حسابات تسليح "قسد" بين واشنطن وأنقرة

Kurdish fighters from the People's Protection Units (YPG) head a convoy of U.S military vehicles in the town of Darbasiya next to the Turkish border, Syria April 28, 2017. REUTERS/Rodi Said

وقف التسليح أم تعديله؟
رسائل ودلالات التوقيت
إستراتيجية قديمة جديدة

تحولت قضية التسليح الأميركي لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) الكردية إلى قضية خلافية مزمنة بين تركيا والولايات المتحدة؛ فأنقرة -وهي الحليفة التاريخية لواشنطن منذ نهاية الحرب العالمية الثانية– غير مقتنعة بأن الكميات الضخمة للأسلحة بما فيها الثقيلة التي تقدمها واشنطن للقوات الكردية، مخصصةٌ لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).

بل إنها ترى فيها تهديدا لأمنها القومي، وطالما قالت إن هذه القوات هي امتداد لحزب العمال الكردستاني، وإن جزءا من هذا السلاح يصل إليه، ولعل ما يفاقم العلاقات بين البلدين هو أنها تمر بمرحلة مليئة بالمشكلات الخلافية، في ظل غياب للثقة واتهامات متبادلة بانتهاج سياسات تخالف قواعد العلاقة الثابتة بينهما.   

وقف الدعم أم تعديله؟
منذ الاتصال الهاتفي بين الرئيسين الأميركي دونالد ترمب والتركي رجب طيب أردوغان -عقب قمة سوتشي الثلاثية التي جمعت بين أردوغان وفلاديمير بوتين وحسن روحاني– لم يتوقف الجدل الأميركي/التركي بشأن الدعم العسكري الأميركي لكرد سوريا.

تكشف الصور القادمة من المناطق الكردية في شمال شرق سوريا عن استمرار وصول شحنات هذه الأسلحة، وقد دفع الجدل بشأنها الحكومة التركية إلى مطالبة الإدارة الأميركية بوقف هذا الدعم نهائيا، فيما تتعمّد الأخيرة انتهاج سياسة التأرجح إلى حد الغموض؛ ليستمر التوتر بين البلدين، وسط شعور القيادة التركية بأن الإدارة الأميركية تخدعها كما تخدع العالم، بحسب تعبير أنقرة

فأمام تأكيد أنقرة أن ترمب تعهد بوقف هذا الدعم، بل وبنزع السلاح الذي تم تسليمه سابقا لهذه القوات؛ ثمة تصريحات أميركية متضاربة بين مسؤولي البيت الأبيض ووزارة الخارجية ووزارة الدفاع (البنتاغون)، ففي حين يؤكد مسؤولو البيت الأبيض وقف هذا الدعم العسكري للكرد، يتحدث مسؤولو البنتاغون عن تعديل في إستراتيجية تقديمه مع استمراره بشكل محدود بهدف تحقيق الأهداف العسكرية.

أما على الأرض فتكشف الصور القادمة من المناطق الكردية في شمال شرق سوريا عن استمرار وصول شحنات هذه الأسلحة، وقد دفع هذا الجدل بالحكومة التركية إلى مطالبة الإدارة الأميركية بوقف هذا الدعم نهائيا، فيما تتعمّد الأخيرة انتهاج سياسة التأرجح إلى حد الغموض؛ ليستمر التوتر بين البلدين، وسط شعور القيادة التركية بأن الإدارة الأميركية تخدعها كما تخدع العالم، بحسب تعبير بكير بوزداغ نائب رئيس الوزراء التركي.

ويعكس تصريح بوزداغ غيابا واضحا للثقة بين الجانبين، ولعل ما يزيد عدم الثقة التركية بالوعود الأميركية ما تقوله أنقرة من أن واشنطن نكثت بسلسلة وعود قطعتها بهذا الخصوص، ومن ذلك عدم التزام إدارة ترمب بسحب وحدات حماية الشعب الكردية من منبج في ريف حلب الشرقي.                   

في الواقع؛ بين الرغبة التركية في وقف التسليح الأميركي لـ"قسد" وإعادة الدفء إلى العلاقة مع واشنطن، وبين توجه الأخيرة إلى اتباع إستراتيجية جديدة في مرحلة ما بعد داعش؛ ثمة سوء تقدير تركي لفهم طبيعة السياسة الأميركية تجاه "قسد"، إذ من الواضح أن التصريحات الأميركية لا تصب في اتجاه الوقف النهائي لدعم هذه القوات، بقدر ما تبحث عن رؤية جديدة للمرحلة الجديدة.

ويبدو أن التخلي الأميركي عن الكرد في سوريا غير منطقي من وجهة نظر الحسابات الأميركية، خاصة إذا ما عملنا أنهم (أي الكرد) يعدون الحليف الوحيد للإدارة الأميركية في سوريا، وتشكل مناطقهم قيمة إستراتيجية في مواجهة المحور الروسي الإيراني مع النظام السوري.

وعليه؛ فإذا كان من الصعب تصور تخلي الإدارة الأميركية عن دعم "قسد"، فإن الجهد الأميركي سيكون أقرب إلى خيار تعديل إستراتيجيتها القديمة لتلائم تطورات مرحلة ما بعد "داعش"، وربما ممارسة نوع من المناورة السياسية مع تركيا لتحقيق جملة من الأهداف.   

رسائل ودلالات التوقيت
لا يمكن إغفال دلالات التوقيت في مبادرة ترمب بالاتصال مع أردوغان وطرح قضية الدعم الأميركي لـ"قسد"، إذ إن التوقيت يشير إلى جملة من القضايا البالغة الأهمية للإدارة الأميركية، وهي:

الحديث الأميركي عن وقف الدعم العسكري لـ"قسد" جاء بعد انتهاء العمليات الكبرى ضد "داعش"، وهو ما يعني انتفاء الحاجة إلى تقديم الأسلحة الثقيلة لهذه القوات، خاصة أن قضية استمرار دعم هذه القوات بالأسلحة الثقيلة لمواجهة قوات النظام وحلفائه لا تبدو واردة، في ظل التفاهم الضمني بين الجانبين وعدم وجود ما يوحي بمثل هذا الصدام

1- أن الحديث الأميركي عن وقف الدعم العسكري لـ"قسد" جاء بعد انتهاء العمليات الكبرى ضد "داعش"، وهو ما يعني انتفاء الحاجة إلى تقديم الأسلحة الثقيلة لهذه القوات، خاصة أن قضية استمرار دعم هذه القوات بالأسلحة الثقيلة لمواجهة قوات النظام وحلفائه لا تبدو واردة، في ظل التفاهم الضمني بين الجانبين وعدم وجود ما يوحي بمثل هذا الصدام.

2- الحديث الأميركي جاء كنوع من المناورة لمحاولة امتصاص غضب أنقرة الذي عبرت عنه بذهابها بعيدا في التقارب مع موسكو وطهران وتجلى في قمة سوتشي، وفي الحديث الذي أوحى به أردوغان بإمكانية الانفتاح على النظام السوري؛ إذ من شأن هذا المسار خلق صعوبات كبيرة لإستراتيجية واشنطن في سوريا وخاصة للحليف الكردي، ولاسيما بعد تجربة كركوك في شمال العراق.

3- إحساس الإدارة الأميركية بأن تركيا قد تأخذ خطوات جدية للذهاب خارج منظومة الحلف الأطلسي، خاصة بعد عقدها صفقة شراء المنظومة الصاروخية الدفاعية "أس- 400" من روسيا، وهي الدولة العضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو) منذ عام 1952.

4- أن الحديث الأميركي عن وقف دعم "قسد" بالأسلحة بدا وكأنه محاولة لخلق حالة من التوازن بين المكونين العربي والكردي في شمال شرق سوريا، في ظل اتهامات للإدارة الأميركية بدعم الكرد وحدهم والعمل على إقامة دولة كردية لتقسيم سوريا، وهو ما يلقى رفضا كبيرا شعبيا وسياسيا.

وعليه؛ فإن مثل هذا الحديث أقرب إلى رسالة أميركية للمكونات السورية الأخرى بأن واشنطن مستعدة للانفتاح على كل هذه المكونات، ولاسيما في مرحلة التركيز على جهود التسوية والحل السياسي.

وفي الواقع، من الواضح أن واشنطن أرادت بالحديث عن وقفها تقديم الدعم العسكري لـ"قسد" -أو مراجعة سياستها تجاهها- إرسال جملة رسائل في عدة اتجاهات، بدت تركيا وكأنها المعنية الأولى بها في إطار إدارة لعبة التوازنات والتحالفات على الساحة السورية. 

إستراتيجية قديمة جديدة
ربما تستطيع الإدارة الأميركية القول لحلفائها الكرد إن مرحلة دعمكم بالأسلحة الثقيلة انتهت بانتهاء "دولة الخلافة" التي أعلنت قيامها "داعش"، وأن تطورات الأزمة السورية تتطلب اتباع إستراتيجية جديدة.

وهذا لا يعني التخلي عن الكرد في سوريا، خاصة أن واشنطن لا تبدو بصدد الانسحاب من سوريا، بعد أن أقامت العديد من القواعد العسكرية في شمال شرق البلاد وأعلنت وجود قرابة ألفين من جنودها هناك، مع أن الأرقام غير الرسمية تشير إلى وجود ضعف هذا الرقم تقريبا.

النقطة الأساسية في ملف دعم الكرد عسكريا؛ تتعلق برؤية الإدارة الأميركية لأهمية ورقة الحليف الكردي كورقة إستراتيجية في مواجهة المشروعين الروسي والإيراني، إذ إن التخلي عن الكرد يعني أن المشروع الإيراني بات يسيطر على معظم الأراضي السورية، ومثل هذا الأمر له امتدادات إقليمية تتعلق بفتح ممر جغرافي متصل يمتد من طهران إلى بيروت عبر بغداد ودمشق

ولعل النقطة الأساسية هنا تتعلق برؤية الإدارة الأميركية لأهمية ورقة الحليف الكردي كورقة إستراتيجية في مواجهة المشروعين الروسي والإيراني، إذ إن التخلي عن الكرد يعني أن المشروع الإيراني بات يسيطر على معظم الأراضي السورية، ومثل هذا الأمر له امتدادات إقليمية تتعلق بفتح ممر جغرافي متصل يمتد من طهران إلى بيروت عبر بغداد ودمشق.

لكن المنطق الأميركي هذا لا يستقيم مع الحسابات التركية التي تقوم على منع إقامة كيان كردي بسوريا يؤثر على أمنها القومي، ولعلها تعتبر مسار أستانا التفاوضي منفذا لتعطيل المشروع الكردي، خاصة أن عملية إدلب وضعتها أمام إمكانية ضم عفرين لحدود هذه العملية، لقطع طريق المشروع الكردي الساعي للربط الجغرافي للكانتوتات الكردية وصولا للبحر الأبيض، وهو ما قد يعني رسم خريطة جديدة لأنابيب الطاقة في المستقبل.

وعليه؛ فإن المقاربة الأميركية القاضية بمواصلة الدعم للكرد ستبقى موضع جدل بين رؤوس الإدارة الأميركية على شكل تباين في الحسابات أولاً، وبين هذه الإدارة وتركيا من جهة ثانية على شكل فهم للمخاطر التي تؤثر على ثوابت العلاقة بينهما. ويبدو أن حصول تطور نوعي في مسار هذا الجدل مرتبط بتطورات الأزمة السورية نفسها وشكل حل هذه الأزمة، مما سيجعل الخلاف الأميركي/التركي بشأن دعم كرد سوريا مستمرا.

ورغم تأكيد أن "قسد" ستبقى ورقة إستراتيجية مهمة للإدارة الأميركية لجهة كيفية إدارة الأزمة السورية؛ فإن تركيا تمتلك أوراقا مهمة لدفع هذه الإدارة إلى تقديم تنازلات لها في الملف الكردي، ولعلها قد تجد في تنفيذ تهديداتها بإطلاق عملية عسكرية في عفرين ورقة قوية لإجبار واشنطن على إعادة النظر في إستراتيجيتها الكردية، والعمل معاً لتحجيم المشروع الكردي وانكفائه إلى شرق الفرات، بل وفصله عن مشروع حزب العمال الكردستاني.

وهو مسار ربما يدفع الإدارة الأميركية إلى التدقيق في حساباتها، بل والتفكير في أن هذا المسار قد يحقق جملة فوائد ضمن إستراتيجية العلاقة مع تركيا، سواء لجهة كف تقاربها مع موسكو وطهران لصالح العلاقة الإستراتيجية معها، أو حتى وضع العصي في عجلات المشروع الإيراني الذي تقدم كثيرا في تحقيق أهدافه عبر معارك البادية السورية المتصلة جغرافياً بالعراق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.