كردستان العراق.. 2017 عام خسارة الحلم
حكاية الحجل التي لا تنتهي
كابوس ما بعد كركوك
المرحلة الأصعب
سيتذكر الكرد طويلا أن عام 2017 كان أشبه بنكسة لأحلامهم بإقامة دولة كردية مستقلة بعد أن اعتقدوا أن ذلك بات بمتناول اليد على وقع الاستفتاء الذي جرى على الانفصال.
ولعل ما حصل سيذكرهم بمصير جمهورية مهاباد الكردية قبل نحو نصف قرن، تلك الجمهورية التي لم تصمد سوى أحد عشر شهرا قبل أن تدخل قوات الجيش الإيراني إلى عاصمة الجمهورية وتعتقل قادتها وتعدم معظمهم، إنها صورة الأقدار التي تكرر نفسها عميقا في ذاكرة الكرد بحثا عن حلمهم الذي ما ينفك ينطلق من جديد مع كل انتكاسة.
حكاية الحجل التي لا تنتهي
ثمة مقولة معروفة لدى الكرد تقول: "الكل أعداء الحجل والحجل عدو نفسه"، وحسب المقولة، فإن طائر الحجل يساعد على الإيقاع بأبناء جلدته لصالح الأعداء في اللحظات المصيرية، وهكذا أصبح الحجل رمزا للخيانة في التاريخ الكردي القديم والحديث.
ربما تذكر مسعود البارزاني هذه الحكاية طويلا، عندما خسر ما حققه في عقدين من الزمن تقريبا في ليلة واحدة، وعندما تبخر حلمه بتأسيس أول دولة كردية مستقلة تدخل اسمه التاريخ قبل أن يجد نفسه محصورا بزحف الحشد الشعبي والجيش العراقي باتجاه مناطقه وإصدار الحكومة العراقية مذكرة جلب للعديد من قادته.
ثمة مقولة معروفة لدى الكرد تقول: "الكل أعداء الحجل والحجل عدو نفسه"، وحسب المقولة، فإن طائر الحجل يساعد على الإيقاع بأبناء جلدته لصالح الأعداء في اللحظات المصيرية، وهكذا أصبح الحجل رمزا للخيانة في التاريخ الكردي القديم والحديث |
لكن السؤال هنا، لماذا قصة الحجل هذه تبدو سارية في كل زمان ومكان كرديا؟ ولماذا لا تنته الحكاية التي طالما اختبرها الكرد جيدا واكتووا بنارها عبر التاريخ؟
في الواقع عندما اعتقد البارزاني أن الظروف باتت مهيأة لإقامة دولة كردية، وأصر على المضي في إجراء الاستفتاء على الانفصال رغم الرفض العراقي والإقليمي وكل المناشدات الدولية، كان يعتقد أن الوضع داخل الإقليم على ما يرام وأن بريق الحلم بدولة مستقلة كاف لدفع خصومه السياسيين نحو المضي خلفه حتى النهاية، لكن تقديراته لم تكن دقيقة لا اتجاه الداخل ولا اتجاه الخارج، فاللعب مع الكبار وضعته في مآزق مصيري حرج أدى إلى خروجه من الحياة السياسية عمليا.
فقد اكتشف الرجل أن الحليف التركي مستعد للتضحية بالعلاقة معه طالما أن الأمر يتجاوز كردستان العراق إلى تركيا نفسها ومستقبلها بحكم التواجد الكردي هناك، وأن إيران الجارة مستمرة في مشروعها المفتوح تجاه المنطقة إلى ما لا نهاية، وأن الحشد الشعبي عندما تأسس لم يكن هدفه محاربة داعش (تنظيم الدولة الإسلامية) فقط بل السيطرة على كامل العراق.
وأن الحليف الأميركي الذي اعتقد أنه يمثل مشروعه في المنطقة لا يعرف العواطف والأخلاق، وأن الذهاب إلى عقد صفقات نفطية ضخمة مع روسيا كاف لدفع الحليف الأميركي للتخلي عنه في أي لحظة. وهكذا وجد نفسه في لعبة مع الكبار لا يستطيع أن يجاريهم على مذبح المصالح والعلاقات بين الدول، وأن الرهان على التناقضات قد تتحول إلى لعبة قاتلة ومدمرة.
أما في الداخل، فإنه نسي أن سلالة الحجل مستمرة وهي في كل مرحلة تنتج أشخاصها طبقا للظروف والحالة، وأن تعطيل البرلمان، والاستمرار في رئاسة منتهية ولايتها، وإقصاء حركة التغيير، وممارسة القسر على منافسه التاريخي الاتحاد الوطني الكردستاني، وحصر الامتيازات والمناصب بالعائلة والقريبين منها.. كلها لعبة لا تقل خطورة عن اللعب مع الكبار وتناقضاتهم، فالحجل لا يظهر أو لا يعود إلى ممارسة فعل "الخيانة" من لا شيء، وإنما يظهر بفعل المحرض أولا وأخيرا.
ولعل محنة البارزاني لا تكمن في تسلل الأعداء ليلا إلى غرفة الحجل ليوقظوه وليمارس طقسه التاريخي كرديا في كركوك، فهو يعرف أن الحجل المنتشي على وقع ما جرى في كركوك يلقى الدعم والتأييد من محيطه، وأن الصدام معه قد يكون النهاية، وهكذا بدا الحجل كرديا، ليس مجرد طائر يقوم بدور حصان طراودة في المنعطفات واللحظات الحرجة، وإنما فعل وسلوك وأشخاص وفكر.. عصي على الكرد كيفية مداواته حتى الآن.
كابوس ما بعد كركوك
أدخل الانهيار السريع لقوات البشمركة في كركوك أمام زحف الجيش العراقي والحشد الشعبي إقليم كردستان في مرحلة جديدة هي الأصعب له منذ الغزو الأميركي للعراق عام 2003.
يشهد إقليم كردستان العراق ما يشبه ثورة عارمة ضد سلطته السياسية، إذ أظهرت التطورات هشاشة البنيان السياسي في الإقليم من جهة، ومن جهة ثانية عمق الشرخ بين الجماهير التي تئن تحت وطأة الظروف الصعبة وبين سلطة الأحزاب الحاكمة |
ولعل منظر فرار آلاف العائلات الكردية من كركوك شكل عنوانا لهذه المرحلة الجديدة حيث الخوف من بغداد رسخ نفسه من جديد هاجسا دائما في الإقليم بعد أن غاب ذلك مع انهيار حكم صدام حسين، فالعلاقة مع التحالف الشيعي لم تنته فحسب، بل تحولت إلى عداء على وقع الأصوات المطالبة بمحاكمة قادة الاستفتاء بما في ذلك مسعود البارزاني.
وإذا كان ما جرى قد غير من حدود خريطة الإقليم لصالح بغداد وشروطها التي لا تنتهي لبدء حوار مع أربيل، فإن خسائر الإقليم على المستوى الدولي لا تقل أهمية عن خسارتها الإقليمية، فالرهان على الموقف الأميركي لم يكن إلا سرابا؛ حيث اكتفت واشنطن بالقول إنها لن تنحاز إلى أي طرف بعد أن اعتقدت قيادة الإقليم أنها ستقف مع تطلع الكرد إلى دولة مستقلة.
ولعل كل ما سبق وضع الإقليم في كابوس صعب دون أفق، خاصة مع تفاقم الأزمة المعيشية وتفجرها في الشارع وسط مخاوف من تكرار سيناريو كركوك في السليمانية، لاسيما أن بغداد باتت تتحدث صراحة عن شمال العراق وليس إقليم كردستان كما نص دستور عام 2005، وتتحدث عن حكم المحافظات وليس قيادة الإقليم في تعبير ضمني عن إلغاء الإقليم ككيان.
المرحلة الأصعب
على وقع ما جرى في كركوك، يشهد إقليم كردستان العراق ما يشبه ثورة عارمة ضد سلطته السياسية، إذ أظهرت التطورات اللاحقة هشاشة البنيان السياسي في الإقليم من جهة، ومن جهة ثانية عمق الشرخ بين الجماهير التي تئن تحت وطأة الظروف المعيشية الصعبة وبين سلطة الأحزاب الحاكمة التي تفكر بالمحاصصة ومشغولة بمصالحها الحزبية والاقتصادية والعائلية أكثر من أي شيء آخر.
وما الاتهامات المتبادلة بين هذه الأحزاب باحتكار السلطة والثروة والقرار وممارسة الفساد بل والخيانة إلا تعبير عن واقع حال هذه الأحزاب وممارساتها.
يودع إقليم كردستان عام 2017 وكأنه يقف عند مفترق طرق كبير، بين سيناريو الشروع في إصلاح جذري يعيد ترتيب البيت الكردي وسلطته السياسية بعيدا عن المحاصصة الحزبية والعائلية أو الانفتاح على سيناريو الفوضى والتفكك |
بيد أن الشعارات التي رفعت بدت ضد جميع الأحزاب السياسية في الإقليم، حيث تعرضت مقارها ومراكزها للحرق في تعبير عن حالة الغضب الشديد والعارم، وهو ما أخرج التظاهرات من طابع الاحتجاج على الظروف المعيشية الصعبة بسبب التأخر عن سداد الرواتب وتدني الخدمات وتزايد نسب الفقر والبطالة إلى تظاهرات شعبية ضد السلطة السياسية التي لم تعد مبرراتها تقنع الشارع الغاضب من كل شيء.
فالقول إن عدم سداد الرواتب وتدني أسعار النفط والحصار الإقليمي وغيرها من الأسباب باتت تحسب على هذه السلطة ودليل على فشلها، وهي لم تعد كافية لإقناع المواطن الكردي بفساد السلطة خاصة أنه وصل إلى حالة يأس شديد من الحديث عن الإصلاح والوعود المتكررة بتحسين وضعه المعيشي، وعليه فإن ما يجري يحمل معه ملامح ثورة سياسية ضد الطبقة الحاكمة في ظل ظهور أحزاب جديدة تنشد التغيير الجذري.
ودون شك، فإن ما يجري هو أقرب إلى ثورة غضب شاملة هزت البنيان السياسي في الإقليم ولاسيما بعد انسحاب حركة التغيير والجماعة الإسلامية من الحكومة، فيما لجأ الحزبان الكبيران الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني إلى تجاوز خلافاتهما مؤقتا لصالح كيفية مواجهة الغضب الشعبي خوفا أولا من أن خروج الأمور عن السيطرة، وخشية ثانيا من استغلال بغداد التظاهرات الجارية لتكرار سيناريو كركوك في السليمانية.
وهو ما وجد مؤشرا له في تأكيد حيدر العبادي أن حكومته لن تقف مكتوفة الأيدي في حال تم الاعتداء على أي مواطن في الإقليم، حيث فتح ذلك الباب أمام مثل هذا السيناريو.
يودع إقليم كردستان عام 2017 وكأنه يقف عند مفترق طرق كبير، بين سيناريو الشروع في إصلاح جذري يعيد ترتيب البيت الكردي وسلطته السياسية بعيدا عن المحاصصة الحزبية والعائلية أو الانفتاح على سيناريو الفوضى والتفكك والعودة إلى نظام الإدارتين وهو ما يعني انهيار الإقليم ككيان لصالح سيادة تنشدها بغداد.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.