظل الحديث عن إمكانية إيجاد موقع لقيادة الجيش التابع لحفتر في المؤسسات المنبثقة عن الاتفاق السياسي، سيكون المتحاورون ملزمين بإيجاد موقع آخر لقيادة المؤسسة الجديدة التي حققت في حربها على تنظيم الدولة نجاحا عسكريا مشهودا.

الإمكانات الهائلة التي يتمتع بها الجهاز الوليد بشريا وعسكريا، والمصداقية التي أعطتها إياه تجاربه السابقة، والشرعية الميدانية التي يحظى بها بين الثوار ومنتسبي المؤسسة العسكرية في الغرب الليبي، وإعلانه الصريح بُعدَه عن التجاذبات السياسية، تجعل مسألة شرعيته القانونية في حكم المحسوم

كما أظهرت هذه القيادة قدرة عالية على إدارة العلاقات والتنسيق العسكري مع القوى الدولية والإقليمية، ومع مختلف شركاء ليبيا الذين وقفوا موقفا إيجابيا من الحرب، وعلى رأسهم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

وكما سبق أن تساءل كثيرون عن شرعية القيادة العامة التابعة لحفتر بالنظر لأحكام القضاء بانعدام شرعية مجلس النواب، فإن الجهاز الجديد سيواجه -ضمن تحديات أخرى- مسألة التبعية والشرعية القانونية.

لكن الإمكانات الهائلة التي يتمتع بها الجهاز الوليد بشريا وعسكريا، والمصداقية التي أعطتها إياه تجاربه السابقة، والشرعية الميدانية التي يحظى بها بين الثوار ومنتسبي المؤسسة العسكرية في الغرب الليبي، وإعلانه الصريح بُعدَه عن التجاذبات السياسية، تجعل مسألة التبعية والشرعية القانونية في حكم المحسوم.

ثم إن حالة السيولة القانونية التي تعيشها ليبيا -في ظل المرحلة الانتقالية- تسمح بالكثير من المرونة في تكييف صيغة الإنشاء الرسمية، فكل الأجهزة العسكرية القائمة اليوم سابقةٌ على الجهات المدنية التي تتبع لها بشكل رسمي أو فعلي.

إن الاختبار الحقيقي سيكون في مدى قدرة هذا الجهاز وقيادته على تحقيق الأهداف التي رسمها بيانه التأسيسي، وإقناع شركاء الساحة العسكرية والأمنية بجدية إرادته في حماية العاصمة ومدن الساحل والجنوب الليبي.

وكذلك في تأكيد إيمانه بمبادئ الدولة المدنية وخضوعه لمؤسساتها، ووعيه بالأدوار الملقاة على عاتقه في حماية المؤسسات الدستورية، ولملمة صورة المؤسسة العسكرية والأمنية الليبية التي مزقتها صنوف الصراعات والانقلابات والحروب الداخلية على مدى السنوات الخمس الماضية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.