تسريبات السيسي.. قواعد جديدة لفهم السياسة المصرية!
جذور الخلل
بؤس السياسة والإدارة
العامل الإسرائيلي
التسريبات الأخيرة التي بثتها قناة "مكملين" يمكن أن تساعد في تجاوز خلل مزمن لدى محللي السياسات في مقارباتهم للسلوك الرسمي المصري، مردّه إلى تصورات انطباعية يسقطونها على الحكم المصري فيرونه على غير حقيقته، ويسقطون من دوافعه عوامل أساسية بالغة الأهمية، وقد تكون في الدرجة الأولى من حيث الترتيب طبقا للأهمية.
جذور الخلل
بثت قناة "مكملين" تسريبيْن يتعلقان بالدبلوماسية المصرية؛ الأول منهما مطلع هذا الشهر، وكان مكالمة هاتفية بين السيسي ووزير خارجيته سامح شكري دارت حول مشاركة مصر في مؤتمر لوزان، الذي عُقد في أكتوبر/تشرين الأول من الماضي لأجل مناقشة المسألة السورية.
أما التسريب الثاني فبثته القناة ذاتها الجمعة الماضية (10 فبراير/شباط)، وكان مكالمة هاتفية جمعت سامح شكري بإسحق مولخو المحامي الشخصي لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ودارت حول اتفاقية ترسيم الحدود بين مصر والسعودية وما يتصل بها من تسليم جزيرتيْ تيران وصنافير إلى السعودية، وموضوعات أخرى ذات صلة تهم "إسرائيل" كخليج العقبة وحرية حركتها في البحر الأحمر.
الخلل في تصور المحللين للسياسات المصرية مركب من خطأين اثنين: أولهما ناجم عن المبالغة في تقدير الحكم المصري بأجهزته ومؤسساته المتعددة، وثانيهما الوقوعُ في حالة من الاستسلام الذهني والعاطفي حينما تُسقط على حكام مصر صورة تلك الدولة الكبيرة، الممتدة في التاريخ وذات الأثر السياسي والثقافي الهائل في اجتماع العرب الحديث والمعاصر |
الخلل في تصور المحللين للسياسات المصرية مركب من خطأين اثنين: أولهما ناجم عن المبالغة في تقدير الحكم المصري بأجهزته ومؤسساته المتعددة، وثانيهما الوقوعُ في حالة من الاستسلام الذهني والعاطفي حينما تُسقط على حكام مصر صورة تلك الدولة الكبيرة، الممتدة في التاريخ وذات الأثر السياسي والثقافي الهائل في اجتماع العرب الحديث والمعاصر.
الانطلاق من مصر كما كانت -أو كما يحب أن يراها العرب- لفهم سياسات حكامها مغالطة موضوعية وتاريخية تفتقر إلى الحس النقدي والوعي التاريخي المقارن، فحركة التاريخ لا تسمح لشيء أن يبقى على حاله، والمعرفة التاريخية المجردة تفيد بأن القوى العظمى لم تكن بمنأى عن الانحدار وعمليات التجريف الداخلي، وتراجع المكانة على المستوى الخارجي.
بالتأكيد وبالإضافة إلى الأسباب الموضوعية التي تحققت في التاريخ، وتعينت في الواقع، ومنحت مصر تلك المكانة؛ اشتغلت الأنظمة المتعاقبة على حكم مصر -لأسباب متعددة يضيق المقام عن مناقشتها- على اختلاق هوية وطنية تماهي بين مصر وحكامها الذين صاغوا الدولة على صورتهم، وتعظّم صورة أجهزة الحكم، مكرِّسة ذلك التصور المضلِّل الذي يقول "إن البلد الكبير لا يمكن أن يحكمه إلا الكبار".
بعد ثورة 25 يناير، وانكشاف الاجتماع المصري وصعود أحشاء الدولة إلى سطحها، وتصاعد التدافع الداخلي وتداخله؛ تبين حجم التجريف الذي تعرّض له الإنسان المصري في الستين سنة الأخيرة على الأقل، وانكشف حجم الاهتراء الذي يضرب في كل شيء، بما في ذلك أجهزة الدولة التي قدمت عنها السينما والدراما والثقافة المصرية صورة أقرب إلى الأسطورة.
بؤس السياسة والإدارة
يكشف التسريب الأول طريقةً لإدارة الدبلوماسية المصرية تتناقض تماما مع تلك الصورة المصنوعة، وتصدم ذلك الوعي العربي الذي تشكل عن مصر تاريخيا، ورغم الحس المهني الدبلوماسي الذي امتلكه سامح شكري أثناء حديثه مع السيسي؛ فقد تبين أن عملية التجريف قادرة على سحق الكفاءة والاحترام وإعادة تدوير كل شيء ليتماهى معها.
وبصرف النظر عن الموضوع السياسي الذي تضمنه التسريب، أي تفاصيل دعوة مصر لحضور مؤتمر لوزان حول المسألة السورية، وما اتصل به من صراع إيراني سعودي انعكس على الدور المصري في المسألة أو القرار بالمشاركة، فإن الطريقة التي أديرت بها مسألة المشاركة -البالغة الحساسية بالنظر إلى خطورة المسألة السورية، وحرج الموقف المصري من الصراعالإيراني السعودي- كانت ارتجالية وافتقرت إلى المرجعية المؤسسية.
الطريقة التي اتخِذ بها قرارُ مشاركة مصر في مؤتمر لوزان -إضافة إلى موضوعات أخرى تضمنها الاتصال، منها العلاقات المصرية الخليجية ولاسيما السعودية والقطرية منها- لا تعزز أبدا تلك التحليلات التي تقارب الأداء الرسمي المصري من منظور حجم مصر، أو من منظور البدهيات التي تتوفر في إدارات الدول |
لم يكن في ذلك الاتصال حول تلك المسألة الحساسة ما ينم عن إستراتيجية موضوعة سلفا تتسم بالرؤية الواعية، سوى قرارات ارتجالية أملاها عبد الفتاح السيسي بناءً على معطيات لحظية استفادها للتو من وزير خارجيته، بيد أنها قرارات تناقضت مع رؤية الخبير الدبلوماسي وزير الخارجية نفسه!
هذه الطريقة التي اتخِذ بها قرارُ مشاركة مصر في مؤتمر لوزان -إضافة إلى موضوعات أخرى تضمنها الاتصال، منها العلاقات المصرية الخليجية ولاسيما السعودية والقطرية منها- لا تعزز أبدا تلك التحليلات التي تقارب الأداء الرسمي المصري من منظور حجم مصر، أو من منظور البدهيات التي تتوفر في إدارات الدول، فعبد الفتاح السيسي لم يكن يجهل وزير الخارجية الإيراني فحسب، ولكنه -وفي حدود ما أمكن استخلاصه من الاتصال- كان أيضا ارتجاليا وكيديا.
هذا التسريب يعين نسبيّا على فهم وقائع أخرى للدبلوماسية المصرية اتسمت بالحيرة والارتباك، منها تصويت مصر لصالح مشروع القرار الروسي في مجلس الأمن حول سوريا في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وسحب مصر -بما هي عضو غير دائم في مجلس الأمن- مشروع قرار إدانة الاستيطان الإسرائيلي.
صحيح أن اهتراء ما يمكن تسميته بأجهزة الدولة بدأ يتضح منذ ثورة يناير فصاعدا، إذ يمكن الاستشهاد بمئات الأمثلة على ذلك من أداء ضباط المخابرات وجنرالات الجيش، ورجال القضاء ونخب السياسة والثقافة والدين والإعلام، الذين صعدوا إلى السطح وكشفوا مستوى متدنّيا، أو الاستشهاد بالسيسي نفسه، أو بفيلم "العساكر" الذي بثته قناة "الجزيرة" أواخر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي؛ إلا أننا حظينا بفرصة نادرة للوقوف مباشرة على طريقة الإدارة.
العامل الإسرائيلي
في التسريب الثاني لم يكن عبد الفتاح السيسي حاضرا إلا بروحه ومن خلف الستارة، حينما كان وزير خارجيته سامح شكري يتفق مع إسحق مولخو على الصياغات المطلوبة لاتفاقية ترسيم الحدود بين مصر والسعودية، فرغم أن الاتفاقية مصرية سعودية فإن الصياغة المصرية للاتفاقية كانت إسرائيلية بدلالة هذا التسريب.
بداهة من الناحية القانونية؛ لا تشمل اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية أراضي غير مصرية، وفي حال أصبحت جزيرتا تيران وصنافير سعوديتيْن فإن تلك الاتفاقية لن تشمل هاتين الجزيرتين، نظرا لانتفاء السيادة المصرية عنهما ولأن السعودية ليست طرفا في تلك الاتفاقية. بيد أن التسريب كشف نية مدبرة لتوريث السعودية التزامات مصر تجاه "إسرائيل" في هذه الاتفاقية، بما سيؤدي في النتيجة إلى تدويل مضيق تيران!
سياسيّا وأيا كان موضوع التسريب، فإنه يكشف طبيعة العلاقة المصرية الإسرائيلية في ظل حكم السيسي، الذي وإن لم يكن حاضرا في التسريب إلا أن روحه كانت موجودة، إذ بدت "إسرائيل" حاضرة في تفاصيل الانقلاب منذ لحظاته الأولى، حينما تبنته في المحافل الدولية واعتبرت السيسي معجزتها، ومن غير الوارد أبدا أن يتصرف شكري من تلقاء نفسه هنا، وقد كان شديد الاهتزاز أمام السيسي فيما هو دون ذلك، كما في التسريب الأول.
يؤكد هذان التسريبان ضرورة وضع قواعد جديدة لتحليل السياسة المصرية الخارجية، تأخذ بعين الاعتبار الاهتراء الذي وصله جهاز الدولة، كما تأخذ بعين الاعتبار العامل الإسرائيلي بوصفه عاملا موضوعيّا في صياغة هذه السياسة |
وإذا كانت مقتضيات السياسة بين دولتين متجاورتين تنظم علاقتَهما اتفاقيةُ سلام قد تحمل إحداهما على إطلاع الأخرى على بعض قراراتها وإجراءاتها وسياساتها الخارجية، لاسيما إن كنت تعني الأخرى من وجه ما؛ فإن الأمر لا يصل أبدا لأن تكون إحداهما مرجعية للأخرى كما ظهرت "إسرائيل" مرجعية لمصر في اتفاقية ترسيم الحدود المصرية السعودية، وبدا أن مصلحة "إسرائيل" هي الهمّ الأول لدى وزير الخارجية المصري!
يمكن هنا أيضا الاستدلال بأشياء كثيرة للإشارة إلى علاقات خاصة تجمع السيسي بالإسرائيليين، على نحو يتفوق على ما كان عليه الحال في حقبة حسني مبارك، وقد سبق أن تحدثت في مقالتين سابقتين نُشرتا هنا في "الجزيرة نت"، عن ضرورة أخذ العامل الإسرائيلي بعين الاعتبار حين دراسة سياسات مصر الخارجية في ظـل حكم السيسي، بيد أننا أيضا أمام حالة حية يجري فيها تسخير مصر لصالح الإستراتيجية الإسرائيلية.
يؤكد هذان التسريبان ضرورة وضع قواعد جديدة لتحليل السياسة المصرية الخارجية، تأخذ بعين الاعتبار الاهتراء الذي وصله جهاز الدولة، كما تأخذ بعين الاعتبار العامل الإسرائيلي بوصفه عاملا موضوعيّا، أولا بحكم الجوار واتفاقية السلام وأهمية ونفوذ "إسرائيل" إقليميا ودوليا، وثانيا بحكم العلاقة الخاصة التي تعززت من بعد انقلاب عبد الفتاح السيسي.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.